هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    عناصر الانتقالي تقتحم مخبزا خيريا وتختطف موظفا في العاصمة الموقتة عدن    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطط لها «كوندي» رجل المخابرات الأمريكية..وقادها «عبد الله بن الحسن» حين توارى «البدر»..
«الجنادل».. مَلحمة في سبع70ين يوما !
نشر في الجمهورية يوم 08 - 02 - 2012

كانت «القضية اليمنية» حاضرة في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم الذي عقد إثر نكسة حزيران، وكان من قراراته تشكيل لجنة ثلاثية للسلام، مكونة من مندوبين عن «السودان والعراق والمغرب»..تتركز أبرز مهامها في الإشراف على الانسحاب الكامل والعاجل للقوات المصرية، ووقف الإمدادات المادية والعسكرية من السعودية للملكيين، وإجراء استفتاء شعبي عام يقرر فيه اليمنيون النظام الذي يرتضونه، وتُشكل على إثره حكومة ذات قاعدة عريضة من جميع الأطراف..
النفس الطويل
لم يكن للقيادة السياسية رأي في ذلك الاتفاق، مما احدث شرخاً في العلاقات «اليمنية- المصرية»، وبمجرد وصول تلك اللجنة في 3 أكتوبر 67م رفض المشير السلال مقابلتها، فيما كانت ردت الفعل الشعبية غاضبة جداً، خرجت الجماهير بمظاهرة من المستشفى الجمهوري إلى مقر القيادة المصرية، وبمجرد وصولها تعرضت لإطلاق النار وسقط مجموعة من الشهداء، ثم تطور الوضع إلى اشتباكات بين قوات مصرية وقوات من الجيش اليمني، قتل وجرح فيها كثيرون..فيما عادات «اللجنة الثلاثية» أدراجها خائبة مكتفية بالمراقبة عن بُعد..بل وصل من استهزاء رئيسها «محمد محجوب» أن خاطب محسن العيني بالقول «هل أنا رئيس وزراء السودان أم اليمن..وإني لا أتساءل ما هي هذه اليمن وماذا تساوي..؟!!»
«الاعتماد على الذات فضيلة» الشعور ذاته جسده اليمنيون من اللحظات الأولى لانسحاب القوات المصرية ومعها كل أسلحتها ومعداتها، وكان لزاماً على الجميع تحمل المسؤولية؛ لأن استعدادات الأعداء كانت مدروسة مسبقاً، وقد بدأت منذ أخذت مصر سياسة «النفس الطويل» كخطة عسكرية لقواتها في اليمن، حين اكتفت بحماية مثلث «صنعاء- تعز-الحديدة» فقط..إلا أن هذه الخطة حسب توصيف علي محمد هاشم «نائب رئيس هيئة الأركان إبان الحصار» أعطت المرتزقة فرصة كبيرة لتركيز وتكثيف أنشطتهم في صفوف القبائل، بل ذهب أبعد من ذلك واتهم القيادة المصرية بأنها لم تترك الجيش اليمني بعدده وأسلحته ونظامه؛ لأنها لم تكن لها نية جادة في بنائه، وأن أبناء هذا الشعب يعرفون هذه الحقيقة جيداً.
انشقاق خطير
من جهته العميد حمود ناجي «قائد سلاح المظلات حينها» أرجع التمهيدات الأولى للحصار إلى أغسطس من العام67م، حيث قام ملكيون بقطع طريق «الحديدة» وبسبب ذلك وبأوامر من السلال تم تجميع قوات عسكرية وشعبية..وبعد استعادة المواقع تم أسر قائد الملكيين «أحمد السياغي» واقتيد إلى صنعاء وحوكم وأعدم، بيد أن تلك القوات ظلت هناك حتى بداية حصار صنعاء الفعلي.
قامت «القوة الثالثة» بحركة «5 نوفمبر» فاعتبر البعض أنها جاءت تنفيذاً لقرارات وتوصيات مؤتمر الخرطوم، واجتمع لمواجهة ذلك قادة سياسيون وعسكريون وبعض قادة التكتلات الحزبية..سُر الملكيون لتلك التباينات، وفسروه ب «الانشقاق الخطير» وبالفعل أجادوا استغلاله، ساعدهم في تكريس الاستفادة أكثر..انسحاب القوات المصرية، وضعف الجيش الجمهوري وعدم إمداده بالسلاح والذخائر والمؤن..ومغادرة الخبراء السوفيت صنعاء، حيث استغلت وسائل الإعلام تلك الصورة، ومن خلالها شُن هجوماً عنيفاً على الإتحاد السوفيتي لغرض عزل اليمن الجمهوري أكثر.
اجتياح العاصمة صنعاء بات خيار الحسم الوحيد لدى الملكيين..عقدوا مؤتمر «الخزائن» وبدأت جحافلهم - بالفعل- قفزاتها من أقصى الشمال إلى أسوار صنعاء، وبالمال والسلاح والترغيب والتخويف استطاعوا الدخول إلى مناطق عدة..في البدء سقطت صعدة، وحوصرت حجة، كما تم الاستحواذ على المعسكرات والمواقع التي انسحب منها المصريون، ورويداً رويداً بدأ الضغط يقترب أكثر فأكثر، وكانت بعض السلاسل الجبلية المحيطة بصنعاء نقطة التمركز الأولى لحصار مُطبق من جميع الاتجاهات.
كراتين المانجو
كانت التجمعات الجمهورية مُفككة الأوصال..وما إن اقترب الخطر..حتى أخذت تتقارب وتتجانس وتتبلور حول شعار «الجمهورية أو الموت»..ولم يترك للحوار والثرثرة السياسية مجال..كان الأقوى يفرض نفسه.. والضعيف يقدر الموقف ويحتفظ بأحقاده حتى يصبح قوياً..وعلى الفور فتحت المخازن، ووزعت الذخائر على الوحدات، وبدأ التدريب الميداني في ساحات المدارس والمعسكرات..كما تحركت النخب السياسية تؤكد الرغبة في السلام وتطلب العون..وتُشهد العالم على عدالة القضية..وقد أورد محسن العيني أن جمال عبد الناصر قال له: «لا تشددوا فنحن في ظروف عصيبة..وكل شيء يتوقف على شعبكم وقواتكم المسلحة..» وقد وجه عبد الناصر أثناء الحصار بإرسال أكثر من مليون طلقة رصاص بكراتين المانجو حتى لا يلام على نقضه اتفاقية الخرطوم.. كما لا ننسى دور الأشقاء في الجزائر..حيث قدِم الشريف بلقاسم إلى صنعاء والحصار على أوجه، وخطب في الجماهير بميدان التحرير وسلم شيكا بمبلغ مليون دولار، وكذا سوريا..رغم موقفها العسكري الصعب أرسلت عشرة طيارين..والاتحاد السوفيتي قدم العتاد والوقود والغذاء والخبراء والطائرات..فيما الصين أرسلت مساعدات مادية وعسكرية، وظلت سفارتها وسفارة سوريا صامدتين داخل العاصمة طول فترة الحصار..
المغامرون..
لم يكن للبدر أي تأثير بين صفوف الملكيين..فيما عبدالله بن الحسن «صقر العروبة» هكذا كانوا يلقبونه كان المحرك الفعلي لعملية الحصار، يليه محمد بن الحسين، وقد ادعى هذا الأخير كما أفاد المؤرخ سلطان ناجي في كتابه «التاريخ العسكري لليمن» أنه استطاع تجميع غالبية القوات المهاجمة، حيث تم حشد حوالي «70.000» من رجال القبائل..و«10.000» من الجنود النظاميين الذين تلقوا تدريبات عسكرية مكثفة على مختلف فنون القتال والأسلحة، وعلى أساليب حرب العصابات «الحرب الخاطفة»، إلى جانب وحدات عسكرية قيادية وفنية يتشكل قوامها من المرتزقة الأجانب الذين تجاوز عددهم «2000» شخص، تجمعوا من «بلجيكا وفرنسا وأمريكا وإيران وإسرائيل وجنوب أفريقيا».
خطة الهجوم على صنعاء «الجنادل»..وضعها عدد من كبار القادة العسكريين المرتزقة وعلى رأسهم الجنرال الأمريكي «كوندي» الذي كان مسئولاً في المخابرات الأمريكية في الجزيرة العربية، والجنرال «بوب دينار»، والخبير البريطاني الجنرال «ديفيد سمايلي»، الذي عمل قائداً عاماً للجيش في سلطنة عمان..الذي أَلَّف كتاب «مهمة خاصة في الجزيرة العربية»، و «الميجر بنكلي» و «بيلي ماكلين» و «برنس أوف كنده» الذي أطلق على نفسه «عبد الرحمن كنده»، وغيرهم..وكان يطلق عليهم «المغامرون في حرب اليمن»، فيما تكفلت العربية السعودية بدفع «300» مليون دولار..وذكرت وثائق أن السلطات البريطانية تكفلت بتسليح حوالي«20,000» من خولان وحدها، وبعد شهر من الحصار أذاع راديو لندن أن الملكيين زودوا بأكبر صفقة سلاح قدرت بأربعمائة مليون جنيه إسترليني..
حرب سريعة
يتلخص هدف «الجنادل» في السيطرة على صنعاء من خلال حرب سريعة وخاطفة لا تتعدى الأيام الأربعة، تُمهد بقطع طرق الإمداد والتموين، والانقضاض السريع على المواقع العسكرية، والضرب الشديد بالمدفعية بعيدة المدى علي المعسكرات والمطارات والمؤسسات الاقتصادية والإنتاجية والخدمية، والضرب العشوائي لنشر الذعر بين الأهالي., وتضمنت الخطة الهجوم على العاصمة من أربع جهات، محور شرقي بقيادة قاسم منصر، وغربي بقيادة احمد بن الحسين، وشمالي بقيادة علي بن إبراهيم، أما المحور الجنوبي بقيادة ناجي علي الغادر وقاسم سقل - كانت نهايته بلغم عند سفوح «نقم»- ومع كل محور عدد من الخبراء «المرتزقة» للتعامل مع الأسلحة المعقدة، والتي يعجز الملكيون عن استخدامها.
دفاع ضيق
الإستراتيجية الدفاعية للقوات الجمهورية كانت قائمة على مبدأ «الدفاع الضيق»..اللواء العاشر أحدث ألوية اليمن يدافع باستماتة على الباب الغربي لصنعاء، وعلى الباب الشرقي لعب نفس الدور ألوية العروبة والوحدة، بينما كتائب المظلات والصاعقة تعمل على كل الجهات كقوة ذات فعالية خاصة سريعة وعاجلة، قادة تلك المواقع يملكون زمام المبادرة وحرية التصرف، وعلاقاتهم مع القيادات العليا علاقة تموينية فحسب، أو لتلقي المعلومات والتنسيق مع العمليات، التعاون بين كافة المواقع كان جيداً..ما إن يتعرض أحدهم للضغط والمباغتة تقوم المواقع المجاورة بتوجيه نيرانها صوب العدو وبسرعة.
ومُشكلة هذه القوات حسب توصيف الصحفي المصري مكرم محمد أحمد في كتابه «الثورة جنوب الجزيرة» في أن أعدادها وإن مكنها من حماية أبواب المدينة، إلا أنها تُقصر عن إمكانية القيام بدور هجومي لدحر المتسللين في معركة حاسمة، وهذا حسب مراقبين كُثر «أمر بديهي» اشترطته محدودية الإمكانات المادية، يضاف إليه أن تلك القوات التي لا يزيد عدد أفرادها عن «4000» مقاتل لم تكن ذات وحدات منتظمة ومتكاملة، مما أدى إلى اختلال موازين القوى لصالح القوات المعادية بنسبة «7-1».
تم أول هجوم ملكي بالتزامن مع «مغادرة آخر جندي مصري ميناء الحديدة..وطرد آخر جندي بريطاني من عدن..!!»
يوميات الصمود..!
كان الهجوم الأول على جبل «حروة» ذي الأهمية الإستراتيجية، حيث سارعت قوات شعبية بقيادة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لاحتلاله ومهاجمة القوات الملكية المتمركزة في «نقيل يسلح» بمساعدة مجاميع من قوات الصاعقة، إلا أن هذه الأخيرة انسحبت إلى منطقة «معبر»، وهكذا تحقق للملكيين في 24/11/67م احتلال الجبل وطرد القوات القبلية المتمركزة فيه، ومن ثم قطع طريق «صنعاء- تعز»، وقد اتهم الشيخ عبد الله في مذكراته القبائل المحيطة بذلك الطريق بأنهم خذلوا الجمهورية، وتنكروا لجميع الاتفاقيات المبرمة سلفاً.
وقد مثل سقوط ذلك الجبل نكسة أولى كونه قابعا على البوابة الرئيسية التي تربط العاصمة بثلاث طرق رئيسية «سنحان، خولان، بني بهلول»، وقد أدى ذلك إلى تراجع القوات الجمهورية مما مكن الملكيين من التقدم دون مقاومة إلى مشارف العاصمة، وتمركزت في «دار الحيد ودار سلم وحزيز وأرتل»، وسهل على مدفعيتها ضرب الكثير من المواقع داخل صنعاء ليلاً ونهاراً..في اليوم التالي أعطيت أوامر إلى القوات المتواجدة في طريق الحديدة بسرعة انسحابها كي لا ينفرد بها الملكيون ويحاصرونها، والأهم من ذلك تعزيز قوى الدفاع عن العاصمة..
ميزات تكتيكية
في «28» نوفمبر- أول أيام الحصار الفعلي- بدأ هجوم ملكي واسع النطاق..فارضاً سيطرته على كل السلاسل الجبلية المُحيطة بالعاصمة، مما أكسب الملكيين كثيرا من الميزات التكتيكية، حيث تمكنوا من نصب مدافع بعيدة المدى على قمم تلك الجبال.. ليبدأوا مع مطلع شهر ديسمبر قصف الإذاعة والقصر الجمهوري، وثكنات العرضي والكهرباء من «بيت بوس»، وجبل «عيبان»، فيما تولت المدفعية المنصوبة على جبل «الطويل» قصف الروضة، ومصنع الغزل والنسيج، والأحياء الشمالية للمدينة، ومدرسة المظلات، ومطار «الرحبة» لتستخدم الطائرات الجمهورية مهبطاً صغيراً جنوب العاصمة «السبعين» حالياً.
حدث حين ذاك عديد مواجهات أعادت الثقة بالنفس لدى جموع المدافعين، في البدء رُدع هجوم قاسم منصر- أحد أبرز قادة الملكيين- وطردت جحافله من «الحافة وظهر حمير وقرية الدجاج وتبة المطلاع»، وكان ضمن المشاركين في المعركة عبدالله دارس احتل «التبة» ورابط فيها وسميت باسمه، كما قام ملكيون باحتلال جبل «النهدين»..لم يمض يوم على ذلك حتى جُمعت مجاميع من «حاشد ونهم» وحرروا الجبل..إلا أن الملكيين عادوا وسيطروا عليه مرة أخرى، فكانت قوات الصاعقة والمظلات لهم بالمرصاد..
رحلة الشتاء
في ظل تلك المتغيرات العاصفة كان لابد من تماسك الصف الجمهوري أكثر، واتخاذ مواقف أكثر مرونة خاصة بعد هروب بعض «الضباط الكبار» وقيامهم ب «رحلة الشتاء» إلى القاهرة وبيروت وأسمرة...في البدء عُين النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب ذو ال «27» ربيعاً رئيساً لهيئة الأركان في العاشر من ديسمبر، تحت ضغط وإلحاح كبيرين من زملائه الضباط «ذوي الرتب الصغيرة»، كما استبدلت حكومة محسن العيني «المُستقيلة» بحكومة الفريق حسن العمري في «21» من نفس الشهر، واستبدل هذا الأخير مكان النعمان في عضوية المجلس الجمهوري، إلى جانب استمراره في مهامه «قائداً أعلى للجيش».
بدأت الحكومة الجديدة الإمساك بزمام الأمور..وطلب المجلس الجمهوري المساعدة المباشرة من الإتحاد السوفيتي وأرسل لذات الغرض وزير الخارجية الدكتور حسن مكي، لبت «موسكو» الطلب وأرسلت على الفور الأسلحة والطائرات..ومما يجدر ذكره أن السوفيت ساهموا قبل الحصار بمد صنعاء بجسر جوي بمعدل «18» طائرة يومياً ملأى بالأسلحة والذخائر، وكان لها عظيم الأثر في صد الهجوم الملكي منذ لحظاته الأولى.
العمري
سبق لعمر الجاوي وهو من أبطال تلك الملحمة المرموقين أن ذكر في كتاب له أن قادة كبار هربوا..وهذا باعتقاد كثيرين أمر إيجابي كونهم تركوا المجال لضباط شباب أثبتوا أنهم الأجدر..وكانوا إلى جانب طلاب الكلية «الحربية والشرطة» طليعة وطنية وثمرات ايجابية للثورة الأم..أثرت كثيراً في مسار الأحداث، كما اتهم الجاوي الفريق العمري «بأن الظروف وضعته في جو الحصار عُنوة..»، وهذا باعتقاد آخرين «تجني» لأن الرجل عاد قبل الحصار ولعب دوراً هاماً في قيادة المعارك، بغض النظر عن أخطاء غير مقصودة.
«..في ساحة المعركة - كان العمري يقف جندياً في الساحة- وفي مرات كثيرة اشتبك الرجل وحرسه في المعارك إلى جوار الجنود والضباط..كان ذلك يسبب الكثير من المشاكل للجيش، فرصاصة طائشة قد تصيبه في هذه الفترة الحرجة..فيكسب الملكيون قيمة واسعة، وقد يخلع ذلك تأثيره على سكان المدينة..تلك كانت رؤية الجيش، بينما كان العمري يُصر أن يتقدم الجنود وهم يحتلون جبل عيبان..ولكن العناد الذي هو سمة بارزة فيه كان يُمكنه من كسب النقاش في النهاية..»
انتصارات صغيرة
ما بين القوسين - في الفقرة السابقة- للصحفي المصري مكرم محمد أحمد، والمعركة التي عناها كانت نهار يوم «17» للحصار..في «المساجد» القرية المنبسطة على طريق الحديدة حل العمري «القائد» كما حل أكثر من مرة فيما بعد ضيفاً غير مرحب به لدى الملكيين، بادروه وقواته بضرب كثيف، والرجل في مكانه يشحذ الهمم لبلوغ قمة «عيبان»، سارع بالرد عليهم من إحدى الدبابات، فيما جنود آخرون سارعوا لاجتياح الجبل من الغرب، وحين بلغوا غايتهم..تأخر الدعم فأمر العمري الجميع بالانسحاب..تلك إشكالية كانت تلاحق الرجل طول فترة الحصار، ما أن يُتم نصرا أو يقود هجوما..لا يكمله «بل يركن إلى آخرين»، ونحن هنا «لا نتهم» بل نتفهم أنه ينتقل إلى محاور أخرى..ولا يعود منها إلا وقد رجع جميع من اعتمد عليهم «مُسبقاً ولاحقاً».
يضيف مكرم «كان الثوار يحققون كل يوم انتصاراً صغيراً..يركبون الجبال المحيطة جبلا إثر جبل..ويعودون في المساء بمجموعة من الأسلحة..يعرضونها في الميدان كلها تحمل شعار الصداقة الأمريكية..وفي بعض الأحيان كانوا يعودون ببعض الرؤوس المجزورة من العنق ليدقوها على باب اليمن..».
إغارة نوعية
في ذات اليوم الذي أعلن فيه تشكيل الحكومة حشدت قوات العمالة كل قواتها في المحور الجنوبي والشرقي لغرض الاستيلاء على جبل «نُقم» مفتاح صنعاء المليء بالأسلحة والعتاد، لتدور في رحاه معارك طاحنة استمرت لأكثر من أربع ساعات..استبسال مستميت فرضه المدافعون على الأرض، وحين دخلت المواجهة إلى عمق المواقع حصل قتال بالسلاح الأبيض..تقهقرت القوات الملكية المسنودة بقوى قبلية عدة، وتكبدوا خسائر فادحة بالأرواح، بل تركوا قتلاهم وهربوا.
تتوالى الأحداث تباعاً لتقوم بعد تلك الواقعة بثلاثة أيام مجموعتان من أفراد لواء الوحدة بعملية إغارة نوعية على القوات الملكية المتمركزة بجبل «الطويل»، لتدمير المدافع التي كانت تصلي شوارع صنعاء بحممها الغادرة..تمكنت المجموعتان من الوصول إلى الهدف بعد معركة بطولية غير متكافئة..استشهد جميع المقاتلين بعد أن فرضوا سيطرتهم على الموقع لفترة محدودة، «عامل الإشارة» كان يتكلم مع غرفة العمليات «الأفراد قتلوا لم أبق إلا أنا وحيداً»..واستشهد في الأخير..
اللجنة الثلاثية
مع أواخر شهر ديسمبر كانت صنعاء تعيش أقسى لحظات الحصار، تملك اليأس من تبقى من قادة الجيش اجتمعوا في منزل العمري مع البقية الباقية من الوزراء وممثلي المقاومة الشعبية والمشايخ، لبحث عودة اللجنة الثلاثية - المطرودة سلفاً- تحت مبررات أن الملكيين يقتربون من «عَصِرْ» والظروف العسكرية لا تُساعدُ على هزيمتهم، فيما برقيات المسئولين في الحديدة تؤكد نفاد الذخيرة والإمدادات والوقود وأن سلاح الطيران لن يتحرك من الغد..قوبل الاقتراح بالرفض من القيادات الشابة والمقاومة الشعبية..جزموا وهم المسيطرون عسكرياً أنّ اللجنة والملكيين لن يستطيعوا فرض أي شيء.
في اليوم التالي كانت جحافل الملكيين بقيادة محمد بن الحسين والغادر تُحكم سيطرتها على مواقع مهمة في جبل «عَصِرْ» في محاولة لاجتياح العاصمة وحسم المعركة نهائياً..دارت معارك ضارية لأكثر من «48» ساعة، قتلى وجرحى كُثر سقطوا من الجانبين، العمري يهدد أن «شنطته» جاهزة للسفر إذا لم يُصد الهجوم..ولولا التدخل والنجدة السريعة من قوات الصاعقة والمقاومة والجيش الشعبي وسلاح الطيران لكانت صنعاء سقطت فعلاً.
بوابة يسلح
طوال الفترة السابقة كانت صنعاء تدافع عن أبواب المدينة نفسها..انتهى رمضان الفرصة السانحة التي تجاوزت الملكيين مع دخول عام ميلادي جديد..الشتاء مازال ساخناً، بل دخل مرحلته الأسخن..وفي يناير 68م قام الجمهوريون بثلاث محاولات كبيرة لفك الطرق الرئيسية، الأولى هي الأشهر والأشد ضراوة، اشتركت فيها كل القوات «جيش، مقاومة شعبية، رجال قبليون..»، شَهِد «نقيل يسلح» أغلب فصولها الدامية..اختلط الحابل بالنابل، وتبادل المتحاربون المواقع أكثر من مرة، فيما قدرت الإصابات من الجانبين بحوالي «3000» مابين قتيل وجريح.
تجسدت أبهى لحظات الإقدام بقيام قوات جمهورية باقتحام دفاعات العدو من جهة الجنوب..لم تكد تصل إلى رأس «النقيل»، حتى جاءت الأوامر مُلحة بسرعة الانسحاب..مجموعة قليلة بقيت وفضلت «الموت أو الأسر» على التراجع..واجهوا مصيرهم المحتوم برباطة جأش عالية، طوقهم العدو من جميع الاتجاهات مُركزا قصفه على دبابة وحيدة..رفض قائدها «علي الشيباني» الترجل وتركها غنيمة..بل رمى بنفسه وبها في جرف سحيق..فيما الضابط «محمد السامعي» ممسكاً بزمام رشاش صغير يدك متارس الأعداء..لم تمنعه الإصابات المتوالية على جسده من التوقف، وحين رآه زملاؤه مزهواً برتبته العسكرية..طالبوه بنزعها حتى لا يُركز عليه أكثر..قال لهم: «بذلت الجهد من أجل الحصول عليها وأريد أن أستشهد بها..»، فيما البقية الباقية دخلوا مذلة الأسر من بوابة «يسلح» العصية.
من الجو..
لم يكد ينتهي يناير حتى بدأ مركز الجمهوريين يتقوى من الجو هذه المرة..ثلاثون طائرة روسية وصلت للتو..فيما أوكلت مهمة قيادتها لطيارين يمنيين تخرجوا حديثاُ، كما لا ننسى طيارين «سوريين وروس» شاركوا منذ الوهلة الأولى..كثفت القوات الجوية من هجومها..وفي «جُحانة» حاضرة خولان- كان ثمة تجمع هائل لحشود قبلية مناصرة للملكيين، أحد الطيارين المُستجدين رمقهم من الجو..أبلغ القيادة ليتم قصفهم على الفور، قُتل وانسحب كثيرون..كانت تلك الانتكاسة «ضربة قاضية» أنهكت العدو وقللت من معنوياته كثيراً..كما ساهمت الإمدادات الواصلة عن طريق الجو من الحديدة في التخفيف من وطأة الحصار..وهنا يجزم الباحث سلطان ناجي بأن «الطيران لعب الدور الأكبر في حسم المعركة..».
لا يعنينا هنا تباين القراءات؛ لأن النصر قد تحقق فعلا..وكان بحق «الأروع» في مسارات تاريخنا النضالي، وكل معارك الحصار كانت شهيرة ومجيدة، وذات نمطين «دفاعي- هجومي»، كانوا في بادئ الأمر يلزمون أماكنهم الدفاعية، ثم تمكنوا من الهجوم المباغت والحصول على سلاح وأسرى، والعودة إلى المواقع السابقة، وأخيراً ركزوا على السيطرة التامة وحرمان الملكيين من استمرار احتلال المواقع المرتفعة المسيطرة على الطرق، وإن كانت قراءتي كباحث مُستجد أن معركة «يسلح» هي الأشهر، إلا أن كثيرين يخالفوني الرأي استناداً لمعايير أخرى..وهنا يعتبر الباحث عبد العزيز قائد معركة «عيبان» الأخيرة - تجاوزاً- أشد من معركة «نقم وبراش وعصر ويسلح..» لعدة أمور أهمها أنها الحد الفاصل في معارك الحصار، تم من خلالها فتح طريق «الحديدة- صنعاء»، إضافة إلى حجم القوات المهاجمة وتشكيلاتها المختلفة.
حشود النصر
ما إن حَل شباط - كفاصل مرحب به- حتى بدأت بوادر الحسم تلوح في الأفق..ومن«3 إلى8» من ذات الشهر كانت معارك «عيبان» الأخيرة تحجز صفحاتها بزهو في كتب التاريخ..كطرفي كماشة وتحت ستار كثيف من الضباب وزخات خفيفة من المطر أطبقت «حشود النصر» على القوات الملكية المتمركزة هناك..قوات مُسلحة ومقاومة شعبية خرجت من صنعاء بقيادة عبد الرقيب عبد الوهاب، ومن الحديدة خرجت قوات أخرى مدعومة بقوات شعبية هائلة «خمسة آلاف مقاتل» بقيادة أحمد عبد ربه العوضي، مسنودة بسلاح الطيران.
كغير العادة كان صباح «8» فبراير زاهياً مُشرقاً..تحطمت متاريس الأعداء..وفروا تاركين مئات القتلى..وعشرات من مدافع أمريكية حديثة ذات عيار ثقيل.. وفي «متنة» التحمت قوتا النصر..شاع الخبر فتوافدت الجماهير من صنعاء مُحتفية بذلك الانفراج، اعتلى العمري إحدى الدبابات مقدماً العواضي «بطلاً للنصر»، مُنهياً خلاف استمر لشهور بين الرجلين.
يقول العميد حمود ناجي قائد سلاح المظلات «..أُمرت بالتحرك إلى مرتفعات «عيبان»، بعد أن مهدت المدفعية والدبابات والطيران بالضرب على سفوح ذات الجبل لاحتلاله..فيما القوات المتحركة من الحديدة واصلت مسيرها..وقصفت المواقع في «بيت بوس، وأرتل، وحدة، وظفار»..دخلوا صنعاء..فيما تمركزت قواتنا على جبل «عيبان» والمناطق التي تمت السيطرة عليها مُسبقاً..».
حصار الجمهورية..
لحظة تاريخية صعبة وفاصلة..كانت تتويجا بارزا لانتصارات «الثورة اليمنية»..وامتدادا طبيعيا لتأكيد هويتنا الوطنية..تحقق فيها إمكانية الصمود والمقاومة بكوادر وطنية محدودة..بعيداً عن «العقدة اليزنية»..«المعركة» لم تكن معركة الجيش وحده..بل معركة الشعب كُله..في مشهد تلاحمي لا يتكرر..وقف الطالب إلى جانب الفلاح، والشيخ إلى جانب العامل..وانبثقت من روح تلك المقاومة نفوس جبارة قهرت الحصار من الداخل..وتغلبت عليه حتى لحظات الحسم..
لم تكن «ملحمة السبعين يوماً» معارك يومية فحسب، بل أكثر من ذلك..كانت سفراً متكاملاً من قصص البطولة النادرة..تجسدت فيها دروس نضالية عظيمة ومآثر خالدة..ذهب الجميع لمقارعة السماء..أثبتوا ب «أفواه البنادق» إن «صنعاء 68م غير صنعاء 48م»..فيما شعار«الجمهورية أو الموت» يأتي هادراً من خلف دخان الرصاص ودوي المدافع..انتكست تحالفات «الرجعيين والمرتزقة »..بدأ حصار الجمهورية يشملهم هذه المرة..أعادوا النظر في واقعهم المأزوم..وغادروا..
قدمت تلك الملحمة أهداف الثورة في قالبها الأرقى، ومضمونها الأشمل، ومقصدها الحضاري الخلاق، وإعادة إعلام الناس «بتفاصيلها الغائبة» بقراءة مُختلفة..يُشكل تجذيراً وتنويراً (للثورة..) وتأصيلاً للوعي لدى الأجيال..حتى لا تُصادر تلك «الروح الوثابة» من الذاكرة والوجدان..
كيف حافظ «أبطال الحصار» على الرأي العام المحلي..وصنعاء واقعياً على وشك السقوط..؟!»
«هُنا صنعاء..» صوت أوحد !
الإعلام شاهد الحقيقية الأبرز..وفي واقعنا - حيث الإعلام مُسيطر- أحداث تؤكد ذلك..هو «نصف المعركة» إن لم يكن كُلها..ومُرجح بارز لكفة النصر..و«القوة» التي أعنيها -هُنا- ليست غلبة هذه الوسيلة أو تلك..بل «الحقيقة والإقناع»..وخير دليل على ذلك «حصار صنعاء»..صُيرت كبريات وسائل الإعلام كأبواق مستأجرة تؤدي دورها الفتاك في التوطئة له..ب «حرب نفسية» مُلتهبة أثرت في القريب قبل البعيد..حينها استطاعت «إذاعة صنعاء» وبإمكانات بسيطة أن تقاوم وبشدة..
مجاميع متطرفة
استخدم الملكيون «الحرب النفسية» بهدف إضعاف روح المقاومة عند الثوار، بدليل إمهال الناطق باسم قواتهم سكان العاصمة «40» ساعة للخروج منها ما لم سيتعرضون للإبادة..فيما تصريحات أحمد الشامي تُجلجل من لندن بأن الملكيين سيدخلون صنعاء خلال ثلاثة أيام وبدون مقاومة..ساعدهم في هذا التماهي وسائل إعلام «غربية وعربية» كانت تذيع أخبار الزحف الملكي المدعوم أصلاً من دول كبرى أولاً فأولا، بل وتتوقع سقوط النظام الجمهوري في أيام, وقد شنت تلك الوسائل الإعلامية حملاتها المسعورة تلك..على اعتبار أن ما يحدث في اليمن «انقلاب عسكري»..كان قد تزعمه السلال، وتقوده مجاميع متطرفة مدعومة من عبد الناصر والمنظومة الشيوعية، وأن هذا «الانقلاب» يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن..
الإعلام الصديق
والمفارقة العجيبة أن الإعلام العربي والمصري بالذات كان يُكرر مثل هذه الترهات..واعتبر البعض أن التوطئة للحصار بدأت أصلاً من هذا الإعلام «الصديق»..بدليل أن القوات المصرية لم تكد تتجمع خارج العاصمة استعداداً للمغادرة..إلا وأخبار هجوم الملكيين في الصدارة..بما يُشبه الإذن المسبق بأن الطريق أصبحت ممهدة لأي هجوم..!
كما أن القائمين على تلك الوسائل لم يكلفوا أنفسهم التواصل مع معنيين في الداخل اليمني، وإن تحقق لهم ذلك مصادفة يحورون ما يصلهم بما يخدم «العدو»..ويحضرني هنا استشهاد لمسئول يمني رفيع، طلب من قيادي مصري مساعدتهم في توفير مظلات عسكرية من نوع «باراشوت» لغرض استخدامها في إيصال مواد عسكرية وغذائية إلى «حجة وبرط» المحاصرتين منذ شهور، وفي صباح اليوم التالي كانت الصحف المصرية حافلة بمانشتات عريضة عن «صنعاء المحاصرة التي لا تصلها المؤن إلا عبر المظلات..!!» وأن «الملكيين يدقون أبوابها..».
والأغرب أن يتبجح أحد القائمين على تلك الصحف بأن الأمر لا يعنيهم..وأن الجمهورية كانت موجودة في اليمن عندما كانت قواتهم هناك..!!، وهنا يستغرب كثير من الدارسين من هذا الانجرار غير المدروس..الذي سلكه هؤلاء «القلة» الذين تنكروا لدماء شهداء مصر البطولة في جبال وربوع اليمن..
رغبة الشعب!!
والأدهى والأمر من ذلك تأثر بعض اليمنيين بهذه الدعاية أو تلك..وقد صدرت بيانات من سياسيين مرموقين في بيروت طلبوا من إخوانهم الصامدين في صنعاء تسليمها للملكيين، وأن يأتي تبريرهم..«وذلك نزولاً عند رغبة الشعب الذي يرفض النظام الجمهوري»..وكان تصريح قيادي بارز لبعض الصحف البيروتية الأقسى..ومما قاله بنبرة يأسه «الملكيون على أبواب صنعاء والشيوعيون يدافعون عنها..»، مما جعل القيادة السياسية -هنا- تُصدر قراراً بسحب الجنسية عنه، وتجريده من منصبه في عضوية المجلس الجمهوري.
يقول حسن مكي «وزير الخارجية حينها» والذي نقل جانباً من تلك البيانات المُخجلة أنه ودبلوماسيين كُثر حضروا عديد مؤتمرات عربية وعالمية لتقوية جانبهم، ودحض كل الافتراءات..فيما كانت التفاصيل الحقيقية للمعارك تنشر بواسطة وكالة أنباء «شنخوا» الصينية، ووكالة الأنباء السورية، والشرق الأوسط المصرية..وهنا أجدني أمام تلك الانتكاسات المتوالية أتساءل..« كيف حافظ أبطال الحصار على الرأي العام المحلي وصنعاء واقعياً على وشك السقوط..؟!».
بيانات مُفتعلة
«هنا صنعاء» برنامج إذاعي ذاع صيته في رمضان الفائت، وبمعية الرائعين عباس الديلمي وعلي السياني، شنفت مسامعي بمقتطفات من ذاكرتنا اليمنية المسموعة منذ خمسين عاماً، حلقت من خلال الصوت في عمق الحدث، وعرفت جيداً «أن أبرز أدوار إذاعة صنعاء التاريخية كانت خلال أيام الحصار..» حين كان الجهاد بالكلمة لا يقل شأناً عن الجهاد بالبندقية..بل وفي هكذا حالة يكاد يضاهيه.
كان ذلك البرنامج المفتاح الذي عرفني بأهم أدوار إذاعة صنعاء النضالية، خاصة وأن للملكيين إذاعة مداها أطول..تعمل طول الوقت على التشكيك في قدرات الجيش الجمهوري على الصمود، وتذيع بين الفينة والأخرى بيانات مُفتعلة عن سقوط مواقع..أو تحرض القبائل على نهب العاصمة وهذه النقطة بالذات استغلت جيداً من قبل العاملين في إذاعة صنعاء من خلال التذكير بما حدث بعد فشل ثورة 48م..وأن النهب هذه المرة سيطال كل المدن اليمنية.
أغنية لصباح
وعلى منوال «رُب ضارة نافعة»..قصف الملكيون «الجامع الكبير» وبداخله حشد من طلبة العلم أكثرهم «مكفوفون»، نجا من نجا واستشهد من استشهد..استغل صحفيو الإذاعة الحادث ووظفوه خير توظيف، من خلال التركيز على الجانب الديني..قابل الناس النبأ بالاستياء خاصة أولئك الذين كانوا ينظرون للملكيين من أنهم أنصار الدين وحماة الشريعة.
كانت الدعايات الباطلة المنمقة بلغة المكر والخديعة تتوارد على الدوام..وكانت إذاعة صنعاء تواجه ذلك بكل ما أوتيت من قوة، وترد بصوت ساخر «موتوا بغيضكم» فقد ولى عهد الدجل إلى غير رجعة..وجمهورية ومن «قرح يقرح»..فمثلاً ذات نهار جاءت النشرة الإخبارية من إذاعة الملكيين تؤكد سقوط «نقطة عصر»..وفي اللحظة ذاتها كانت إذاعة صنعاء تذيع أغنية راقصة لصباح..وهنا يقول محمد البابلي أحد مذيعي الإذاعة في تلك الفترة إن تلك الطريقة كانت من علامات النجاح، لما فيها من سخرية متناهية من تلك الأخبار، فتولد حيرة لدى المستمعين وتجعلهم يتساءلون أكثر..
نُكتة
إبان فترة الحصار تعطلت كل وسائل الإعلام ما عدا الإذاعة..التي كانت حسب توصيف محمد الشرفي «وزارة الإعلام وكل الصحف والمجلات..»، وينقل لنا الشرفي جانباً من ذكرياته عن تلك الأيام العصيبة؛ لأن الإذاعة كانت هدفاً أساسياً للقذائف الواردة من جبلي «عيبان والطويل»..وأول قنبلة مُعادية سقطت في «ميدان العلفي» كانت تقصدها..وكان نصيبها لوحدها أكثر من «300» قذيفة؛ ولأن الشرفي حينها أحد موظفي الإذاعة المرموقين، كان مع كل قذيفة يستشعر وزملاءه أهمية ما يقومون به..وهم على الرغم من ذلك لم يهربوا أو يتراجعوا قيد أنملة..وظل لصوتهم وتعليقات عبدالله حمران صداه الفاعل حتى انتهى الحصار.
ذات يوم نزلت قذيفة بجانب أستوديو الإذاعة الوحيد..كان فيه بعض المذيعين والمهندسين و «محمد الشرفي»، اختفى البعض في زوايا المكاتب البعيدة عن النوافذ..فيما آخرون تحت المكاتب والكراسي..فجأة «رن التلفون»..يقول الشرفي: أجبت..فإذا هو القاضي عبد الرحمن الإرياني يسأل «ماذا حدث»، قلت له الأمر بسيط إحدى القذائف نزلت بجانبنا..فصرخ الزملاء «ماذا يا شرفي» قُلت: لا شيء..!!، «أما ترى حالنا تحت المكاتب والكراسي وبين الملفات..»، وكانت نكتة ذلك اليوم إلى اليوم.
إذاعة احتياطية
ومن حسن حظ الإذاعة أن لديها حينها مولدات كهربائية خاصة كانت تساعدهم في حال انطفاء الكهرباء، وقد سلمت جميعها من القصف..كما كان لنقل الأستوديو إلى طابق أرضي بعد تلك الواقعة أثره على المستمعين؛ لأن الصوت لم يعد بذلك النقاء المعهود..وتم الربط بين إذاعتي صنعاء وتعز أواخر الحصار وكانت عبارة «هنا صنعاء وتعز» ذات مردود فعال..وكانت هناك محطة إذاعية لم تستغل حينها وإنما احتياطاً لأي طارئ.
كما أن «التوجيه المعنوي» كان جزءاً هاماً في إستراتيجية حرب السبعين وبداية الانطلاق للإعلام العسكري اليمني، كان قدره أن يلتقي بالوجوه المحاربة..ويلمس شغاف قلوبهم يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة..يقول نعمان المسعودي وهو مدير ذات الدائرة حينها: لم يكن هناك موقع عسكري لم نزره ونعيش مع أبطاله ومعنا الفنانون وجهاز التسجيل ومعدات التصوير..لم تكن هناك حارة أو شارع في العاصمة صنعاء إلا وصدحت فيها الأناشيد الثورية والكلمات الحماسية عبر ميكرفون سيارة التوجيه، التي كانت تزود المواطنين أيضاً بالمواد الغذائية الضرورية.
حماة الوطن
وعندما تشكلت المقاومة الشعبية كان ضباط التوجيه من بين أعضاء قيادتها ومقاتليها وكان العمل الإعلامي على خط وطني واحد من مقر إدارة التوجيه المعنوي إلى مقر قيادة المقاومة الشعبية إلى إذاعة صنعاء ومن ثم إذاعة تعز..وكان لهم برنامج إذاعي يومي اسمه «حماة الوطن»..صوته كان مميزاً..القائمون عليه يعدونه ويسجلونه ميدانياً، ينطلقون إلى المواقع ويعيشون مع الجنود..بمشاركة رائعة للفنان علي الآنسي الذي ارتدى الزي العسكري وحمل السلاح ورافقهم خطوة خطوة، ومعه الفنان حمود زيد عيسى الذي ابتكر شخصية «صالح علي» وكان من خلالها يتحدث مع الجنود..وكانت تلك الأصوات والأناشيد ترهب فلول القوى المعادية وتتصدى لمحاولات الدس والإشاعات المغرضة.
يضيف نعمان: لقد انتصرت الكلمة التي عبرت عن عدالة قضيتنا وانتصرنا دفاعاً عن شرف الأمة والوطن..حطمنا حسابات الحالمين بدخول صنعاء خلال أسبوع أو أقل..ودسنا بأقدامنا على مخططات كبار العملاء المأجورين..سقطت كل النظريات العقيمة التي تخالف منطق التاريخ ولا تتعلم منه، وظل علم الجمهورية خفاقاً ترفرف معه قلوب اليمنيين.
قصيدتان
أثناء الحصار قال «البردوني» الشاعر قصيدة مطولة تُحفز المدافعين على الصمود جاء فيها «انتشرت على جوانب الشمس الجراح..«أيلولكم» مجنونة من حوله الرياح..إن لم نُعد السور والخنادق..ونشرع البنادق..سترتدي المدينة السواد..ستغرق النساء في الحداد..سيرجع الفساد..الليل، والإرهاب، والسجون..«سيرجعون»..تاريخنا أمانة على أعناقكم والغد..أطفالنا..أكف أمهاتنا إلى سمائكم تمتد..لا تجعلوها يا شموخنا خائبة ترتد..ردوا جحافل الأعداء..لا تغمضوا أعينكم..شدوا على جموعهم شدا..فأنتم اليوم الذي يصول
أنتم الغد الذي يثور لن يهدأ..وأنتم السلاح والكفاح».
وبعد الانتصار قال الشاعر عبد العزيز المقالح قصيدة أخرى محتفياً بأبطال الحصار ومما جاء فيها «من زرعوا الشمس على سمائنا..وثبتوا النجوم والأقمار..وثبتوا النهار..على طريق أيلول العظيم..صدوا جحافل القديم..أوقفوا سير العار..وكانت السبعون أشرف أيام الخلود..».
أربعينياتُنا فيها رَفَضْنا..وضُحى «سبتمبرٍ وأكتوبر» فيه رَفَضْنا..ومدى «السبعي70 ين يوماً» قد رفضنا..
وسنمضي رافضين..
صنعاء العصية على السقوط أصبحت «مدينة مفتوحة»..تلاشت من حولها كمائن «الونيت» وحمم «الهوزر والهاون»..وطغت على الجميع نشوة الاحتفاء بنصر حاسم واستثنائي..قال أحدهم إنه يشبه موقعة «الخندق» حين تبددت تحالفات القضاء على هذا الدين..وقال آخر إنه يشبه حصار «لينغراد» حين انحسرت قوة «نازية» كبرى كانت تجتاح العالم دون توقف..أحس «داعمو التخلف» حينها أن روح الثورة قد تتجاوزتهم، فبادروا إلى «حلول..» لم ترض المنتصرين..إلا أنها حقنت الدماء.
«التاريخ يعيد نفسه» هذه حقيقة..لكن «كعناوين» التفاصيل لا تتكرر إطلاقاً، وفي ذلك فرصه لتجاوز ما هو أسوأ..لا أحبذ الخوض في تفاصيل من ذهبوا شامخين..وكيف حوربوا بمجرد النصر..وكيف قتلوا بنيران صديقة..«وكيف..وكيف..» لأن الأهم عندي كيف نطوي تلك الصفحة السوداء، ونعمل على ألا تتكرر..بعيداً عن نظرية الثورة التي «يخطط لها المفكرون..ويضحي من اجلها البسطاء..وتعود بالنفع على الانتهازيين..».
ومنطق «الرفض» الذي تتبناه السجية الإنسانية السليمة، يتجسد أكثر في النفوس الكريمة التي تأبى «الذِلة»..وعبدالله عبد الوهاب نعمان «الفضول» فيلسوف هذه المدرسة ومنظرها الأبرز..منه استلهمت قراءة «التاريخ والواقع» في آن..يقول رحمه الله: نحن رفض رافض إن مسنا ظلم ظلام بعيداً أو قريباً..ثم يمضي: و«سنمضي رافضين..» كل من جاء لكي يدجي ضحانا..وسنمضي داحضين كل آثم..شاء للناس الهوانا..وسنمضي فارضين..صدقنا..حتى يُرى الحق مُصانا..
أسقط «الثوار» بصمودهم الأسطوري كل رهانات القوى المعادية، التي أرادت مصادرة روح التحرر والحرية، وإعادتنا إلى غياهب الظلم والاستبداد، ومهاوي التخلف والجمود، دون إدراك لحقيقة أن هذا الشعب قد اختار طريقه، وحدد منطلقاته وغاياته، وعمّد شرعية ذلك بالدم..بإرادة يستحيل النكوص فيها، مهما بلغت جسامة التحديات وشراسة المؤامرات، بعد أن ترسخت لدى الجميع بأن الثورة جاءت لتحدث التغيير الشامل..
حدد الشعب طريقه..
لقد غاب عن أذهان القوى المعادية أن داخل الحصار جيلا يرفضهم..وأن الإنسان عندما يصدق يبدع في كل شيء بما في ذلك القتال، وعندما تغيب «الأنا» يكون عمل الجماعة حاضراً وبقوة، وعندما يواجه الناس الخطر المحدق وتكون كرامة الوطن على المحك فإنهم ينسون فئاتهم ومناطقياتهم وتمتزج ألوانهم المتعددة بلون واحد يعكس الإيثار والزمالة وحب الوطن..خلت سماء صنعاء من سُحب الخلافات، وتحول بردها القارس إلى دفء حميم يسري في الأوصال، والبندقية رفيقة عزيزة يعز على كل مقاتل أن يفارقها..
شبه عسكرية
تجسد التحام الشعب أكثر من خلال «كيان وطني» لم الجميع..حيث أعلنت القيادة العسكرية في النصف الأول من شهر نوفمبر 67م عن تشكيل «المقاومة الشعبية» وتسليحها بقيادة العميد غالب الشراعي، إلى جانب تسعة من العناصر ذات الاتجاهات المختلفة، ففتحت بذلك آفاقاً رحبة أمام قطاعات واسعة من الجماهير للمشاركة في تقرير مصير وشؤون حياتهم، وانخرط فيها قيادات وأعضاء من القوى الوطنية بمختلف مكوناتها الحزبية، وعدد من القيادات العسكرية والشخصيات الوطنية المستقلة، وحتم من وجودها أكثر ضآلة القوات المسلحة والأمن.
أنيطت بها في البداية مهام شبه عسكرية في الحفاظ على الأمن داخل المدن، وتشكيل خطوط خلفية للقوات المسلحة ودعمها ومسانداتها، وحراسة المنشآت الاقتصادية والعسكرية والقيام بمهام الدوريات، وتوزيع المواد التموينية، ومراقبة وملاحقة التجار الذين يحاولون إخفاء المواد التموينية أو المضاربة بها، ومساعدة المتاجر والمنازل على إقامة المتارس الوقائية من الدانات، والأهم من هذا وذاك أنها كانت سنداُ فاعلاً للقوات المسلحة الواقعة أصلاً في شر لابد منه، ومأزق كان على المقاومة والسكان في صنعاء أن يبددوه بكل الوسائل الممكنة..
قوة جبارة
معظم المهام التي نفذتها المقاومة الشعبية أثناء الحصار لم تكن قد رسمت مُسبقاً من قبل القيادة، وإنما فرضها تطور الأحداث وإصرار الجماهير والحركة الوطنية على الحفاظ على روح الثورة، وعندما اشتد الحصار شوهد الكثير من عناصرها يقاتلون إلى جانب أبناء القوات المسلحة في أكثر من موقع، ويمدون المقاتلين في جبهات القتال بالماء والغذاء، واستشهد العديد منهم في مواقع الشرف، وفي أكثر من مرة كان أعضاء لجان المقاومة يهرعون إلى المواقع والشوارع التي كانت تتعرض للقصف، للقيام بعمليات الإخلاء وإسعاف المصابين وحماية ممتلكات المواطنين من النهب والسلب.
وما يجدر ذكره أن تلك المقاومة أضحت قوة جبارة كالجيش والأمن والجيوش القبلية..أدهشت شيوخ الحروب فتساجلوا الشهادات لها بالاستبسال واقتحام الغمار والالتحام مع الموت وجهاً لوجه..قال أحد شيوخ الطرف الآخر «كنا نطمع في البنادق التي تطول قامات أولئك الشبان الذين تجمعوا من المدارس والمطاعم إلى الخنادق، وانصبوا إلى المعركة من جميع جهات اليمن، وإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، فكانوا يحصدوننا قبل أن نقتطف بندقية..اقتحموا بيوتاً أطلقت النار في «شملان» ولاقوا براميل مليئة بالريالات الفضية، وما مد مقاوم إليها يداً».
كسب السكان
في ذلك الوقت كان عدد السكان في العاصمة أكثر من مائة ألف نسمة، تتمتع فيها بالعيش الطيب مع الكهرباء والماء النقي والبوتوجاز، ويملكون مخزوناً جيداً من الغذاء لأوقات الشدة..ألفوا أصوات المدافع وتعايشوا معها..لم تكن الشرطة موجودة على الإطلاق، فقد ذهبت مع غيرها إلى المواقع..وكان وزير الداخلية، مجرد ضابط مع حارسين لا يؤثرون مطلقاً في قضايا الأمن وهم بلا جنود..
يقول عمر الجاوي أحد أبرز قيادات المقاومة الشعبية «..من أجل محاصرة الذين يحاصروننا، لابد من كسب السكان بوضعهم الجديد، ولن يتم ذلك إلا بمعرفة احتياجاتهم الضرورية، وباستثناء العائلات العريقة في صنعاء والتي وهبها الله بسطة في الرزق، انحازت المدينة كلها في الأسبوعين الأولين من الحصار إلى صف الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم الضروري..وبرزت آنذاك بعض المشاكل والقضايا التي تحتاجُ إلى حلول سريعة..وعرف المثقفون ولأول مرة، أنّهم يجهلون طبيعة الحياة اليومية في مدينة صنعاء..»
أصوات لاسلكية
كانت صنعاء قادرة على إطعام نفسها، وقادرة على حماية أسوارها من أي اختراق، تم التعامل بحذر مع الطابور الخامس الموالي للنظام البائد، القيادة لم تكن غافلة..فيما أعضاء المقاومة الشعبية لم يتوانوا عن ضرب تلك المرتكزات في مختلف المناطق، حيث بلغ عدد المعتقلين احتياطياً في اليوم الأول للحصار - مثلاً- أكثر من «1000» شخص.. «حاميها حراميها» إشاعات مُغرضة بدأت تلوكها الألسن في ذات الإطار..إلا أنها تلاشت أمام قيام المقاومة الشعبية بمهامها على أكمل وجه..وهنا ينقل عبد الله أحمد السنباني أحد أعضائها صورة مصغرة عن طبيعة تلك المهام، كل عضو كان مسئولا عن الحارة والشارع الذي يسكن فيه، يستوقفون كل من يُشك فيه، ويمنعون المرور ليلاً الا بكلمة «سر الليل»..ويراقبون البيوت التي يشاع أن إشارة ليلية أو أصواتا لاسلكية تنطلق منها إلى القوات الملكية..ويضيف «كان الواحد منا يعرف الكثير عمن يسكن في تلك الحارات أو الشوارع، وكنا نلاحظ أن من يدافع عن صنعاء أغلبهم ليسوا منها، وكان غالبية السكان يظهرون التجاوب بحكم القوة الموجودة، ويضعون لأنفسهم نوعاً من المرونة، ولا يبرز منهم إلا القليل..»، وللأمانة فقد كانت الحراسة المشددة وظروف تلك النوبات عاملاً أساسياً في حفظ الأمن وتطمين السكان..
المرجفون..
كما عملت المقاومة الشعبية على توعية الجماهير وتحصينها من الإشاعات المُغرضة التي يثيرها «المرجفون في المدينة»، ومحاربة النعرات الطائفية الانعزالية، والدفع بانخراط مجاميع المقاومة من عمال وطلاب وتجار صغار وفلاحين فقراء إلى صفوف القوات المسلحة، واستقطاب الشباب من الطلبة والعمال والموظفين للانخراط في صفوفهم.. قاتل الجميع من أجل «التغيير والكرامة»..وأثبتنا أننا كشعب لا نقبل العودة للوراء، وأعدنا الثقة إلى نفوسنا بأننا عندما نريد أن نقاتل فسنقاتل وننتصر..عقيدة القتال في الصف الجمهوري كانت منحازة لمبدأ «الجمهورية أو الموت»، تلاحم في سبيله «الجيش والشعب»، وحولوه إلى واقع حياتي ونهج عملي ومواقف وطنية، بينما عقيدة الصف الآخر تقتات على المال والسلاح والو لاءات المتعددة..وقد أسهمت المقاومة الشعبية بدور لا يستهان به في صنع الانتصار، وتجسد نضالها القتالي الأبرز في اليومين الأخيرين اللذين اكتمل فيهما النصر لاسيما في موقعتي جبل «الطويل» و«الصباحة».
كان للجيش الشعبي دور بارز في الدفاع عن صنعاء من «الداخل»..وحين بدأ الحصار الفعلي كانت ثمة مجاميع من «قيفة وحاشد ومراد...» ساهمت في صد هجوم الملكيين في لحظاته الأولى..إلا أن دور هذه المجاميع القبلية ومثيلاتها تجسد أكثر في «معارك جانبية» خارج صنعاء..
معارك جانبية..
كانت قيادات عليا لا تحبذ توافد القوات الشعبية إلى صنعاء بحجة أن المؤن قليلة..ولا تكاد تكفي من هم فيها أصلاً، ومن هنا برز خيار فتح جبهات قتالية خلف خطوط العدو تستوعب تلك الجموع..وعلى الفور ضُربت القوى الملكية في «حجة وصعدة ورداع والعدين والبيضاء وتعز وإب»، خف الضغط على صنعاء..وحوصر المحاصرون بضرب الطرق التي تمدهم بالمؤن والسلاح..كل ذلك عزز من صمود المدافعين في «الداخل»، مع العلم أن ميزان القوى كان يميل لصالح الملكيين حول صنعاء فقط، نظراً لان معظم مقاتليهم من مناطق مجاورة للعاصمة، وكانت تعطي ولاءها للملكيين بفعل إغراءات المال والسلاح.
مقرر شهري
قبل أن يبدأ حصار صنعاء كانت قوات ملكية بقيادة عبد الله بن الحسن تجتاح «حرف سفيان» تمهيداً لاختراق «حاشد» وإذلالها عبر«الجبل الأسود» وصولاً إلى صنعاء، فيما قوات قبلية من «حاشد وبرط» مرابطة في ذات الجبل تكثف من استعدادها في صد ذلك الهجوم..كانت «سفيان» ملكية صرفة فيما الجمهوريون لا يزيد عددهم عن العشرة أفراد، وهنا يقول العميد أحمد علي فاضل: إن العدو تراجع بفضل استبسالهم..ليرسلوا له بعد ذاك مشايخ من بكيل قالوا له «ما بقي إلا أنت معترض طريقنا، وصنعاء لا بد منها وننصحك أن تأخذ مصروفا لك و أصحابك، وتترك المواقع ونلتزم عن الأمير صرف مقرر شهري..»، لم يدخل الملكيون صنعاء ولم يتجاوزوا «الجبل الأسود»، حيث توافدت قوات شعبية أخرى بقيادة مجاهد ابو شوارب احتلت «سفيان» وبدأت تضغط على صعدة نفسها، مما استنفد الإمداد الذي كان يتوقعه الملكيون من الشمال.
محاولات مستميتة
كانت مدينة «حجة» لحظتها محاصرة..ومن «سفيان» تحركت تلك القوات وساهمت مع القوات المرابطة في ذات المدينة بفك ذلك الحصار..كما ساهم هذا التحول بدفع كثير من القبائل البسطاء إلى القيام بعمليات جريئة في «سحار صعدة»..وهو الأمر الذي تكلل باغتيال عبد الله بن الحسن فيما بعد..كما شهدت «رداع» معارك كبيرة وصل بعضها إلى حد الاشتباك في الشوارع، حيث قامت القبائل هناك بإفشال سيطرة الملكيين على المدينة..ومن ثم الاستيلاء على أسلحتهم وإرغامهم ولو بصورةٍ مؤقتة على الالتزام بدفع الزكاة «الضريبة» للحكومة لأول مرة في تاريخ الجمهورية..
وفي المقابل كانت هناك محاولات مستميتة لفتح طريق «صنعاء- تعز» عبر «نقيل يسلح»، وقد سطر الثوار هناك وهم خليط من «جيش ومقاومة وقبليون» صفحات مشرقة في تاريخنا النضالي..وهذه المحاولات رغم فشلها إلا أنها لعبت دوراً كبيراً في تخفيف الهجوم على العاصمة، وليس بخافٍ على أحد دور الجيش الشعبي بأعداده الهائلة من مختلف المحافظات «تعز، إب، ذمار، البيضاء، صنعاء» التي شاركت في فك الحصار وفتح طريق «الحديدة- صنعاء».
قبل أن يبدأ الحصار بأيام كانت مدينة عدن تشهد إحدى فصولها الدامية في سلسلة «صراع» الإخوة الأعداء»، هذه المرة بين عناصر الجبهة القومية وجبهة التحرير، التي انتهت بانفراد الأول وإقصاء الأخير ..وبدوره آثر الانسحاب إلى تعز..
رأس النقيل..
ليجدوا أنفسهم هذه المرة أمام معركة أخرى، هي أحق أن يبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الانتصار لها، كان معسكر «الحوبان» الإطار الذي يحتويهم..وعندما اشتد الحصار على صنعاء كان ما يزيد عن «350» من هؤلاء يسطرون أبهى لحظاتهم النضالية في تخوم «يسلح»..
خيانة
قصدوا «النقيل» وأحلامهم تسبق خطواتهم يحملون أرواحهم على أكفهم ليقدموها قرباناً لهذا الوطن..وكان الاحتشاد هناك بموجب مبادرة أطلقها كل من محمد عبده نعمان «وزير الوحدة حينها»، وهاشم عمر إسماعيل -استشهد في ذات النقيل- وسعيد محمد الحكيمي وبالليل بن راجح لبوزة ونصر بن سيف.
ذات نهار رمضاني تجاوزت القوات «رأس النقيل» وصولاً إلى بلاد الروس بعد أن سيطروا على عدة مواقع للملكيين..إلا أن قيادة الحملة في معبر لم تسمح لهم باستعمال الأسلحة الثقيلة مما سبب إحباطاً للقطاع الفدائي وأفراد القوات المسلحة وجنود الصاعقة المرابطة هناك..ويتحدث بعض من شارك في تلك الحملة عن وجود خيانة من «داخل الصفوف» خاصة من بعض أفراد القبائل..مما أدى إلى سقوط نحو «64» شهيداً من جبهة التحرير وحدها، غير الأسرى الذين تم التنكيل بهم في «جحانة» رداً على أسر أحد المرتزقة وقتله..وهو الأمر الذي ولد خلافات في صفوف جبهة التحرير بين «مؤيد ومعارض» لتلك المشاركة، وكانت حجة المعارضين أن معركتهم الرئيسة في عدن.
عاصمة تاريخية
مما لا شك فيه أن جلاء الاستعمار البريطاني من جنوب الوطن مثل نقطة فارقة في توازن القوى..حرمت الملكيين من شريان حيوي هام كان يمدهم بالأسلحة والأموال، كانت قوات الملكيين خلال الخمس السنوات الماضية تدرب في معسكرات داخل الجنوب، وفي أكثر من مرة استخدم الإنجليز سلاحه الجوي لذات الغرض، وهو ما حدث بالفعل عند احتلال الملكيين لمدينة «حريب» قبل الحصار..وليس من المستبعد حسب توصيف جار الله عمر أن عملية الانسحاب البريطاني من عدن كانت واحداً من العوامل التي دفعت بالقوى الرجعية للإسراع في حصار صنعاء، ويؤكد هذه الحقيقة ما عرف بعد ذلك من أن إحدى الدول قد بعثت بوزير خارجيتها إلى لندن بقصد حث الإنجليز على تأجيل انسحابهم من عدن حتى تحسم معركة صنعاء.. وبرغم أن حكومة الاستقلال التي شكلتها الجبهة القومية كانت تعاني من مخاض الولادة العسير، فإن النظام الوليد لم يغفل مسئوليته الوطنية تجاه عاصمة اليمن المحاصرة، وقد شكلت لجنة مركزية في عدن لدعم المقاومة الشعبية في صنعاء ودأبت على إرسال كل عون «مادي وعسكري» ممكن، وأوفدت لجنة من قبلها إلى الشمال لمعرفة الأوضاع السياسية والعسكرية عن قرب، وصولاً إلى البيانات السياسية..وحشد المواطنين للانخراط في صفوف المقاومة، وتحركت الجماهير وكان شعارهم «كل شيء من أجل حماية صنعاء»، وبعد رمضان تحول إلى «كل شيء من أجل فك الحصار عن عاصمة شعبنا التاريخية». وكلاهما امتداد لشعار «الجمهورية أو الموت» الذي شمل كل المناطق.
تحرير حريب
وفي ذات السياق قال المؤرخ سلطان ناجي إن الجبهة القومية أرسلت «450» من مقاتليها للمساعدة في فك الحصار عن صنعاء، وقد تجسدت تلك المشاركة بفاعلية حين قامت قوة من الجيش الجنوبي والمليشيا الشعبية مع قوة من الجيش الجمهوري في ذات اليوم الذي فك فيه الحصار عن صنعاء بالهجوم على القبائل الموالية للملكيين في المناطق الشرقية، وقد استطاعت في الأخير أن تحرر مدينة «حريب» من أيدي الملكيين، كما قامت الجبهة القومية بمعركة «مسورة» من أجل تطهيرها من القوى المعادية، و مدت المقاومة الشعبية بالكثير من المؤن والأسلحة..حيث كُلف قائد لواء إب بالتواصل مع علي عنتر قائد منطقة الضالع وطلب العون بما هو متاح من المؤن والذخائر..
- كانت صنعاء قادرة على حماية أسوارها من أي اختراق..وقد بلغ عدد المعتقلين احتياطياً في اليوم الأول للحصار - مثلاً- أكثر من «1000» شخص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.