في لحظات تغيب فيها روح المسؤولية.. وعدم إدراك النتائج المأساوية التي وصلت إليها بلادنا جراء ثقافة (الغش) الهوجاء التي استفحلت وفاح نتنها.. وصارت مخرجاتنا التعليمية في الدرك الأسفل من البلادة.. غُيب أصحاب العقول، ولم نعد نسمع بتكريم (مكتشف بارع) أو حصول طالب ما على جائزة في البحث العلمي.. لا شيء غير فوضى عارمة، همش فيها النوابغ.. وارتقي سلم التحفيز الوظيفي والمجتمعي من يغدق الأموال.. ويستلب الوساطات.. و(طُز) بالنخب الفاعلة والكوادر المؤهلة.. وهكذا صار وضعنا كله (غش في غش).. «العقل فاضي» عند التوقف ملياً والنظر بجميع مستويات التعليم الجامعي الثانوي والإعدادي.. كلها مواطن يزدحم فيها الغش والغشاشون؛ سببت ضياع التعليم في اليمن، وكل مرة نسمع مثلاً عن (جامعي ما يعرفش يقرأ) أو (أستاذ ما يعرفش يكتب) أو (طالب ثانوية ما يعرفش يقرأ ولا يكتب) ومازلنا نسمع بأفضع من ذلك, تخيلوا وكيل محافظة أو مدير ناحية في محافظة تعز العاصمة الثقافية لا يستطيعان الكتابة ويكتب عنهما أحد مرافقيهما. «ارحمونا» بهذه الكلمة وغيرها ينادي الطلبة المراقبين أثناء الاختبارات لتطلعهم على سوء التدريس وما يصلون إليه من المعاناة وعدم قدرتهم على الإجابة، والإحساس بالإفلاس.. وبأن العقل فاضي.. نتوقف لنأخذ نموذجاً شائعاً؛ فالصفان الثالث الثانوي والثالث الإعدادي اللذان كانا يعدان من أصعب المراحل التي يتجاوزها الطالب ولا يتخطاها إلا الذكي.. الآن العكس, ف (200) ريال على كل طالب للمراقب يصبح بالجيب.. أو (1000) ريال ضيافة لرئيس اللجنة.. يصل الغش إلى جيب كل طالب وبسهولة ويسر.. وإذا تطلب الأمر الإتيان بدفاتر جاهزة فلن يكلف الأمر سوى زيادة فلوس وحسب. مدرسة الإرشاد ما لا يمكن إنكاره أننا نعيش واقعاً سلبياً للغاية.. الغش أصبح ثقافة وأي ثقافة..؟ الناس في بلادي صاروا نشطاء ومحفزين غير عاديين في هذا المجال؛ بدليل ذاك التنافس الفظيع والتسابق الشنيع إلى المراكز الامتحانية في سبيل تغشيش الأبناء، بل وعدم الاكتفاء بذلك فهناك من يتعدى على العسكر ورئيس اللجنة لغرض إيصال الغش فيتسبب بنقل المركز إلى مكان آخر. مع بدء الموسم الامتحاني الحالي كان لي جولة إلى أحد المراكز الريفية الشهيرة بالغش المقنن.. هالني ذاك الزحام المتربع على ظهرانيها وفوق أسوارها وحواشيها، الجميع منهمك في أداء رسالته الشيطانية كخلية نحل، ولاة الأمور من تحتويهم الأمية يسطرون ملاحم في الإقدام والشاطر من يوصل الإجابة أولاً.. دوي الصياح والصراخ يطغى على روح السكون التي يأملها أي طالب مجتهد.. وحيث الاحتشاد الطاغي ثمة طابعة حديثة لم تؤثر عليها انطفاءات الكهرباء، فيما الإجابات النموذجية تتوارد من مدرسي الغفلة الذين يستغلوا تلك اللحظة الفاصلة في طلبة الله.. والإجابة الواحدة ب (100) ريال.. وكأن دورهم الموكول إليهم حاضر حينها وغائب طوال العام. قيل إنهم وجدوا حماراً يحمل فوق ظهره كتباً مدرسية وعدة امتحانات.. سألوه عن وجهته فأجاب إلى مدرسة الإرشاد (سيعة) في أعالي جبل صبر.. نكتة دارجة يتناولها كثيرون نكاية بذات المدرسة وما وصلت إليه من وضع مترد يصعب وصفه أو احتماله.. وهي المدرسة التي عنيتها في التفاصيل السابقة.. تخيلوا أن عدد الطلاب الدارسين فيها لا يتجاوزون ال (70) طالباً، فيما الطلاب الذين يمتحنون الآن يتجاوزون ال (350) طالباً، أغلبهم من غير المنطقة، وكأن ذات المدرسة أصبحت مجمعاً وملتقى ل (المتردية والنطيحة وما أكل السبع). هدم للتعليم رأفت الشامي – من أبناء المنطقة - يبدي العديد من التساؤلات التي تبعها بالإنكار ويقول بصريح العبارة المسنودة بقسم غليظ وهو يساهم في توصيل الغش لأحد أقربائه: لولا الغش ما نجح أحد.. متهماً أطرافاً عليا بأنها هدمت التعليم وصنعت طلاباً يركنون إلى الغش، ومدرسين لا يتوفر لديهم كفاءة علمية.. يشاركه الرأي عبد الحكيم السامعي بقوله: أدركنا الآن مدى مصيبتنا أكملنا دراستنا الجامعية والثانوية ونحن نغالط أنفسنا بالغش من مرحلة إلى أخرى.. والآن لا علم ولا وظيفة والسبب من يسيرون التعليم في اليمن، لو كان هناك تشديد ورؤية مستقبلية للمتخرجين وتحديد وظائفهم وانطلاقهم إلى أماكن عملهم بعد التخرج مباشرة كنا درسنا دراسة حقيقية وأبدعنا على أرض الواقع ولم نمشها “دلهفه” ونصبح بالشارع حتى يشيب الرأس بدون وظيفة، ويضيف: المصيبة ليست قضية غش وبس بل أعظم فهي عملية هدم للتعليم، وتقهقر ورجوع إلى الوراء، فالغش يتعلمه طلاب صغار مازالوا في بداية مشوارهم التعليمي من الصف الرابع والخامس، ويبتكرون وسائل في فن التغشيش، وجلها ابتكارات لمعركة خاسرة أصلاً، وأيضاً هناك من العاملين في الحقل التعليمي من يقتلون التعليم بتساهلهم مع الطلاب.. وأضاف السامعي: غيرنا يسابق العلم وينتقل إلى الأمام بخطى ثابتة، ويأتينا بكل جديد؛ فمنهم من صعد القمر وبأبسط عبارة نقولها: نحن مازلنا عايشين على إبداعات غيرنا حتى هذه اللحظة, فإخفاقاتنا صارت تتحدث عنا وبرؤية واضحة تحدد فشلنا، والسبب لأننا ابتعدنا عن العلم والعمل أساسيات النجاح، بل مسار التعليم يعاني من الإهمال، فهناك مناطق في اليمن تعيش عيشة تخلف وجهل، والسبب عدم توفر أماكن دراسة وتربويين، ومازلنا نحلم بأن نتقدم إلى الأمام، ونحن في وضع نتائج الفشل تعبر عنا في كل مرفق حكومي، وخاصة التربية والتعليم التي تعد العمود الفقري لكل نجاح.. حالة إدمان عبد الله إبراهيم - طالب - أكمل دراسته بالصف الثالث الثانوي، يقول بأنها أفضل مرحلة؛ لأن الجميع يتعاون معك، حتى رئيس اللجنة يتروض بمبلغ بسيط من كل طالب، ويزيد عند مجيء النتيجة لم يكن مصدقاً بأنه حصل على تقدير “85” ويتمنى لو تمر اختبارات الجامعة مثل ثالث ثانوي. معاذ مكرد هو الآخر لم يكمل بعد المرحلة الثانوية.. لكنه مازال يبذل جهداً ليصنع مستقبلاً مشرقاً.. يتألم ويقول: لا فرق بين الذكي والبليد؛ نحن نتعب ونذاكر، بينما الآخرون يكتبون إجاباتهم مستعينين بالغش من المراقب وورقة معبأة بالإجابات يرسلها الواقفون خارج الشباك، وهكذا فالطرق متعددة ويسيرة. فيما يؤكد الطالب لؤي سمير بأن الغش أشبه بحالة الإدمان.. وأنه يذاكر المواد حتى يحفظها عن ظهر قلب، وفي قاعة الاختبار لا يستطيع الخروج من دون أن يغش.. ولأن الأجواء مهيأة أقل حاجة يعملها أنه يراجع مع زملائه بعض الإجابات.. ويضيف: حاولت عدة مرات التخلي عن هذه العادة السيئة فلم أستطع تجاهلها، والسبب رؤية زملائي يمارسون الغش بلا رقيب.. محمد عبد القادر - رئيس لجنة في أحد المراكز الإمتحانية بجبل حبشي - قال: بصعوبة نسيطر على قاعة الامتحانات، فكثير من الحلول لا تجدي مع الغشاشين، فقد تعودوا لفترة طويلة على الغش وأكثرهم لا يستطيعون النجاح إلا عن طريق الغش، مما سبب على نقل المركز إلى مكان آخر، التي أراها أنا وغيري من رؤساء اللجان الحل الوحيد الذي يقلص من عملية الغش.. جهل مركب سعد العتابي - حفيد اليمن وابن العراق - دكتور الأدب بجامعة الحديدة يقول: قتل التعليم باليمن عمداً وبأحقر الأسلحة بالطمع وتساهل الجهات المسئولة، والأفظع من ذلك تدمير الطالب نفسه بنفسه باستخدام وسائل الغش, فهو لا يدرك حجم أخطائه إلا عندما يصبح عاجزاً عن استرداد ما فاته, ويحمل ذلك من يملك زمام الأمر ولا يوقف هذه آلافه التي ولدت جهلاً مركباً في عصر المعلومات. من جهته الدكتور محمد القديمي يقول: الغش من يهدم النجاح؛ لأنه يعوّد الطالب الإهمال فنحن لا ننكر وجوده بنسبة كبيرة، وفشل الحقل التعليمي في اليمن أكبر من ذلك, صحيح أننا لا نستطيع محاربة الغش وإنهائه بشكل كامل؛ لأنه قد انتشر في المجال المهني والتعليمي، لكن هناك حلول وعقوبات يمكن تنفيذها وستقلص من عملية الغش, واحدة واحدة ونستطيع إنهاء الظاهرة.. متمنياً من الجميع الاستيقاظ وخاصة المسئولين على التربية والتعليم والعاملين فيها، ويدركون حجم المشكلة التي لا ينبغي التساهل بها وبأثرها الموجود حالياً في نفوس أبنائنا، لقد فات الكثير ونحن لم نتخذ حلولاً ضدها ونجعلها تتلاشى وإلى الأبد.. ينتهي الوقت نحن في العام 2012م ومازال طلبتنا يمارسون الغش كأشياء رسمية غير آبهين بانحطاط المستوى الدراسي، ومع كل التوقعات التي كنا نتوقعها من حكومة الوفاق بأنها ستعمل على القضاء على هذه الظاهرة وسوف تضع الميزانية التي يتطلبها المسار العلمي وتنعش ما كان خافتاً.. فالبنية التعليمية معلم واضح يدل على حضارة الدول وتقدمها، وأكبر دليل على ذلك الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس التركي أمام البرلمان لمدة اثني عشرة ساعة متواصلة تهتم بتغير نظام التعليم, فيما برلماننا اليمني لم يكلف نفسه يوماً لأن يتكلم ساعة بقضية التعليم وإصلاح ما فسد، بل ترك أجيالنا يمارسون الغش كما يشاؤون حتى أوصلهم إلى منزلق خطير, فهم لا يؤمنون بقدرتهم على الإجابة عن الأسئلة إلا عن طريق الغش وتبقى ساعات الانتظار وهم يطوون بأفكارهم من أين ستأتي الإجابة من النافذة أو من الباب أو ستفرج من عند رئيس اللجنة وهكذا تمضي إلى أن ينتهي الوقت..