ليست الراهدة مدينة الحلاوة وحدها فهي أيضا مدينة الفن الساحر . كيف لا تحتضن شاعر الأغنية اليمنية المسكون بحب الأرض و الإنسان . الشاعر أحمد الجابري . على مقربة من شقته المتواضعة والمستأجرة وسط الراهدة أو صومعته -كما يسميها - تقع قرية الهجر حيث مسقط رأس عائلته. له مع الراهدة قصة يرجع تاريخها إلى العام 49 من القرن الماضي حين وصل إليها مع بزوغ الفجر قادما من عدن وكانت حينها مدينة نابضة بالحياة فتناهت إلى سمعه ثلاثة أصوات مازالت تعمل عملها في روح الشاعر وشعوره حتى الآن كما أخبرني . إنها أصوات العصافير والطواحين والديكة . في طريقه إلى الراهدة لمح النسوة يسابقن الفجر إلى بئر أملاح التأريخية التي لا تجف حيث يزيد عمرها عن خمسمائة سنة فتولدت لديه القصيدة المشهورة : ( يا صبايا يا صبايا فوق بير املاح والدنيا غبش من يسقي في الهوى قلبي ويروي لي العطش ؟...) هذا بالطبع قبل أن يقترح الشاعر الفضول على الفنان أيوب أن يغيرها إلى ( فوق بير الماء بدلا عن بير املاح ) دون إدراك البعد التاريخي والنفسي الذي تمثله هذه اللفظة والذي كان يريد الشاعر تضمينه لهذه البئر العزيزة إلى نفسه وإلى نفوس القرى المجاورة لها ومن خلال حديثه تحس بندمه على استبدال المفردة لكن طبيعته المتسامحة تجعله يخفي ذلك. أحمد الجابري شاعر رقيق مرهف الإحساس جميل الشعر والشعور ، بسيط متواضع و بشوش وعف اليد فهو لم يتقاض فلسا واحدا عن جميع أغانيه. إنه يكره الظهور والأضواء كما يكره التحدث عن نفسه وراحته في تقديم الآخرين والحديث عن إبداعهم . الشاعر ضليع بعلم العروض خبير بالإيقاع و يمتلك فن هندسة القصيدة بطريقة مدهشة لأنه يعتني بمطلعها أيما اعتناء فهو يرى أن القصيدة تكتمل حين يكتمل مطلعها واهتمامه بانتقاء المفردة لا يقل عن اهتمامه بالمطلع . يعترف الجابري بعبقرية الفضول و يقدمه على سواه ويؤمن بأنه رائد الأغنية بلا منازع ويقف باندهاش أمام شعره المتوهج كما يقول و بالأخص قصيدته (مكانني ظمآن ) وهو يقتسم معه حب الفنان القدير أيوب طارش عبسي . بالمقابل كان يعتبره الفنان أيوب الورقة الرابحة التي يشهرها بنجاح في وجه عبقري الأغنية الشاعر الفضول حينما كان يمارس عليه في بعض الأحيان دور الأبوية على سبيل المثال عندما سحب منه أغنية (وافي العهود) لجأ حينها إلى الشاعر أحمد الجابري لتكون أغنية (أشكي لمن ) التي لاقت رواجا كبيرا أدهش الجميع . كتب الجابري الأغنية اليمنية بمختلف لهجاتها ابتداء ب (يا مركب البندر ) و (عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم ) و الزفة الجميلة (على امسيري على امسيري ) و ( أخضر جهيش مليان حلا عديني) . مرورا برائعة ( أشكي لمن ) و ( خذني معك ) و ( طير إيش بك ) وانتهاء برائعته ( لمن كل هذي القناديل )التي تنبأت بالوحدة ورافق نزولها للجمهور موعد التوقيع على الوحدة اليمنية فكانت أغنية الوحدة المفضلة . يقول الجابري إن أجمل ما كتبه من قصائد كانت في تعز لأنها كانت تأتي في مواسم أمطار فالشاعر أحمد الجابري الذي كان يعمل محاسبا في مجموعة هائل سعيد أنعم كثيرا ما كان يأتي المطر فيترك سحره على واجهة غرفة مكتبه الزجاجيه ، هو بدوره يترك الأرقام جانبا منسلا بإعجاب نحو تلك اللوحة الفتانة ليكتب ما يحلو له! للشاعر رؤية نقدية فريدة لدراسة الفن فهو يرى ضرورة أن يدرس الفن على ضوء ظاهرة الثنائية المتمثلة بالشاعر والفنان كظاهرة الفضول وأيوب أوظاهرة أبوبكر سالم والمحضار وهكذا .. ويشترط أن تدرس الظاهرة ككل متكامل دون الفصل بين الثنائي وهذه رؤية متقدمة وتنم عن ذائقة نقدية متمكنة . لوّح الجابري بآخر قصيدة أحب أن تغنى : ( أعطيت قلبي لمن يسوى وما يسواش كل من جهش واجتهش من لوعتي مجهاش كلي أنا حب مثل الطير لي أرياش ) لوّح بها باتجاه فنانه المحبب أيوب لكنه كان قد رغب في اعتزال الفن ومثله المرشدي بعدها رفض أن يعطيها أو يعطي غيرها لأحد وبعد تردد طويل على الشاعر منحها للفنان عبد الغفور الشميري . يقضي الشاعر الجميل حاليا بقية حياته بصمت في عزلة مرة تحت رحمة المرض ووسط محيط من النكران والتجاهل من قبل الجهات الرسمية و الشعبية ! . فالشاعر حتى الآن ليس له ديوان مطبوع! ، في مجتمع اعتاد أن يمجد الشخص بعد موته ويذرف غزير الدموع . والسؤال هنا : هل على الشاعر أن يموت كي تنهال عليه الأوسمة والألقاب ؟ سؤال أترك مهمة الإجابة عنه للمعنيين وللزمن الصعب. [email protected]