بعد أيام مضت ، وأحلام ودعت ، وليالي سهر انطوت ، بات الجميع ينتظرون الوعد القائم بين أبي علي وأبي راشد ، وعد أطلقه أبو راشد منذ أعوام طوال ، دون أن يعمل حساباً لما هو قادم ، ولا للغد الجميل ، فقد كانت كلماته موزونة وأحرفه مسموعة أمام أهالي القرية ، كبرت بنته فرح ، وصارت تحلم بيومها السعيد، تعيش حياتها على أمل لقاء حلم حياتها، وراحة بالها، عاشت تتراقص على أنغام الشاب، و تزهو بكل فخر، فكلما همس لها الليل أخبرته أنها ماتزال على وعدها معه، أحلام تراودها ، طموح يشدها نحو مستقبلها ، أكملت تعليمها الثانوي وهي في فرحة لا توصف، بدأ والدها يسرد المقدمات لها، ويلمح بالتعبيرات، علها أن تفهم، زارهم شاب خلوق خاطباً فرضه والدها مسرعا بحجة إنها....، وزارهم آخر ولقي نفس الجواب، صمتت فرح وكأنها لا تبالي بعالمها، مكتفية بعالمها المخفي الذي تلجأ له كلما حل عليها ظلام، مع أنها تحسرت وتجرعت مرارت الحزن المكبل بالألم، إلا أنها جلست مع والدها تشرح له الحال، وتوضح له أشياء غابت عنه، لكنه صفعها بقوله: “يا بنتي كلمتي مثل السيف” ذهلت من هول ما سمعت، تجمدت مكانها، انطوت تقلب دفتر حياتها، تبحث عن شيء يعيد لها ذكرياتها، عن أيام طفولتها، عن براءتها، أجهشت بالبكاء، سمعها كل من حولها، هرع الكل نحو غرفتها ووجدوها في سريرها مرمية، محطمة ، جسد بلا روح ، لم تقو على الكلام ، استعانت بالصمت الصارخ لتعبر عن الواقع الظالم، ابتسمت في وجه أمها وكأن تطمنها عليها، عبست في وجه الجميع ، فقدت رونقها ، غادرت عالمها تاركة من حولها يتهامسون، ويتغامزون، لم تعرهم أذناً صاغية ، فجأة سمعتهم يقولون “حرام يغصبوها “ زاد نحيبها فكل أهل القرية يعرف قصتها، خرجت متجهة لعالم الحب الخفي ، لعالم خالٍ نقي، علها تجد فيه الصدر الحنون، ذهبت لأمها تبكي في حضنها ، لكنها لم تجد منها غير “أبوك ما قصر معك يا بنتي ودرسك ولا واحدة من بنات القرية درسوا مثلك” يا بنتي أبوك ما يشتي أحد يكسر كلمته “يا بنتي ... قطعت حوارها وبصوت مقطوع قائلة: “ يا ماه هذا مش ذنبي” يا ماه أني مالي ذنب “ سكتت أمها على صراخ زوجها بقوله “مش راضية هذه البنت تعقل” دخل عليها وهو يصرخ “متى بتفهمي أنا وعدت ولازم أوفي بوعدي” أجابته بملامح مكسورة ونظرات مقهورة “ الذنب ليس ذنبي” غضب منها وغادر بعيداً عنها كي ينام، وفي تقلباتها في أحلامها، وأملها بفرج قريب، باتت بين نارين، لم تعد تدري ما العمل؟ هل ترضى بالواقع وترضي أباها؟ أم تكابر وتعاند وتنتظر ردة فعل والدها، خيبة الأمل دبت فيها، الدمار حلق عليها من كل اتجاه، زلزال الألم أغرقها، وحدة العالم سكنتها، استيقظت على خبر عودة علي. الشاب الذي كان عائشاً متسكعاً في شوارع المدينة.. الشباب الذي لا يبالي بشيء الذي لم يكمل تعليمه الذي مازال عائشاً عالة على والده الذي .... والذي .... والذي أطلت من النافذة رأته واقفاً مع والدها، وشعره طويل ووجه ملون وثيابه لا تليق، صمتت تتابع بصمت ؛ لكن والدها فرح واستبشر وعاد مسرعاً للدار وهو يصرخ “فرح بنتي تعالي شوفي” فرح اليوم بوفي بوعدي” فرح ... “ قطعت كلامه بقولها: هذا علي الذي تربيت معه ولعبنا، هذا علي مثل أخي، هذا وهذا ... قال لها والدها “هذا هو زوجك” قالت له أي زوج وأنت زوجتني وأني قطعة لحم في بطن أمي” قال لها بعد أن صفعها، وحطم كل كيانها، وزرع الخوف في أعماقها “هيا قومي عريسك وصل” ، دخل الجميع وبدأ الحوار يتعالى وبدأ الأب يسرد أيام زمان عندما قال “إن جاءني ولد وأنت بنت فولدي سيتزوج بنتك، وإن ... “ قطع أبو راشد كلامه قائلاً: “ يا أخي أنا جئت أعفيك من وعدك، ابني مش حق زواجة، وبنتك خليها تكمل تعليمها، حرام نزوجها واحداً مثل هذا، وهذا ابني وأنا أعرفه “ . كلمات أبو علي صاعقة حلت على أبي راشد، صفعة لم يتوقعها، بصمة ذل تلقاها من أعز أصدقائه، ألم سيظل يلازمه كل حين، زف الخبر لفرح، فطارت فرحاً، وحلقت في أرجاء غرفتها طرباً، فقد انزاح الغم الذي كان يلاحقها، وبات ماضياً لا ذكرى له، رحل ما كان يهدد كبرياءها، غادر بدون عودة، فتحت دفاترها، لتعيد شريط حياتها، واستمرت في أحلامها، تاركة لآمالها الشموخ، ولمستقبلها العلو، ولأيامها التفاؤل، متجهة صوب كل جديد، لتعيش حياتها كما تريد، جاعلة من اسمها فرحاً يرسم البسمة على شفتيها كل حين.