تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    بن دغر يعزي قيادة الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني ويثمن أدواره النضالية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    شاهد.. أردوغان يشارك في جنازة الشيخ عبدالمجيد الزنداني في جامع الفاتح باسطنبول "فيديو"    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    برشلونة يعتزم بيع اراوخو    رئيس مجلس القيادة يجدد الالتزام بخيار السلام وفقا للمرجعيات وخصوصا القرار 2216    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    مأساة في اليمن.. مقتل 28 طفلًا منذ يناير بألغام مليشيا الحوثي    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    لابورتا بعد بيان ناري: في هذه الحالة سنطلب إعادة الكلاسيكو    القبض على مقيم يمني في السعودية بسبب محادثة .. شاهد ما قاله عن ''محمد بن سلمان'' (فيديو)    الشيخ بن بريك: علماء الإسلام عند موت أحد من رؤوس الضلال يحمدون الله    انقطاع الشريان الوحيد المؤدي إلى مدينة تعز بسبب السيول وتضرر عدد من السيارات (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    قيادي حوثي يقتحم قاعة الأختبارات بإحدى الكليات بجامعة ذمار ويطرد الطلاب    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    ميلشيا الحوثي تشن حملة اعتقالات غير معلنة بصنعاء ومصادر تكشف السبب الصادم!    برئاسة القاضية سوسن الحوثي .. محاكمة صورية بصنعاء لقضية المبيدات السامة المتورط فيها اكثر من 25 متهم    دعاء مستجاب لكل شيء    موالي للإنتقالي الجنوبي يثير صدمة بعد تعليقه على رحيل الشيخ "الزنداني"    الحوثيون يستجيبون لوساطة قبلية للسماح بإقامة مراسيم الدفن والعزاء للزنداني بصنعاء    ذمار: اندلاع حرب أهلية مصغرة تُثبت فشل الحوثيين في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتهم    - عاجل محكمة الاموال العامة برئاسة القاضية سوسن الحوثي تحاكم دغسان وعدد من التجار اليوم الثلاثاء بعد نشر الاوراق الاسبوع الماضي لاستدعاء المحكمة لهم عام2014ا وتجميدها    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    عودة الزحام لمنفذ الوديعة.. أزمة تتكرر مع كل موسم    رئيس مجلس النواب: الفقيد الزنداني شارك في العديد من المحطات السياسية منذ شبابه    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    انخفاض أسعار الذهب مع انحسار التوترات في الشرق الأوسط    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    النقد الدولي: ارتفاع الطلب الأميركي يحفز النمو العالمي    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النعمان والحكيمي.. رائدا حركة التنوير اليمنية «محطات ومشاهد»
مقدمة في قراءة أولية
نشر في الجمهورية يوم 27 - 12 - 2012

الكتابة.. الحديث في أدوار الشخصيات والبحث فيها من أصعب المهام, وأكثرها حساسية, وتعقيداً, لطبيعة الأدوار وارتباطها بحركة المجتمعات من ناحية, ولتفاوت الآراء فيها بل واقتراحها من ناحية أخرى, واختلاط الحق بالباطل, والإنصاف بالتجني, والواقع بالافتراض, من ناحية ثالثة, وتحديداً تلك الشخصيات ذات التأثير في حياة المجتمعات ومسيراتها النضالية, ورحلاتها في اتجاه التغيير, وانجاز الأحلام في التحرر والانعتاق واسترداد الذات, وتقديمها ثانية للآخر بقالب جديد يتسم بالحرية والقدرة والإرادة والدور الواضح, ولهذا لا تعد كل كتابة سواء كانت مقالة أم كتاباً أو دراسة مستفيضة تتناول شخصيات من وجهه نظر البحث العلمي مقبولة, ويمكن الاعتماد عليها, لما سبق ذكره فضلا عن تداخل الذاتي بالعام, والرأي الخاص بالنقد العلمي البناء, والتحليل الموجه بالتحليل العلمي المنصف والموضوعي,
فالوقائع التي تشهدها الإنسانية على فترات التاريخ ومراحله المختلفة, ومن لحظات التاريخ المبكرة تفيد أن ما كتب ويكتب عن الشخصيات لا يكون خالصاً للعلم والتاريخ ووجه الحقيقة إلا فيما ندر, وكثيراً ما تظهر النزوات والأهواء والغيرة, والحقد السياسي, والعلمي, والأدبي, والثقافي, والضغينة السياسية والاجتماعية في ثنايا الكتابات على نحو صارخ, أو في عبارات مبطنة يتم تكييفها, وإلواء حقائق أو مواقف ومشاهد وإساءة تفسيرها عن قصد, وإصدار الأحكام التي قد يعتقد القارئ غير المدقق أنها جاءت في سياق طبيعي, وخرجت من رحم التاريخ, ومن قلب الأحداث ومن أسانيد موثقة, وأقوال مشهودة, وملفات جمعت وقرأت وحللت مادتها وتم توثيقها واستخلاص مؤشراتها.
وهذا لا يعني أن كل ما كتب في هذا السياق لا يمكن قبوله, أو يمكن الطعن فيه, بل هناك من الكتابات ما ترقى إلى درجات عليا من العلمية والموضوعية, وتحظى بثقة الباحثين ويقرها المعنيون سواء كانوا من المعاصرين والشهود أو من ذوي الاهتمام والمتابعة والإطلاع الواسع والمختص.
وفي مضمار الحركة الوطنية اليمنية بعامة وحركة الأحرار اليمنيين على نحو خاص, نشهد سيلاً متدفقاً لم يتوقف من الكتابات الممنهجة وغير الممنهجة, ومنها الذكريات, السير واليوميات ولكننا نشهد عليها ومنها غباراً مثاراً كلما ظهر جهداً جديداً, وتحديداً من جانب المعاصرين أ و المحسوبين على أطراف ذات تأثير في الحركة ومسيرتها, لأسباب تتعلق بمجالات التغييب والانتقاص حيناً من أدوار البعض, والتضخيم والمبالغة في أدوار بعض حيناً آخر, وإنكار أدوار البعض الثالث حيناً ثالثاً.. وهكذا في محاولة لشد الأحداث إلى حلبة يكون فيها الكاتب البطل الفرد صاحب الضربة القاضية في المجريات, أو ذلك الشخص الذي نتفق معه ونؤمن به, وتربطنا به رابطة من أي نوع, مذهبياً, طائفياً, أو برابط سلالي عائلي, قروي وماشابه ذلك, نلحظ هذا الأمر واضحاً جلياً في الكم الهائل والكبير الذي تناول الثورة اليمنية سبتمبر 1962م, التي اختلط فيها المعقول واللامعقول من الأدوار والمقبول واللامقبول من الأفعال والممارسات الثورية والتنظيمية لهذه الشخصية أو تلك, أو لهذا الفريق أو ذاك, الأمر الذي أفضى إلى نسج رؤية ضبابية حول “تنظيم الضباط الأحرار”, وقيادة التنظيم وتفاصيل يوم الحدث وما حدث قبله وما حدث بعده, وقصة الدبابة “المارد” ومن كان فيها ومن تعلق عليها وبها, وقراءة البيان الأول وصياغته ومن تلاه على الجمهور من إذاعة صنعاء,ودور السلال وجزيلان والأدوار التي تم اختراعها والأخرى التي تم طمسها!!
هذه الضبابية تجعل مهمتنا في الكتابة عن شخصيتين بارزتين, ومن أكثر الشخصيات الوطنية تأثيراً وريادة على أكثر من صعيد في مسيرة الأحرار والحركة الوطنية اليمنية, في محطاتها المختلفة, مسألة غاية في الصعوبة لا لندرة المادة التاريخية, أو الغموض في بعض المواقف أو غبش في بعض المشاهد والرؤى, ولكن لما صدر بحقهما من أحكام ظالمة حيناً, ومغالية حيناً آخر, والقفز على الحقائق والأحداث وتجنب التحليل الموضوعي وتسجيل الرأي المنصف حيناً ثالثاً, فالاستاذ النعمان على سبيل المثال ناله ما لم ينل غيره من التشويش على دوره, وكيلت له التهم زرافات ووحداناً, ووصل الأمر إلى اتهامه بالعمالة والخيانة وتم سحب جواز سفره, وجنسيته اليمنية, وتجريده من كل ما له صلة باليمن الذي ضحى لأجله وقدم على محرابه الغالي والنفيس, على الصعيد الشخصي والعائلي, وحين انتقل إلى جوار ربه صار وطنياً من الطراز الأول, والرجل الذي صنع التحولات, وكان فارقاً في نضالاته وتضحياته التي لولاها لما نعم جيلنا الحاضر بما ينعم به من خير الثورة والجمهورية, كما أن له الفضل في صناعة الظروف التغييرية التي حققتها اليمن بفضل نضالات جادة ومخلصة ونزيهة, جسدها الأستاذ وجيله من الأحرار كما قيل بعد الوفاة, وفي لحظات التأبين التي علق عليها المرحوم عمر الجاوي وانتقدها, وأعلن أنه لن يسمح لأهله بتكرار هذه المهزلة التي اسمها التأبين, والتي تأتي بعد أن تكون الشخصية قد تلقت العديد من اللكمات والصدمات والتهم, والتجريد من الوطنية والفعل النبيل.
وبالمثل طعن بسيرة الشهيد المجاهد الشيخ عبد الله علي الحكيمي الذي ظل لفترة زمنية طويلة مغيّباً وخارج دائرة الضوء بذرائع أنه من أصحاب الأدوار الثانوية, وأنه لم يكن في صدر الأحداث وقبلها, وأنه مجرد شخصية صوفية مهاجرة, سطت على أموال الجالية, وعبثت بإسمها لإضافة أدوار ومكاسب شخصية.. وغير ذلك من التهم التي تنكرها الأحداث وتشهد أنه كان قامة فارقة أحدثت فتحات واسعة للضوء, وحفرت على الأرض مساراً واضحاً للتغيير, وعمدت ذلك بالتضحية بالمال والنفس وسقط شهيداً على هذا المسار الذي يعلمه القارئون المنصفون للتاريخ, ومات مطمئناً لجهاده, قرير العين بممارساته التي استهدف بها وجه الله, ومن ثم وجه الوطن وأوصى بها بنيه.
ومع كل تلك الأشواك, ومع كل تلك الشوائب, إلا أنها اشواقنا وتقديرنا لأدوار صانعي التغيير, ومؤسسي حركة التنوير, جعلتنا نقدم على الكتابة والحديث عن هاتين الشخصيتين ويسمح لي الحاضر المستمع, والقارئ الراصد أن أبحر في تاريخهما بأدوات البحث العلمي, وبرؤية أزعم أنها محايدة وبجهد اتطلع أن يكون منصفاً, أرجو أن يسدد عثراته إن ظهرت من يقف عليها, وأن يتجاوز عن خطأ لم أكن أقصده في تحليل أو تصوير أو استخلاص, علماً أن الباحث لن يدلف إلى جوانب خلافية أثيرت من هذا الجانب أو ذلك, قدر ما سيركز على محطات تنويرية بناها كل منهما, وشيد مداميكها كل بالقدر والمستوى الذي مكنته قدراته وإمكاناته المالية والثقافية والفضاءات النضالية التي تحرك فيها وفي أجوائها.
المحطات:
لكل منهما طبيعته الخاصة وظروف عائلية واجتماعية وتعليمية, أسهمت في تشكيله وصياغة وعيه السياسي, وفكره التنويري ولذلك سنعمد إلى الحديث العام أولاً, عن طبيعة المحطات, ثم سندلف إلى تناول كل شخصية على حدة, ثم نقف على المشترك, بينهما في مضمار التنوير على طريق التغيير والانتقال إلى حيث أراد كل منهما لليمن أرضاً وإنساناً من نماء وتقدم ولكل أبناء اليمن من حياة كريمة ينعمون بها بحرية وفيرة, وعدالة شاملة واستقرار تام وناجز ونبدأ ب:
أولاً: المحطات العامة ذات الطبيعة المشتركة من حيث الغاية:
المولد والنشأة: جاءت ولادة كل منهما في قرية من قرى الحجرية, وفي ظروف تاريخية غاية من التعقيد على أثر الوجود التركي, وظهور الدولة الإمامية الأحمدية, وبروز حروب واضطرابات داخلية وإقليمية وعالمية كان أبرزها الحرب العالمية الأولى, والثانية وما نتج عنهما من إعادة تشكيل للعقل والخارطة العربية, وما تلاهما من ولادات كثيرة لحركات فكرية وسياسية وطنية وقومية وإنسانية تدعو إلى الحرية والتعايش السلمي, وحق العرب والمسلمين في العيش بكرامة وعزة وفي ظل أنظمة تحترم الحقوق وتصون السيادة, وتكرس الحق العام وتعززه بالقول والممارسة. واللافت للانتباه أن لكل من الشخصين مع الأتراك قصة مختلفة, ففي حين كانت لأسرة النعمان صداقات تركية كان لوالد الشهيد الحكيمي خصومة معهم أدت إلى هجرته إلى مدينة عدن, ومن ثم التحاق الشهيد بالكتيبة اليمنية الأولى بعدن.
وفي جانب التعليم, درس كل منهما في كتاب القرية, واختلفا في المراحل الدراسية الأخرى, إذ ذهب الأستاذ إلى زبيد والقاهرة وذهب الشيخ إلى عدن والجزائر, وفي حين درس الأول الفقه درس الآخر التصوف وتتلمذ على مشيخته على الطريقة العلوية الشاذلية.
من حيث الدعوة: اتسمت دعوة ونضالات الأستاذ بالطابع السياسي المتآلف والمنظم في حين اتسمت دعوة الشيخ بالروح الجهادية الصوفية السامية والعمل المجتمعي الهادف إلى الارتقاء ليس فقط بالوطن اليمني بل والعالم الاسلامي قاطبة... ومن ثم كان الأستاذ والشيخ متدرجين في الدعوة على المستوى المحلي, والوطني, ثم القومي والإسلامي, والإنساني قاطبة, وظهر ذلك جلياً في المخلف من الكتابة المتنوعة التي حملت على نحو واضح كل تلك الاهتمامات وجسدت كل تلك الدوائر.
أتكأ كل منهما على التنوير غاية ووسيلة واتجه كل منهما نحو المدرسة أساساً لهذه الدعوة ونافذة لهذا التغيير فأسس كل منهما مدرسة في قريته “ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” ثم اتجه كل منهما إلى المسجد محوراً ارتكازياً للتغيير فكان كل منهما أماماً وخطيباً وداعية شهدت له المنابر, في كل المستويات والأصعدة..
اتجه كل منهما نحو القلم والكتابة الصحفية وبدأت الممارسة بالعمل الصحفي فأسس كل منهما جريدة, إذ أسس الأستاذ النعمان مجلة اليمن الخضراء في القاهرة, وصوت اليمن بعدن والقاهرة بشراكة مع توأم روحه وزميل نضاله الشهيد الزبيري رحمة الله عليهما جميعاً, وأسس الشيخ صحيفة السلام التي ظهرت حين اختفت كل الأصوات أثر فشل ثورة 1948م, الدستورية. .
اتجه كل منهما نحو المغترب اليمني كخط مواجهة ونسجا مع المهاجر اليمنية علاقات حميمة, أثمرت تلاحماً عضوياً بين المهاجر والوطن على قاعدة راسخة من العمل الوطني لانقاذ اليمن الأرض والإنسان..
اتجه كل منهما نحو لم شتات المناضلين اليمنيين في أطر تنظيمية إذ عمل الأستاذ على تأسيس حزب الأحرار, الجمعية اليمانية الكبرى, وعمل الشيخ على تأسيس الاتحاد اليمني بعدن, وكان على الطرف الآخر في القاهرة الأستاذ ان النعمان والزبيري على رأس الاتحاد اليمني هناك..
اتجه كل منهما نحو إقامة علاقات سياسية مع الأنظمة العربية والإسلامية وتوظيفها لصالح القضية اليمنية, من ناحية, والارتقاء, بالشباب اليمني بالحصول على فرص تعليمية عليا لهم, وهذا ما حدث من كل منهما مع مصر عبد الناصر, وكان جهد الشيخ الحكيمي في اتجاهين, الأول اتجاه الشباب اليمني المغترب ببريطانيا والثاني, اتجاه الشباب اليمني في عدن والداخل الشمالي.
عمد كل منهما إلى التأليف والنشر فصدرت لهما أعمالاً عديدة منها ما رأى النور ومنها ما زال في زوايا حبيسة خزائن ورؤوس وشخصيات نسأل الله لها الفرج.
عمد كل منهما إلى الحوار والكلمة أساساً للتنوير والاقتناع فعملا لأجلها وذهبا في كل جهد لهما لإعلائها, وشهد لهما بالقدرة على ذلك العديد من الشخصيات الوطنية العربية والإسلامية..
عمد كل منهما إلى تكوين علاقات صداقة وتعاون مع النخب والشخصيات الفاعلة على المستوى الوطني والقومي والإسلامي, وتوج ذلك بوصول الأستاذ إلى اتحاد الأدباء والكتاب العرب بدمشق ووصول الشيخ إلى قمة الجالية الإسلامية ببريطانيا.
ثانياً: المحطات الخاصة:
المحطات: سنعمد إلى تناول كل شخصية على حدة, ونبدأ أولاً: بالأستاذ أحمد محمد نعمان:
ونجد من المفيد أن نستهل ذلك بتشخيص النعمان لمراحل التطور يقول الأستاذ النعمان واصفاً تطور قناعاته وقناعات رفاقه الأحرار من الإصلاح إلى الثورة:
“بدأنا إصلاحيين وطمعنا أن تتم تلك الإصلاحات على أيدي الحكام, فلما علمتنا التجارب, آمنا بأن الإصلاح على أيدي الحكام طوعاً أو كرهاً خرافة”.
“يا أبناء اليمن في الداخل والخارج, لقد قضيت ربع قرن كامل, وأنا أعيش محنتكم, ومشاكلكم غريباً من أجلكم مناضلاً في سبيل حريتكم, والله ما فكرت يوماً من الأيام ولا خطر على بالي أن أغشكم, أو أخدعكم أو أضللكم, لقد ذهبت أسرتي كلها وأولادي وأصدقائي وأحبابي وزملائي وأعزائي طعاماً للسجون والمشانق والجلد والتعذيب والنفي والتغريب, ذهبوا جميعاً بأنفسهم وأموالهم ونسائهم وأطفالهم.. كل ذلك من أجل حريتكم وفي سبيل سعادتكم.. لم أمُن عليكم ولم أعلن الشكوى ولم أستدر العطف والشفقة والرحمة” وأيضاً من تشخيصاته:
“إن الأمم الجاهلة ليست إلا قطعاناً من السوائم, وآلة مسخرة يعبث بها كل مستبد ظالم, ومستعمر غاشم”.
في البدء هناك حقيقة مطلقة في حياة الأستاذ مثله مثل أي شخصية سطع نجمها وتبوأت موقعاً متقدماً في الحياة السياسية, وصار علماً من أعلام اليمن الذين أسهموا في تأسيس الحركة السياسية الحديثة, أنه تدرج في حياته, ولم يخرج إلى الناس شخصية مستنيرة وداعية سياسية إصلاحية, ثم شخصية ثائرة على نحو مفاجئ, قدر مروره بمحطات أوصلته بالمحصلة إلى المكانة التي استوى عليها.
فمن هو الأستاذ؟ وما هي المحطات التي مر بها؟ وأين هي محطة التحول وما هي العوامل التي أثرت عليه ونقلته إلى منصة التغيير, ودائرة التنوير وخندق الثورة؟
فيما يأتي من صفحات نتناول هذه المحطات, ونجيب على هذه الأسئلة:
مولده ونسبه: كان مولده في 6 ربيع الآخر 1327ه, الموافق 26 أكتوبر 1909م, في ذي لقيان ذبحان,
نسبه: هو أحمد محمد نعمان بن مقبل بن علي بن شمسان بن محمود بن عبد الله بن ناصر بن عبد الكريم بن المنتصر المسعودي البناء.. وتشير العديد من الكتابات أن جذر عائلة النعمان يرجع إلى خبان وادي بناء..
واعتماداً على ما كتبه الأستاذ عن حياته, فقد كانت ولادته في أسرة فلاحية بسيطة امتلكت قدراً من العلم, وتمكنا بواسطة حسن التعامل مع الناس من بسط مكانة اجتماعية محترمة, صارت مع الزمن مكانة مرجعية تطورت إلى المشيخة وتدبير شئون الناس, كان الجد الأول نعمان على علاقة طيبة مع الأتراك, ومنح لقب “بك” عقب رحلة قام بها إلى استانبول مع مجموعة من مشائخ اليمن, وتقلد بعدها منصب قائم مقام الحجرية, وهي مرتبة زادته تثبيتاً على الأرض ورسخت موقعه الاجتماعي.
تكوينه التعليمي: يروي الأستاذ رحلته التعليمية عبر الحديث عن الدراسة بمعلامة القرية, وكتابها, ثم عبر ثلاث هجرات قام بها إلى بني عمر, زبيد, والقاهرة.
ويفيد الأستاذ أن شيخاً من بني عمر اسمه محمد فارع كان يزورهم في منزلهم.. “فاقترح الشيخ على والدي ّ أن يسمح لي بالسفر معه إلى بني عمر للدراسة خلال الفترة التي سيقضيها في قريته حتى يرجع إلى عمله في عدن, وقد تم ذلك”, وكان المفترض أن يسافر النعمان مع أستاذه إلى عدن إلا أن بعض أقاربه اعترض على هذه الفكرة بحجة أن في عدن نصارى فضلاً عن أن اعتقال الشيخ عبد الوهاب نعمان لم يمر عليه أكثر من سنة, وقد يساء التفسير ويغضب الامام وممثله علي الوزير, كما جاء في عرضه لحياته.
الهجرة الثانية: كانت لزبيد, وهي الهجرة التي أهلته فقهياً, وأعدته للقيام بالتدريس في قريته بعد عودته, وقد اكتسب من زبيد علوم اللغة والدين, فعاد يحمل لواء العقيدة برؤية سلفية كما يصف ذلك بنفسه في مذكراته.. وتمتد هجرته في زبيد من 1343-1350 ه, الموافق 1923-1930م,
وكانت عودته كما يصفها: “عدت من الحجاز مواصلاً للدراسة بزبيد حتى سنة 50ه, فجاءني نعي والدي رحمه الله, وحالت وفاته بيني ومتابعة الدرس, واضطررت للرجوع إلى البلاد لأخلفه في منصبه الذي كان يشغله, وأهم عمل آخر أيامه الاعتكاف في المسجد تالياً للقرآن وملازمة الأوراد التي كانت مقرة عليه, وطبيعي أن الولد شديد التقليد لأبيه, فكنت أنا وأخوتي نتزاحم على مركزه, وكل واحد يرى أنه الأ حق بوراثته في السلطة الروحية وترؤس حلقة الذكر والمرجع للمتخاصمين من أهل بلدنا, للصلح والإصلاح, وقد ساعدتني قراءتي بزبيد كثيراً على تحقيق رغبتي, واكسبتني شهرة جعلتني أتغلب على الأخوان, وأستأثر بتلك السلطة المؤيدة من مشايخي علماء زبيد وإجازتهم”.
وبهذا صار الشاب, علماً وشيخاً يقصده الناس لأغراض التعلم والفتوى والرقية والعلاج, حسب ما جاء في مذكراته “وقد أصبح للناس فينا عقيدة عظيمة يستشفون بالتمائم والحجب والمحو من عندنا ويحسنون ظنهم بنا إلى حدٍ كبير, وأن لنا أسراراً ربانية وكرامات ظاهرة”.
من هذا الوصف نتبين أن النعمان لم يكن عقب عودته من زبيد حاملاً لمشعل التنوير أو رافعاً لشعار الإصلاح أو التغيير, بل على العكس تماماً, كان رحمة الله عليه, يؤمن إيماناً مطلقاً:
بالمدرسة الفقهية التقليدية بالامام ونظامه ووجوب طاعته وقد عبر عن ذلك صراحة بمذكراته وكما يأتي:
“ وقع في يدي كتاب اسمه “هدي الرسول” أختصره محمد أبو زيد المصري, من زاد المعاد, ووضع له مقدمة وخاتمة, قارن فيهما بين هدى محمد في التعاليم الإسلامية وبين كتب العلماء في الفروع، وما كدت انتهى من مطالعة الكتاب حتى تغيّر فكري تغيراً مفجعاً, وتلاشت إلى نظريات وانسحبت انسحاباً تاماً, وبغضت المسلك الأول, فأعلنت بكل صراحة وجلاء العدول عن مساوئ ذلك المسلك, واتجهنا نندد بها وبأنصارها, فأنصرف عنا كثيراً من الأصدقاء والأنصار, وجفونا جفاء مراً, وتآمر “مشائخ الطرق” علينا واجلبوا بخيلهم ورجلهم وبثوا دسائسهم فنجانا الله من كيدهم, مع الاعتراف بأضرار بسيطة”.
وكان الأستاذ قد بيّن في موضع من مذكراته أنه تعرف بولي العهد آنذاك أحمد حميد الدين.. وتعلق بشخصيته: “ وقد تعرفت سنة 47ه, بمولانا ولي العهد أثناء إقامتي بزبيد وزرته في “الجاح” إحدى قرى بلاد “الزرانيق” أيام حصاره لها, ورابطت معه شهراً كاملاً, وهو أول تعارف مع شخصية عظيمة أثرت في نفسي, وأضاءت جوانبي, ثم زار مدينة زبيد فأجتمعت به مرة أخرى وسمعت صوته الجهوري يدوي في منابر الجوامع, فكان ذلك الصوت رسولاً إلى روحي يكشف حيرتي, ويحفزني للعمل ويفتح على باب الحكمة, وكأنه يعدني لمثل هذه الأيام ولما يليها”.
وعودة إلى كتاب هدي الرسول, فقد بيّن الأستاذ مدى الانقلاب وحجمه الذي أحدثه الكتاب في حياته إذ نقل بعضاً مما كتبه أبو زيد وعلق عليه نورده نصاً:” ماذا نفعل نحن في مدارسنا؟ ويجيب نحن نتنازع حول جلود الميتة وطهارتها, وهم يدخلونها المصانع والمعامل, نحن نتجادل حول تأبط شراً, وعمرو بن معدى كرب وفي التركيب المزاجي, وهم يركبون الأسلاك والمدافع.. نحن ننقب في مسائل الحيض والنفاس, وهم ينقبون تحت البحار, وبعد ذلك يقف خطيباً على المنبر في المسجد فيقول: من صام ثلاثة أيام من رجب غفر الله له ذنوبه. كان وقع هذه الأفكار على نفسي مثل الثقاب, لأني كنت قد مررت بأزمة”
هذا الوصف يشير إلى أن تحولاً نوعياً قد حدث في وعي الأستاذ وقناعاته التقليدية التي بدأت تهتز على نحو محدود في زبيد واشتد اهتزازها حين التقى بنخبة من الشباب في مجلس الحلالي.. ثم جاءت الزلزلة لتلك القناعات بواسطة مباشرة وغير مباشرة لدور وتأثير التنويري الأول الأستاذ محمد أحمد حيدرة, أما كيف حدث هذا التحول على النحو الذي صار إليه, فإنه يتطلب منا وقفة متأنية على عوامل التحول والمؤثرات التي أفضت إليه, وهذا ما يمكن عرضه على النحو الآتي:
الأولى: وهي التي حدثت بعد عودته من زبيد ومباشرته لنشاطه التدريسي إذ تشكل مجلسان الأول بقرية الجبانة, والثاني في جامع الحلالي, وكان للحلالي مجلس اكتسب أهمية خاصة في تكوين نقاط التحول في حياة الأستاذ رحمة الله عليه, إذ بدأت صولات الحوار وجولات الجدل بين القديم والجديد, فقد كان المجلس يشهد حضوراً لفتية تأثروا بتيارات الجديد وسعوا إلى نشر الوعي به وعلى رأسهم كان الأستاذ محمد أحمد حيدرة, ومع شباب متطلع هم غيلان الحكيم, عبد الباقي الحمادي, عبد الباقي مقبل غانم, والسيد عبد الباري الرفاعي”.
الثانية: وتمثلت هذه الهزة بوقوع كتب تنويرية بيده, وكان الفضل في هذه الهزة للقاضي عبد الله عبد الإله الأغبري مؤسس مدرسة حيفان, والذي تعرف عليه علي محمد نعمان, الأخ الأكبر للأستاذ الذي كان عاملاً في ناحية حيفان واطلع على الجهد التنويري للقاضي ومن خلاله تم اللقاء بين العلمين, ويذكر المؤرخ بعكر رحمه الله, أن الأستاذ سجل بصوته هذه الهزة وأشار فيها أن القاضي أهدى له كتاباً, وتبيّن أنه ذلك الكتاب المشار إليه آنفاً وهو “هدى الرسول” لمحمد أبو زيد, وبالإضافة إلى هذا الكتاب وقع في يد الأستاذ كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي”. وعن هذا و ذاك قال الأستاذ: وقع في يدي كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي وكتاب هدى الرسول لمحمد أبو زيد, “فانتقلنا إلى مرحلة الديانة الإسلامية المجردة من الخرافة, وجاء كتاب طبائع الاستبداد, وهدى الرسول, وإذا بنا ننتقل إلى الحكم والسياسة, إلى طبائع الاستبداد, وطباع المستبد.
الثالثة: وهي الهزة الأشد: كان الأخ الأكبر للأستاذ علي محمد نعمان, قد أستقدم الأستاذ محمد أحمد حيدره, للتدريس بمدرسة ذبحان الجغرافيا والتاريخ, ويعمل شريكاً للأستاذ ويتشاطر معه العبء التدريسي, إلا أن الأستاذ لم يتقبل هذا الأستاذ رائد التنوير, وظل يترصد له الأخطاء التي يعتقدها وفق فكره وقناعته التقليدية, هذا الترصد انتهى إلى أن شكل حيدره في المحصلة نافذة مهمة طل منها الأستاذ على الجديد, وانتقل بواسطتها إلى رصيف التنوير ومحطة التغيير, رغم إضراره بالأستاذ حيدرة ومحاولة التسبب بإيذائه.. ويصف الأستاذ النعمان هذه الهزة علي النحو الآتي:
“محمد أحمد حيدره, جاء به أخي من عدن كي يعلم التلاميذ الذين يدرسون هذه المواد في حين أعلمهم أنا الأناشيد, ودخلت إليه رأيته بلباس لا يدل على أنه عالم, وإنما سوقي.. وتبين لي فيما بعد بأن الأستاذ “حيدرة” يعزف على العود فقلت بأنه فاسق ويجب طرده من البلد, لأن بقاءه سيجلب كارثة على البلد, وغضباً من السماء.. لابد من طرده.. ولكن أخي لم يقبل بطرده, بل صمم على بقائه.. وبقي الأستاذ يعلم.. ومرة سمعته يعلمهم أن الأرض كروية, وهنا جن جنوني, ولم أعد أستطيع الصبر “كيف يقول ذلك والله سبحانه وتعالى قال “والأرض بسطها للأنام”, وهذا الزنديق الكافر, يقول إن الأرض كروية... فقلت للآباء يجب طرده من المدرسة.
حجم التأثير: ومع هذا, ومع سعيه الحثيث لطرد الأستاذ حيدرة, وهو ماتم بالفعل إلا أن الأستاذ اعترف بتأثير حيدرة, فقال: “كنت بيني وبين نفسي مسروراً من ذلك (أي نشاط حيدرة لاسيما تلحينه للأناشيد) ولكن لا يمكن أتراجع أمام الناس الذين حرضتهم, وأن أغير رأيي بسهولة, أما في قرارة نفسي فكنت متضايقاً من الوضع, وكنت مستروحاً لما يفعله الأستاذ حيدرة”.
وفي هذا السياق أشار الأستاذ: “كان الأستاذ حيدره قد جلب معه الكتب العديدة وتركها وذهب ابتدأت أقرأ فيها, وإذا بكتب التاريخ فيها شرح لحاضر العالم الإسلامي. بقيت أقرأ وألتهم الكلمات, وأغيب الفصول غيباً مثل غرائب الغرب لمحمد كرد علي. كنت أغيب الفصول عن تطورات الشرق والغرب أول شيء قمت به أن عملت لإعادة الأستاذ حيدرة, وأعددت له المنزل وحشدنا الطلاب وأطلقنا لهم الحرية, وقمت أنا بتدريس اللغة العربية بأسلوب حديث”.
وقد أنعكس ذلك التأثير بهزاته الثلاث على واقع العمل بالمدرسة التي تحولت إلى موطن لصناعة التغيير, وصياغة التنوير في أذهان الطلاب, وعن ذلك ذكر الأستاذ: “بدأت تلك المدرسة تنشأ وتؤثر وتشتهر ثم أنشأنا مكتبة, وبدأت الأمور تسير رويداً رويداً إلى أن دخلنا في صراع مع الحكومة، وكان لابد أن يحدثوا لنا فتنة, ولابد أن يفصلوا هذا البلد كما فصل لبنان وسوريا”.
جاء ذلك في سياق ما قاله أحد أبناء الإمام الذي زار المدرسة أثناء زيارته للحجرية, إذ روى الأستاذ أنه قال: جاء أحد أبناء الإمام إلى الحجرية, ومعه الأمير على الوزير 1935م, وقال ذبحان هذه ستكون لبنان.
مما سبق يتضح حجم التأثير الذي تعرض له الأستاذ, والذي نقله نقلة نوعية كبيرة في فكره ومعتقده وممارساته على الأرض, وصلت إلى ذروتها بالصدع بالرأي والدعوة إلى الإصلاح, ومن ثم التغيير إلى أن وصل ومعه رفاقه إلى الثورة في عام 1948م, والتي جاءت ثمرة لمحطة ثانية من محطات وعوامل أثرت فيه وخطت مرحلة جديدة في حياته الكفاحية وجهده التنويري, وكانت البداية في القاهرة والتي تشكلت على النحو الآتي:
مؤثرات اتصلت بالأزهر الشريف: وهو المحيط العلمي والعقدي والثقافي الذي أحاط بالأستاذ وشكله فكرياً.
مؤثرات الصحافة: وهي البيئة العملية التي ارتبط بها الأستاذ وعمل فيها, ونسج بواسطتها علاقات حميمة مع أساطين الصحافة آنذاك, ومن أشهرهم أبو الحسن والأمير شكيب أرسلان, والفضيل الورتلاني, عبد الكريم الخطابي, وسعد الله الجابر, وحسن البناء والشيخ عبد الله القصيمي, والشيخ عبد الله بالخير, وعبد العزيز حسين. لطفي ص168.
مؤثرات السياسة: وهي البيئة التي أغنت اتجاهاته السياسية ومساعدته على إنضاج وعيه السياسي, وقد حققت له هذه البيئة التآثر والتأثير, والفعل والانفعال مع قادة ورموز الاتجاهات السياسية البارزة في الشارع السياسي المصري آنذاك, وقد مكنه ذلك من التعريف باليمن ومعاناته, وعبر عن ذلك بالكتابة الصحفية وفي اللقاءات التي جمعته بالسياسيين والمفكرين العرب.
وفي هذه المحطة, بدأ وعيه التنظيمي يتشكل على نحو واضح, وتجسد ذلك بتأسيس الكتيبة الأولى “كتيبة الشباب اليمني” وهي أول صيغة عمل مؤسسي تألفت من أبناء اليمن الدارسين بالقاهرة من شطري الوطن ومن أبرز الرموز الذين تألفت بهم الكتيبة محمد علي الجفري, سالم الصافي ومحمد سالم البيحاني محمد الزيدي, محمد صالح المسمري, عبد الله الوزير, يحي زيارة.
وأصدر في القاهرة أول وثيقة تدين أساليب الحكم الأمامي تحت عنوان “أبناء اليمن في مهاجرهم يشرحون أسباب الهجرة للأمير سيف الإسلام ولي العهد أحمد بن أمير المؤمنين نصره الله” وعرفت بالآنة الأولى وهي أول بذرة للمعارضة الوطنية, كما سعى إلى إصدار مجلة اليمن الخضراء.
الثابت أن محطة القاهرة, كانت من أكثر المحطات تأثيراً, في شخصية الأستاذ فهي محطة متقدمة في الثلاثينيات, وهي محطة متقدمة في الخمسينيات حين عاد إليها الأستاذ بعد فشل حركة 1955م, وهي محطة تعرض فيها الأستاذ لأزمة سياسية وفيها كتم صوته بعد إن كانت النافذة الأكثر اتساعاً لصوته وأصوات الأحرار الذين تقاطروا عليها في فترات مختلفة لاعتقادهم أن مصر هي الحاضنة للأمة وهي الرئة التي تتنفس بها الأمة عن ما يسكنهم, وازدادت قيمتها في عهد عبد الناصر رحمة الله عليه.
الثابت أيضاً: أن فترات بقائه وإقامته بالقاهرة, أتاحت له فرص الاندماج بالمجتمع المصري النخبوي, السياسي والثقافي, الذي شكل لوحة ذات ألوان عديدة من حيث المشارب والاهتمامات والمواقف المهنية, والأدبية, في صورها الصحافية, السياسية الاحترافية, وجلها من مشكاة الدعوة إلى الإصلاح والتحول في واقع الأمة العربية والإسلامية, ومن أهم الشخصيات التي تلاقحت مع الأستاذ وشكلت معه نسيجاً متناغماً تفهمت رسالته وعملت معه على ترجمتها كلٍ بالوسيلة المتاحة له, هي: محمد علي الطاهر صحافياً فتح صحيفة الشورى لقضية اليمن, ومكن الأستاذ من الكتابة والإيضاح المفصل للواقع الأليم والمؤسف الذي كان يعيشه المجتمع في اليمن.. ومن بعدها صحيفة الصداقة, ومعها صحيفة الرابطة العربية التي حررها عبد الغني الرافعي, فضلاً عن صديق الأستاذ شكيب ارسلان, الأديب اللبناني العربي البارز والسياسي الذي وصل في ارتباطه بقضية اليمن إلى دائرة الثورة الدستورية, وصار ضمن تشكيلتها الحكومية.
مشاهد المحطات:
محطة تعز:
بعد عودته من القاهرة, استقر بمدينة تعز, حيث كان سيف الإسلام أحمد يقيم ويتولى الإشراف على اللواء, فضلاً عن كونه نائباً للإمام وولياً لعهده, فهو من ارتبط معه بعلاقة منذ كان طالب علم بزبيد وقد تأثر به وعلق عليه آمالاً عريضة في احداث تغيير يحقق تحسيناً في الأوضاع العامة, وفي أوضاع الإنسان اليمني المعيقة والصحية والتعليمية وغيرها.
أوكل ولي العهد للأستاذ وظيفة مدير معارف لواء تعز, وقربه منه وصار من جلسائه ومستشاريه ومعه كوكبة من خيرة أبناء اليمن الذين تعاملوا مع الكلمة واكتسبوا رؤى معاصرة للحكم تتوق إلى الإصلاح والحياة الأفضل للمواطن والوطن, وبما يخفف من معاناة الناس ومن ثم زوالها.
التحق بالأستاذ في تعز الأستاذ محمد محمود الزبيري, وشكلا معاً ثنائياً دعوياً للإصلاح والتغيير ومعهما الأديب أحمد محمد الشامي, الأستاذ زيد الموشكي, والأستاذ إبراهيم الحضراني, والأستاذ علي ناصر العنسي والأستاذ محمد عبد الله الفسيل, وغيرهم, وتآلف بهم جميعاً منتدى ولي العهد الذي شهد لقاءات أدبية راقية, ومجالات أدبية وثقافية ومعرفية متنوعة. وكان المنتدى ساحة تبار بين فرسان الكلمة شعراً ونثراً, وحظي الأستاذ بلقب خطيب اليمن بينما حظي الأستاذ الزبيري بشاعر اليمن.
امتد المنتدى وامتدت الآمال المعلقة بولي العهد إلى 1944م, حين سقطت وتهاوت بعد بناء استغرق سبع سنوات, بإعلان ولي العهد موقفه الرافض للإصلاح والتغيير, ومن ثم كشفه لحقيقته التي ظل يخفيها مراهناً ليقف على ما يعتمل في عقول ونوايا طليعة المستنيرين وقد عبر الأستاذ عن هذا الانقلاب في موقف ولي العهد.
وأمام هذا الانقلاب على المستنيرين, لم يكن أمام هؤلاء خيارات للنجاة بأنفسهم سوى خيار مغادرة تعز ومن ثم الشطر الشمالي والتوجه إلى مدينة عدن في الشطر الجنوبي.
وتم ذلك بالفعل وكانت رحلة الأستاذين النعمان والزبيري واحدة من رحلات متعاقبة, بدأت بالأستاذ عقيل عثمان والشيخ مطيع دماج ثم الشيخ عبد الله الحكيمي, ومن بعدهم الأستاذان النعمان والزبيري, لتكتمل بالأستاذين الشامي, والموشكي, وبهذا أغلقت محطة لتفتح محطة أخرى من محطات رحلة الأستاذ ورفاقه على طريق الإصلاح, ثم الثورة, وهي محطة من أكثر المحطات تأثيراً في مسيرة الأحرار إذ مثلت نقطة تحول من الغزل السياسي, إلى فراق وإعلان صيغة نضالية منظمة.
محطة عدن في الأربعينيات:
في محطة “عدن” قرر الأستاذ ومعه زملاء رحلته تشكيل حزب الأحرار في يونيو 1944م, وفق برنامج ورؤية إصلاحية سياسية, وبأدوات تثقيف وتوعية, كالصحافة والبيانات السياسية, ومن أبرز الصحف التي فتحت صفحاتها للأحرار “فتاة الجزيرة”.
ومن أبرز الكتاب الذين كتبوا بأسمائهم الصريحة الأستاذ عقيل عثمان, ومطيع دماج ونتيجة لمضايقات السلطات الاستعمارية للأحرار تحول مسمى الحزب إلى الجمعية اليمانية الكبرى, 1946م,
وفي هذا التحول, اتخذ الأحرار وسائل جديدة منها, امتلاك مطبعة, وإصدار صحيفة”صوت اليمن” ونسج علاقات مع قوى سياسية واجتماعية داخل الوطن وخارجه وتحديداً مصر, وعلى نحو أكثر تحديداً حركة الأخوان المسلمين.
مثل الأستاذ في هذه المحطة التي امتدت إلى 1948م, عنصراً حياً في تنشيط حركة الأحرار وتوجيه أنشطتها السياسية والصحافية, والتنظيمية والتوسع بها إلى مهاجر اليمنيين في أفريقيا وأوروبا.
محطة السجن: تمكن الأحرار من القيام بثورة دستورية في 19فبراير 1948م, وكان الأستاذ مع قيادة الجمعية اليمانية الكبرى والأحرار المقيمين بعدن قد أعدوا أنفسهم للانتقال إلى شمال الوطن لمساندة الثورة وتثبيت قواعدها ومداميكها والمشاركة في حكومة الثورة, إلا أن الأقدار شاءت أن يصل الأستاذ إلى ذمار ويقع تحت طائلة الاعتقال, والترحيل إلى صنعاء ثم إلى حجة مقيدين بقيود لا تمكنهم من الحركة, وكان أبشع قيد وأكثرها قوة من نصيب الأستاذ.
ورغم مرارة السجن وقوة السجانين استمر الأستاذ بدوره التنويري بواسطة التعليم والصحافة التي أسست في السجن. وعند إطلاق سراحه من السجن فرضت عليه الإقامة الجبرية في حجة، فعمل معلماً بمدرسة حجة ومشرفاً عليها, وهنا تمكن من الاستمرار بدوره التنويري الذي أنتج كوكبة من الفتية الذين صاروا شباباً وحملة لراية الأحرار وأفكارهم “ليحدث نعمان بعدها تغييراً وتأثيراً سحرياً على المجتمع “اللحجي” إذ حول السجن المظلم إلى مركز تنوير وتعليم لأبناء المساجين والرهائن وبعض أهالي المنطقة, ثم افتتح خارج السجن بإذن الإمام المدرسة المتوسطة, وصار عدد من طلابه فيها رموزاً فيما بعد للثقافة والسياسة والإدارة, إلا أنها أغلقت لما بدأ تأثيرها واضحاً في تفكير الطلاب ومنهم: د. عبد العزيز المقالح, د. محمد عبد الملك المتوكل, ود. محمد علي الشهاري.
واستمر هذا الدور إلى عام 1955م, حين حدث تحول مهم انتقل به الأستاذ إلى محطة جديدة.
محطة تعز 1955م:
انتقل الأستاذ إلى تعز مقر الإمام الجديد, بعد العفو عليه, وقربه الإمام إليه وأوكل إليه مهمة الإشراف على التعليم باللواء, ولكن الأحداث عجلت بمشاهد هذه المحطة وجعلتها سريعة إذ قام المقدم الثلايا ورفاقه بحركة انقلابية على الإمام أحمد لصالح أخيه عبد الله استمرت لأيام ثم سقطت سقوطاً مريعاً, بسقوط كوكبة جديدة من شهداء الحرية والتغيير,
وفي هذه الأحداث كان الأستاذ مشاركاً قلقاً لم يستقر على موقف, وأعتمد على تمثيل دور المؤيد لينفذ بجلده, فقد أغتنم فرصة تكيلفه بالسفر إلى الحديدة ومن ثم حجة لإقناع الأمير البدر ونواب الإمام والشخصيات المؤثرة في الحديدة, بيد أن بوصلة الأستاذ تم توجيهها وجهة أخرى بعد لقائه بالأمير البدر نجل الإمام إلى السعودية لمقابلة ملكها وطلب العون لإنقاذ الإمام أحمد ونظامه, فتم ذلك, وتوجه الأستاذ بصحبة السيد الشامي, وحين وصلا وقابلا الملك سعود كانت الموازين قد تغيرت وانقلبت لصالح الإمام أحمد, وفشل الانقلاب.
وقد أراد الأستاذ اغتنام هذه السانحة مع كل آلامها وجراحاتها والقيام بجهد تنويري في اتجاه الإمام ومحاولة إقناعه بأحداث تغيير في سياساته لإزالة الأسباب التي يتذرع بها خصومه, ومن ذلك هيكلة النظام على أساس دستوري وبحكومة فعلية تضطلع بمسئولية التحول جنباً إلى جنب مع مجلس شورى من أكفاء. وأشفع رؤيته بأسماء مرشحه للمجلسين الوزراء والشورى, فكان الجواب كالصاعقة وصل معه الأستاذ إلى حزم أمتعته والسفر إلى القاهرة حيث يقيم توأمه الأستاذ محمد محمود الزبيري, إذ رد عليه الإمام بالآتي:
أني أغمض عيني ثم أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحداً.
وأردف قائلاً: إذ أردتم دستوراً فما لكم إلا السيف دستوراً.
لقد وضعت هذه الإجابة حداً لفلسفة النعمان في التغيير من خلال الإمام, ولم تزعزع قناعته بالأمير البدر فعن وقع رد الإمام أشار النعمان أنه أدى إلى انشقاق العقل بينه وبين الإمام رغم التقاء العواطف, ووصف الإمام بأنه يستقوي على ابنه الضعيف, ومثل هذا المشهد نقطة تحول ومحطة انتقال إلى مشاهد نضالية قوية في محطة استمر الرسو فيها طويلاً هي محطة القاهرة.
محطة القاهرة في الخمسينيات:
إذا كانت المحطات السالفة الذكر قد احتوت نشاطاً تنويراً للأستاذ يعتمد على التعليم والنصح والتثقيف مع بقاء قناعته قائمة بالإصلاح من خلال الإمام وولي عهده محمد البدر الذي اضطلع الأستاذ بدور في توعيته والدعوة إلى ولايته للعهد نكاية بالسيف الحسن شقيق الإمام الذي اشتهر بالبخل والقسوة والانغلاق, فإن محطة القاهرة في زمنها الجديد قد اختلفت كثيراً, إذ نحى الأستاذ منحى ما قبل 1948م- وعمد إلى:
التنوير السياسي بفداحة الأوضاع وظلامية النظام وغياب الإرادة في الإصلاح وتكوين مؤسسات الدولة وامتلاك دستور ورؤية حديثة للإدارة لإحداث التغيير.. ولذلك باشر عقب وصوله تنشيط التنظيم السياسي للأحرار “الاتحاد اليمني”.
التثقيف بواسطة الصحافة بإعادة إصدار صحيفة صوت اليمن, والتي لم تستمر إذ تم إيقاف صدورها.
إعادة الحياة لنسيج العلاقات مع اليمنيين في المهاجر, وفي عدن الحضن الذي ظل دافئاً للأحرار رغم ضغط الاحتلال ومضايقاته بين الحين والآخر لنشاطهم, ومن ذلك ما حدث للقامة الكبيرة الشيخ عبد الله الحكيمي الذي صار شهيداً بفعل نفذه على نحو مشترك بين الاحتلال والنظام الإمامي.
التركيز على التعليم وسيلة مثلى لإعداد العدة للانتقال والتحول المنشود, فنراه التحم بالطلبة في القاهرة, وعمل على إسناد وتشجيع كافة الجهود المبذولة في الداخل الإمامي, أو المحتل وتحديداً مدينة عدن, فعمل على جمع تبرعات وحشد طاقات لتأسيس قلعة المستقبل كما سماها “كلية بلقيس” في عدن لفتح أبواب المستقبل لأبناء اليمن الذين لم تتح لهم فرص التعليم الرسمي بمدارس الاحتلال البريطاني.
وقد صرف الأستاذ نعمان جهده بعد ما تبلورت لديه فكرة تجديد نشاطه القديم, نحو “التنوير والتعليم” كوسيلة من وسائل الكفاح والنضال, ولصنع إنسان يمني جديد إيماناً منه بأن ما من سبيل لبناء الأوطان إلا بتطوير الإنسان وجمع تبرعات اليمنيين في الداخل والخارج لإنشاء “كلية بلقيس” في عدن, لطفي ص171. لتكون مدرسة يمنية لا تميز بين أبناء اليمن, فلا مكان فيها للغة التشطير, ومفاهيم التمييز, فاستقبلت الأطفال والتلاميذ بغض النظر عن كونه شمالياً أم جنوبياً.
ووصل الأستاذ إلى عدن في مايو 1960م, ليدشن نشاط ومبنى “كلية بلقيس” غير أن سلطات الاحتلال البريطاني في عدن بناء على ضغط الإمام أحمد عبر دبلوماسيين يمنيين – طلبت مغادرته في 27 يونيو حزيران, رغم عدم انتهاء تصريح إقامته, وعاد إلى القاهرة. لطفي ص172.
وفي هذا الموضع أنشد حاتم قصيدة في وداع الأستاذ قال فيها:
قصيدة في وداعه:
على الطائر الميمون يا ابن الأكارم
إلى بلد يحميك من كل ظالم
وداعاً أبا الأحرار فالكل هاهنا
يجدد عهداً للزعيم المسالم
لقد كنت فينا مصلحاً لا مشاغباً
ولم تك دجالاً حليف التمائم
فلم تقبل العرض السخي ولم تكن
قناتك لل...... الكبير المساوم
وعدت إلينا ناصحاً وموجهاً
بأسلوب بناء وحكمة عالم
وصارحت أبناء الشمال بدائهم
وهل غير داء الجهل أخطر جاثم
وناديتهم للعلم فالعلم وحده
كفيل بتحرير القرى والعواصم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.