عضو مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يلتقي قيادات التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ثقافة الحوار
نشر في الجمهورية يوم 15 - 04 - 2013

تعاني مجتمعاتنا العربية في هذه المرحلة الزمنية العصيبة، واليمن بالذات، معضلات سياسية واجتماعية تراكمت على مر السنين بفعل سطحية الممارسات الديمقراطية وعدم قبول التعددية الفكرية والثقافية، التي يفترض أن تشكل ضرورة تقتضيها الطبيعة البشرية. يبدو وكأننا قد تعايشنا مع الانغلاق على الذات، وتصالحنا مع عدم القبول بالآخر، واستعذبنا ذم الآخرين. ونتج عن ذلك أن غابت الثقة بين مكونات المجتمع، وانتشر ذم الاختلاف وتم وصم المختلفين بتهم قاسية، وترسخت ثقافة الإقصاء والتمييز بين مكونات المجتمع. ويمكن أن يعزى ذلك إلى حد كبير إلى غياب ثقافة الحوار الحقيقي بين الناس، حتى باتت الدعوة إلى الحوار عرضة للريبة والشك، بل والاتهام بالعمالة والتخوين. ولقد ساهم عدم إنشاء مراكز متخصصة في الحوار وإدارته في تعميق هذا الواقع المرير الذي تمر به بلادنا اليوم.
واليوم، في ظل الأجواء التي تعيشها بلادنا، والتي يختلط فيها التفاؤل والتشاؤم، خاصة مع انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، وما يؤمل منه أن ينجز من مهام وطنية جسيمة، في الوقت الذي يسود البلد مناخات تعكس واقعنا الثقافي الاجتماعي، الذي يغلب عليه عدم الثقة بين الأطراف المتحاروة وتباين مواقفها، ومن هذا المنطلق رأيت أن أساهم في الكتابة بأن ألخص الأفكار الرئيسة لكتاب متخصص في ثقافة الحوار، قرأته قبل عدة سنوات، لعلها تفيدنا في تلمس طريقنا الحواري بصورة منهجية. ولكن قبل ذلك يجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه باختيارنا الحوار نكون قد قاربنا الصواب؛ فالحوار ليس ترفاً فكرياً أو عملاً ثانوياً، بل هو ضرورة حياتية لبني البشر، سواء في هذا العصر أم في أي عصر، فهو اختيار الحكماء، ومنهج العقلاء، وملاذ العامة.
سحر الحوار: تحويل الصراع إلى تعاون
أعاد عالم الاجتماع والمتحدث الجماهيري الشهير “دانيال يانكلوفيتش” إحياء فن قديم هو “فن الحوار”، وقدمه لنا في صورة مختصرة وعملية تناسب عصرنا الحالي مستنداً في ذلك إلى نتائج عقود من البحث في هذا المجال. وبهذا العمل الفريد قدم لنا يانكلوفيتش وسيلة من شأنها أن تساعد على إتقان مهارات الاتصال اللازمة لإجراء حوار ناجح. فبين أهمية الحوار، ومعناه، والفرق بينه وبين أنواع التواصل الأخرى، وأوضح كيف يمكن أن يسهم في تعزيز العلاقات بين الناس، وحل مشاكلهم، وتحقيق أهدافهم المشتركة في عالم يتصف بالتنوع والتعقيد.
ويرى المؤلف أن العالم اليوم يقوم على استكشاف التنوع بداخله، وعلى دمج ثقافات الشركات الكبيرة، والتي لم تعد تتركز فيها السلطة في أعلى الهرم القيادي، بل توزعت في مستويات أدنى في الهرم المؤسسي، مما نتج عنه دخول لاعبين جدد في التأثير على صناعة القرار. ويرى أن الظروف الجديدة التي شكلت منظمات تتوزع في مناطق متباعدة حول العالم، تضم أفراداً مختلفين في الثقافات والاهتمامات والمصالح، لا تعفي القادة من اتخاذ قرارات في ظل أجواء معقدة تسودها مناخات من عدم الثقة وسوء الفهم. وبالتالي فإن هذا العالم المتنوع والأقل هرمية من ذي قبل، يحتاج فيه صناع القرار أن يتعلموا كيف يقللوا من الجدل ويعتمدون بصورة أكبر على “الحوار”.
ولخص المؤلف عمله هذا في كتابه الشهير الذي سماه “سحر الحوار: تحويل الصراع إلى تعاون”، الذي نشره عام 1999، ووثق فيه تحليله الدقيق حول فن الحوار وكيفية إجرائه. وفيما يلي نعرض أهم الأفكار التي توصل إليها.
ولكن قبل تقديم أفكار يانكلوفيتش حول الحوار، لا بد من الإشارة إلى أنه بالرغم من أن الكتاب موجه للإداريين، والقادة، ورجال المال والأعمال بصورة رئيسية، إلا إنه يمكن قراءته من منظور اجتماعي بحيث يستفيد الجميع من ذلك العمل الفكري الفريد.
استهل المؤلف كتابه بعرض عدد من الأمثلة، التي تبين أهمية الحوار وضرورته سواء على مستوى العالم أم على مستوى المؤسسات والمنظمات المختلفة، ولعل أبرز تلك الأمثلة المثال الآتي حول أثر الحوار في تحقيق السلم العالمي.
“لعب الحوار دوراً مهماً في كبح جماح سباق التسلح النووي وإنهاء الحرب الباردة في العالم. فبعد عدة سنوات من نهاية فترة رئاسة رونالد ريغان، طلب جورج شولتز، وزير خارجية أمريكا خلال حكم ريغان، من ميخائيل غورباتشوف، الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي، أن يذكر له نقطة التحول في الحرب الباردة خلال اجتماعه مع رونالد ريغان في ريكيافيك، بأيسلندا، أنهمكا لأول مرة في حوار حقيقي مع بعضهما البعض امتد ليتعدى جدول الأعمال الرئيس (الحد من الأسلحة النووية) ليناقشا قيمها، وافتراضاتهما، وتطلعات بلديهما. وقال غورباتشوف: “لقد كان لهذا الحوار الفضل لبناء ما يكفي من الثقة والتفاهم المتبادل بين الجانبين للبدء في الحد من سباق التسلح النووي.”
ويرى أن الحاجة إلى الحوار متجذرة في الحالة الوجودية الأساسية لنا بني البشر، فالعديد من الروابط الاجتماعية التي تجمعنا معا سواء كشعوب أو كمجتمعات بدأت اليوم تتآكل، والتباينات بين الناس زادت وتعمقت، مما يشكل تهديداً لنا. ويتساءل هل وصلنا إلى ما صوره الشاعر “وليم بتلر ييتس” بعد الحرب العالمية الأولى عندما قال:
“الأشياء تتداعى المركز لا يصمد
لا شيء عدا الفوضى تلف العالم
وهيبة البراءة غريقة في كل مكان
أفضل البشر بحاجة إلى الإيمان،
والأشرار يمتلكهم شغف الأهواء.”
وبالرغم من أن المؤلف لا يُقر بأننا قد وصلنا إلى ذلك الحد من الفوضى، إلا إنه يؤكد على أنه لا بد من عمل شيء قبل أن نقع في تلك الفوضى. ويحصر المشكلة في فجوة الفهم بين الناس- أفراداً وجماعات. ويؤكد بأن الأحداث قد تراكمت وشكلت عائقاً أمام بناء فهم مشترك، في ظل انحصار التواصل بين الناس واقتصارها على طرق التواصل المألوفة. لذلك فهو ينادي بالأخذ بالحوار بين الناس أفراداً وجماعات لمعالجة ذلك.
والحديث هنا ليس عن الحوار السهل الذي يتم بين الناس المتماثلين في التفكير، بل عن الحوار الحقيقي بين ناس متنوعين في التفكير، الحوار الذي استمر لفترة طويلة وولّد تماسكاً بينهم؛ كونهم نشأوا ومارسوه عبر طريق طويل وشاق، وتوصلوا بالتالي إلى نظرة مشتركة. إنه ذلك النوع من التفاعل الحقيقي بين الناس، والذي يتطلب مهارات خاصة يفتقر إليها الكثيرون.
ولكن ما هو الحوار؟ وما الذي يمكن أن يوفره لنا مقارنة بما توفره الوسائل الأخرى من وسائل التواصل؟ وكيف يختلف عنها؟
معنى الحوار:
يعرف قاموس (وبستر) الغرض من الحوار بأنه “السعى إلى تحقيق أمرين، الأول تكوين فهم متبادل، والثاني تحقيق الوئام بين الأطراف المتحاورة.” لكن الغرض الثاني من الحوار (تحقيق الوئام) يحتل وزناً أقل عند المؤلف من الغرض الأول (تكوين فهم متبادل)، وذلك لأن نتائج الحوار لا تؤدي بالضرورة إلى تحقيق الوئام. ففي الواقع قد يؤدي الحوار إلى معرفة جذور الاختلاف بين المتحاورين، بمعنى أنه سيكون هناك فهم أفضل، لكن ليس بالضرورة تحقيق الوئام.
ولقد أوضح عالم الفيزياء النظرية، ديفيد بويم، أحد منظري الحوار القدامى، أن تجربته، في علم الفيزياء، بينت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن علماء الفيزياء المشهورين عالمياً يتوصلون إلى أفكارهم الإبداعية ليس من خلال التفكير الانفرادي، كما يعتقد البعض، لكن من خلال التحاورات التي تحدث بينهم خلال لقاءاتهم العلمية. كذلك أوضح الفيلسوف مارتن بوبير، في عمله الكلاسيكي “أنا وأنت”، أن الحوار الحقيقي هو شيء أعمق من المحادثة العادية. ففي فلسفة بوبير، الحياة نفسها لقاء، والحوار هو الضفة التي نلتقي عليها.
كما أوضحت نتائج دراسات المؤلف الاستقصائية حول قياس الرأي العام، التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، أن الطريقة التي يتوصل بها الجمهور لأحكامه تتعارض مع المقولة الشائعة بأن الجمهور يتوصل إلى استنتاجاته حول القضايا العامة المهمة من خلال المعلومات فقط، فالجمهور في العادة يفتقر إلى معلومات دقيقة حول كثير من القضايا التي تهمه، لكنه عند تكوين رأي عام حول قضية مصيرية، فإنه يتوصل إلى استنتاجاته من خلال الحوارات (غير الرسمية) التي تجري بينهم. فالناس تزن ما تسمعه من الآخرين وتقارنه بقناعاتها الخاصة قبل أن تتوصل إلى حكم ما. فهم يقارنون ملاحظاتهم مع بعضهم البعض، ويقيمون آراء الآخرين إذا ما كانت ذا معنى عندهم أم لا. وقبل كل شيء، فهم يستندون في كل ذلك إلى مشاعرهم وقيمهم، نعم، الجمهور لا يفرق بين الحقائق والقيم، كما يفعل الصحفيون والعلماء. لكن، في واقع الأمر يعتمد الجمهور في الحوار بدرجة كبيرة على المشاعر والقيم المترسخة لديه عند وزن المعلومات المتصلة بالحكم على قضية مصيرية. وهذا لا يعني التقليل من قيمة المعلومات وأهميتها، لكن تجريد المعلومات من المشاعر ليس بالطريقة المثلى للتوصل إلى حكم عام عند الناس، فالحوار يُثرى بالمشاعر والقيم. كما بينت نتائج الأبحاث، وكما تبين أن الرأي العام لا يتكون خلال فترة زمنية قصيرة، بل يأخذ وقتاً طويلاً ليتبلور ويتشكل.
أغراض الحوار:
يوفر الحوار للمتحاورين فرصاً لاختراق الحواجز المصطنعة بينهم مما يمكنهم من الوصول إلى ما وراء اللطف المصطنع (أو الانفعالات الحادة في عدد من الحالات في دول العالم الثالث)، الذي يتسلحون به خلال التواصل فيما بينهم. ففي الحوار العقلاني، يستمعون ويردون على بعضهم البعض بمصداقية عالية مما يولد رابطاً جديداً بينهم. فالفعل الذي يتجاوز الذات ويوصل الإنسان بالآخرين، خلال الحوار، وما يختلطه من مشاعر وأحاسيس وقيم، هو توق إنساني عميق لدى كل بني البشر، وبذلك فإنه بتجاوزنا المألوف نتبين تلك المعجزة التي يوفرها لنا.
ويرى المؤلف أن الحوار يهدف إلى تحقيق غرضين رئيسين: أولهما، تعزيز العلاقات الشخصية بين المتحاورين، والثاني حل المشكلات العالقة بينهم. وكلاهما مهم لإقامة علاقات تعاون بين الناس. لكن أهمية الهدف الثاني من الحوار تتزايد هذه الأيام بصورة كبيرة، حيث إننا نجد أنفسنا أمام مشكلات تتطلب التوصل إلى فهم مشترك مع الآخرين أكثر مما كان عليه الحال في الماضي.
الحوار والمناظرة:
يؤكد كثير ممن خاضوا تجربة الحوار أنه يختلف عن المناظرة، ويرون أن المناظرة هي عكس الحوار. ففي الوقت الذي يكون فيه الغرض من المناظرة الفوز بقضية هي موضوع المناظرة وبالتالي هزيمة الخصم. فإن الغرض من الحوار مختلف تماماً، كونه يتمحور حول البحث عن القواسم المشتركة بين المتحاورين.
وهناك عدد من الفروق الجوهرية بين الحوار والمناظرة، منها: أن المناظرة تفترض أن هناك إجابة صحيحة واحدة يدعي كل متناظر أنه يمتلكها، في حين أن الحوار يفترض أن كثيراً من الناس لديهم أجزاء من الإجابة، وأنه بوضع تلك الأجزاء معاً سيصنعون الحل. كما يحرص المتناظرون على السماع للطرف الآخر لاصطياد الأخطاء ومن ثم الرد، بينما يحرص المتحاورون على استماع وفهم بعضهم البعض لتكوين معنى والتوصل لاتفاق. وفي المناظرة أيضاً يحرص المتناظرون على الدفاع عن افتراضاتهم، بينما يحرص المتحاورون على إظهار افتراضاتهم وإعادة تقييمها في ضوء معطيات الحوار. كما يحدث في المناظرة أن ينقد كل مناظر الآخر ليسجل عليه النقاط، بينما يقوم المتحاورون بمراجعة كل المواقف من قبل كل الأطراف لتنمية فهمهم للموقف. وأخيراً، يحرص المتناظرون على التوصل لاستنتاجات تدعم مواقف كل طرف، بينما يستكشف المتحاورون خيارات جديدة تقوم على فهم مشترك بين المتحاورين.
الحوار والمناقشة:
تبين من خلال البحث، أن الحوار يعد شكلاً خاصاً من أشكال المناقشة لكنه يتطلب انضباطاً صارماً من قبل المتحاورين. وإذا ما فشلوا في الانضباط، فيمكن أن يستفيدوا من المناقشة العادية، ولكنهم يفقدون فوائد الحوار الناجح. من ناحية أخرى، عندما يتم الحوار بمهارة، فإن النتائج يمكن أن تكون استثنائية: ففيه تذوب الصور النمطية المزمنة، ويتم التغلب على عدم الثقة، ويُبنى التفاهم المتبادل، وتتشكل الرؤى وترتكز على هدف مشترك، ويلتف الناس الذين كانوا على خلاف مع بعضهم البعض حول الأهداف والاستراتيجيات، ويكتشفون أرضية مشتركة بينهم، ويكتسبون رؤى ومناظير مشتركة، وتتعزز مستويات جديدة من الإبداع، وتقوّى أواصر المجتمع بينهم.
مقومات نجاح الحوار:
قلنا بأن الحوار يختلف عن المناقشة، ففي الوقت الذي يشبه فيه الحوار النقاش، أو أي شكل آخر من أشكال التواصل الاجتماعي بين الناس، بأنه يتم بين مجموعة كبيرة من الناس (أكثر من شخصين). إلا إنه يختلف عنها في ثلاث سمات رئيسة تشكل ما نسميه مقومات الحوار.
1 - التكافؤ وغياب المؤثرات القسرية: لا يمنع بالضرورة خلط الناس من مراكز وسلطات غير متكافئة حدوث الحوار، لكنه يجعل تحقيقه عملية صعبة. فلا يصبح الحوار ممكناً إلا بعد بناء الثقة المتبادلة بين المتحاورين، وبعد أن ينزع كبار الناس، في هذه المناسبة، شارات السلطة والقوة وينخرطون في الحوار من مستويات متكافئة مع الآخرين.
2 - الاستماع المقرون بالتعاطف مع الآخرين: لا غنى للحوار والمتحاورين عن اكتساب مهارة الاستماع المقرون بالتعاطف مع الآخرين، أي القدرة على التفكير بما يفكر فيه الآخر والشعور بما يشعر به. إن غياب تلك القدرة، يحوّل الحوار إلى نقاش، لأنه خلال النقاش يسهل على الناس التعبير عن آرائهم، وطرح الأفكار وتبادلها مع الآخرين، لكن في معظم الأحيان، لا تكون هناك دافعية أو صبر للرد بتعاطف مع آراء الآخرين التي يمكن أن يختلفوا معها أو يجدونها غير مناسبة.
3 - طرح الافتراضات على طاولة الحوار: إن الافتراضات غير الدقيقة والتي لا تخضع للفحص خلال الحوار، تؤدي إلى سوء فهم، وإلى وقوع الأخطاء بين الناس. لذلك يتطلب الحوار الحقيقي أن يطرح المتحاورون افتراضاتهم وافتراضات الآخرين على الطاولة، وأن يتاح للآخرين فرص الرد على تلك الافتراضات في ظل توافر بيئة آمنة، دون أن يصدر من أحد المتحاورين أي تعليق سلبي أو تجريح للآخر.
عوامل فشل الحوار:
يمكن أن يفشل الحوار لمجموعة متنوعة من الأسباب. ففي بعض الأحيان، يمكن أن يكون العنف، والكراهية، وانعدام الثقة أقوى من الحافز للتوصل إلى إيجاد أرضية مشتركة (كما حصل، على سبيل المثال، بين الصرب والألبان، والأتراك والأرمن). كما يمكن أن تشكل الاختلافات في المصالح عقبات كأداء أمام الحوار. لكن السبب الأكثر شيوعاً في فشل الحوار هو ببساطة عدم إجرائه بصورة سليمة. ولقد توصل المشتغلون بالحوار والذين مارسوه لسنوات طويلة إلى استنتاج مهم هو أن إجراء الحوار يتطلب تبني استراتيجيات خاصة.
استراتيجيات الحوار الناجح:
هناك عدد من الاستراتيجيات الضرورية لإقامة حوار ناجح، تتضمن الآتي:
1 - توافر مقومات الحوار الثلاثة: التكافؤ أثناء الحوار، والاستماع بتعاطف للآخر، ووضع الافتراضات على طاولة الحوار دون إصدار أحكام مسبقة.
2 - البحث عن وجهات النظر المختلفة للتوصل إلى فهم مشترك: تتخذ أغلب اللقاءات شكل تقديم المواعظ، كما أنه من السهل الإطراء على الذين نتفق معهم في الرأي مقارنة بالبحث عن فهم مشترك مع من لديهم وجهات نظر مختلفة. وهذا لا يفيد الحوار، فالحوار يتطلب التعرف على وجهات النظر المختلفة وفهمها.
3 - إظهار التعاطف مع الآخرين عند بدء الحوار: غالباً ما نرتدي، أثناء التواصل فيما بيننا، دروعاً دفاعية، وبالتالي يصبح التعاطف أمراً غير متوقع. وعليه، فإن إظهار التعاطف مع الآخر عند طرح ما لديه، ذلك النوع الذي يتضمن الاعتراف بمصداقية وجهة نظر الآخر، يعتبر أمراً جداً ضرورياً لإقامة حوار ناجح.
4 - الحد من مستوى عدم الثقة بين المتحاورين: من الصعب أن تتعاطف مع أشخاص لا تثق بهم أو أن تظهر افتراضاتك المخفية في وجود من لا تثق بهم. وهذا يتناقض مع روح الحوار، التي تقوم على بناء الثقة بين المتحاورين. وبالتالي فإنه من الضروري أن يؤسس قدراً ولو بسيط، في البداية، من الثقة بين المتحاورين، ومن ثم ينبغي تنمية تلك الثقة تدريجياً للوصول إلى أهداف مشتركة.
5 - الفصل بين الحوار وعملية اتخاذ القرار: على الرغم من أن الغرض من الحوار هو اتخاذ قرر، إلا أنه من الضروري الفصل بينهما، ما لم فإن أحدهما سيقوض الآخر. ويمكن أن يكون الفصل بين الحوار واتخاذ القرار أمراً معلناً أو ضمنياً. ومهما يكن فإن البحث عن فهم مشترك ينبغي أن يشكل أولوية أي حوار على أي أهداف براجماتية، وأن يحصر التعارض في المصالح التي تتطلب اتخاذ قرار، ويعلن حتى لا يؤثر على مجريات الحوار.
6 - التركيز على المصالح المشتركة لا على ما يفرق المتحاورين ويجلب الشقاق بينهم.
7 - استخدام أمثلة محددة عند طرح قضايا عامة حتى يسهل على المتحاورين ربط حوارهم بالواقع.
8 - عرض الافتراضات الشخصية قبل أن يُطلب من الآخرين ذلك: إذا كان الفرد على استعداد لطرح افتراضاته أولاً، خاصة إذا كان ما يقوله عن افتراضاته بدا صادقاً للآخرين، فإنه سوف يسهل عليهم طرح افتراضاتهم، ومن ثم مناقشتها.
9 - شرح الافتراضات التي قد يكون لها مدلول سلبي على الآخرين. من المفيد أن يبذل جهداً مناسباً لفهم طرق تفكير كل مجموعة من المجموعات المشاركة في الحوار. لكن ينبغي التنبه إلى أنه قد يكون غير مبرر أو قد يُفهم أنه عدوانية عند البعض، إذا تناولت تلك الافتراضات دون مناسبة خلال الحوار.
10 - عند الاقتضاء، يجب أن تحدد جوانب عدم الثقة بصفتها مصادر سوء الفهم بين المتحاورين.
11 - يجب فحص الافتراضات المتجذُرة: فعادة ما يكوّن الناس افتراضاتهم استناداً إلى تقييمات قديمة تكونت في ضوء الخبرة الشخصية والجماعية. وقد تكون تلك التقييمات من القدم، بحيث يكون قد تجاوزها الواقع. وبالتالي فإن مناقشة تلك الافتراضات يمكن أن يساعد على تعديل تقييمات المتحاورين القديمة.
12 - توجيه التركيز على الصراع بين المنظومات القيمية وليس بين الأفراد: فقد ينتمي شخص لجماعة تتبنى قيماً معينة، في حين أن الشخص نفسه لديه تساؤلات حول تلك القيم. وبالتالي فإن لصق القيم بالأفراد لن يخدم الحوار.
13 - توفير الثقة بين المتحاورين قبل مناقشة القضايا الحرجة.
14 - إظهار المشاعر خلال عرض القيم المتجذرة: الحوار ليس عملية تقنية؛ كونه يتطلب أن نبحث عميقاً في قضايا أساسية، وهذا يرافقه ظهور مشاعر جياشة. وبالتالي علينا تفهم ذلك وإظهار تلك المشاعر إذا اقتضى الأمر.
15 - تشجيع إقامة العلاقات بين المتحاورين من أجل أنسنة التواصل. يعد التواصل مع الآخرين خلال الحوار لبناء علاقات، سواء كان قصيراً أم عارضاً، استراتيجية يتبعها معظم الناس تلقائياً وبشكل حدسي. على سبيل المثال، يكاد يكون غريزياً عندما يجتمع الناس أن يذهبوا إلى تناول الطعام معاً، حتى لو كان ذلك لا يخدم غرضاً عملياً.
سحر الحوار:
إن عملية الحوار في حد ذاتها ذات نفوذ “حضارى” فينا بني البشر. فالحوار له مذاقه الخاص به؛ كونه يجمعنا معاً بصفتنا أفراداً وجماعات، وكونه يولّد ويعزز فينا قيماً حضارية مهمة مثل: بناء الثقة المتبادلة، والبحث عن أرضية مشتركة تجمعنا، والشعور بالارتياح عندما نكون معاً، والإحساس بفائدة التعاون، ونسج شبكة معقدة من العلاقات تتخطى حدود الجماعات، فضلاً عن الإحساس بالهوية الواحدة مع من نعيش معهم.
وإذا كانت قيم المسئولية، والمواطنة، والأخلاق المدنية، والمحبة، والمعاملة بالمثل، تصف جوانب متنوعة من حرصنا على بعضنا في مجتمع متمدن، فإن من المهم أن نتجنب ممارسات خاطئة تضر بالحوار، مثل: تجنب رسم صور نمطية حول بعضنا البعض، وعدم الإساءة لبعضنا، وتجنب زرع عدم الثقة فيما بيننا. وفي الوقت نفسه علينا أن نحترم، ونثق، ونفهم بعضنا بصورة أكبر. وهنا يكمن سحر الحوار في أنه يعزز الاحترام المتبادل، والقبول بالآخر، والأهم من كل ذلك أنه يمَكننا من بناء رصيد اجتماعي كبير، تفشل أية وسيلة تواصل أخرى في تحقيقه، أن يقوي أواصر العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
خاتمة:
خلاصة القول، تفيدنا أفكار “يانكلوفيتش” حول الحوار في التعرف على طبيعة الحوار فهو شيء مختلف تماماً عما نمارسه في حياتنا العامة من وسائل التخاطب والتواصل. وأنه ذلك التفاعل اللفظي “الساحر” الذي يحدث بين اثنين أو أكثر من بني البشر عند التواصل الإنساني لتبادل الأفكار والخبرات وتكاملها بما يحقق إنسانيتهم. وهو بذلك يُعد نشاطاً حياتياً يومياً يبنغي أن نمارسه في الجامعات ومقرات العمل ومن خلال وسائل الإعلام المتنوعة. وفي أبسط صوره يقتضي الحوار، قبول مجالسة الآخر والسماع منه والأخذ والرد معه، في جوّ صحي آمن، يتسم بالموضوعية عند طرح القضايا محل الحوار. ويشترط لحدوث الحوار أن يتم تحاور حقيقي خلاله، بمعنى أن تكون هناك مراجعة وتجاوب في الخطاب والأخذ والرد فيه، وليس إصراراً على آراء مسبقة؛ لأن ذلك سيعطل الحوار. وتعتمد نتائح الحوار على طبيعته، فبقدر ما يكون التحاور إيجابياً يكون مثمراً في حياة الفرد وحياة المجتمع، وبقدر ما يكون سلبياً يكون هداماً لكيان الفرد وكيان المجتمع.
ويساعدنا الحوار على أن نرى مالم نستطع أن نراه بدونه، فمن خلاله نُري محاورينا ما لا يستطيعون أن يرونه بدون الحوار، وعلى أن يًرينا محاورونا ما لم نكن نراه قبل الحوار. وجوهر ثقافة الحوار أنه رؤية متبادلة بين الأطراف المتحاورة تحترم المخالفين، وتتلمس لهم الأعذار، وتعطيهم الحق في الاختلاف وفي التعبير عن أنفسهم في بيئة آمنة تتخللها شفافية وصراحة عالية، كما تعطينا نفس الحق في الوقت ذاته.
وللحوار مستلزمات معينة، فيقتضي أن نبدي احتراماً حقيقياً للذات، واحتراماً وتقديراً للآخر، وتعاطفاً معه، وحرصاً على فهمه. ويمتاز بأنه يوفر ميداناً خصباً للمشاركة الفكرية بين الناس، يثري حياتهم بامتياز سواء الفكرية أم اليومية. ومن نتائجة الرقي بالعلاقات الإنسانية بين المتحاورين، وتجديد كيان الإنسان، وتفجير قدراته الإبداعية، فيصبح محباً اجتماعياً مجدداً ومبدعاً. ولا نغالي إن قلنا إن المتحاورين يصبحون أكثر إنسانية نتيجة حوارهم الإيجابي.
والحوار عملية مستمرة، فحاجتنا له لا تقتصر على يومنا، بل هي حاجة دائمة تمتد لغدنا، فعلينا أن نفكر ملياً بالمستقبل وأن ننشئ مؤسسات تُعنى بالحوار وترعاه حاضراً ومستقبلاً. ولعل إنشاء مراكز متخصصة في الحوار على مستوى الوطن وخاصة في الجامعات هو مهمة جد ملحة، لأن مثل هذه المراكز ستساعدنا على تحديد قضايانا الشائكة وطرحها ومعالجتها أولاً بأول.
ولنا عبرة من التاريخ، فقد ألهمت الأحداث العالمية الكبيرة مثل (الحروب العالمية والصراعات الإقليمية، والحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية سابقاً، والنزاعات داخل البلدان) ألهمت المفكرين أفكاراً عظيمة. وفي هذا السياق، يقول الحكماء: تتغير الجماعات الإنسانية عندما تصل بها الأمور إلى حافة الكارثة (لكن ليس بالضرورة أن يتغير كل الأفراد) أي عندما يتعلق الأمر بمسألة حقيقة وجودهم من عدمه. فهل وصلنا إلى الحافة؟ قد تكون الإجابة نعم. لذلك، ما أحوجنا إلى تعلم ثقافة الحوار، لأنه دون الحوار سنتجاوز حافة الكارثة، وسنقع في دائرة مظلمة من الصراعات التي قد لا تنتهي في المستقبل المنظور، والتي سينتج عنها إراقة مزيد من الدماء، وهذا يتعارض مع قيمنا الإنسانية السامية، ومع ما يدعو إليه ديننا الإسلامي الحنيف الذي ربط إزهاق الأرواح بالأمور الجسام.. إن وطننا اليوم عند مفترق طرق، فإما أن يستمر كل منا (أفراداً وجماعات) في الانغلاق على الذات، ولا يستمع سوى لصدى صوته، وهو بذلك يدفع الوطن بأكلمه إلى دائرة صراعات طويلة مريرة ومظلمة، أو أن ينفتح على الآخرين، يدخل معهم في حوار حقيقي، يصغي إليهم كما يصغي لنفسه، يتعاطف معهم، يحترم الاختلاف ويقدره، فيعترف بالآخرين شركاء حقيقيين، ويبحث معهم عن أرضية مشتركة، يراجع أفكاره وأفكار الآخرين، ويتوصلون إلى حلول لمشكلات اليوم، ويضعون معاً لبنات المستقبل، فيصبح بالتالي شريكاً في بناء هذا الوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.