اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    الرياض.. أمين عام الإصلاح يستقبل العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المحددات الاجتماعية للسياسات الاقتصادية الجديدة في اليمن..؟
نشر في الجمهورية يوم 19 - 04 - 2013

يتصف الاقتصاد اليمني بأزمة بنيوية حادة ترتبط بالسياسات والإجراءات الاقتصادية والمفاهيم والرؤى للعملية الاقتصادية بشكل عام، إضافة إلى أزمات في غياب الفكر الاقتصادي الموجه نحو واقع اليمن.. ووفقا لذلك تأتي دراستنا لتضع تصورا فلسفيا يحدد ماهية الاقتصاد وسياساته في المجتمع اليمني في إطار رؤية تحليلية لواقع الدولة والمجتمع وتحديد مسارات الاقتصاد وإجراءاته العملانية في إطار متغيرات السوق العالمية ومدلولاتها المفاهيمية وفق المراجعات الفكرية للنظام الاقتصادي العالمي.
فمنذ 95 دخل الاقتصاد اليمني مرحلة جديدة في إطار التحول من الاقتصاد المخطط والممركز، حيث الدولة هي اللاعب الرئيس إلى الانفتاح الاقتصادي بحضور القطاع الخاص والاستثمارات العربية والأجنبية، وأصبحت الدولة تعتمد على التخطيط التأشيري للسياسات الاقتصادية، ومنذ ذلك الحين 95 اعتمدت الحكومات اليمنية سلسلة من الإجراءات والتدابير العملانية بقصد تغير في جوهر العملية الاقتصادية مثل إعادة الهيكلة وتعويم العملة وتصحيح الأسعار، وما رافق ذلك من إجراءات تم النظر إليها كمتطلبات اقتصادية ضرورية مثل رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية ورفع سعر المشتقات النفطية، كل ذلك كان له آثار اجتماعية مباشرة انعكست سلباً في واقع الأفراد والأسرة والمجتمع عامة.
ووفقاً لذلك ظهرت موجات احتجاج اجتماعية منتظمة حيناً ومتقطعة حيناً آخر وصولاً إلى الثورة الشبابية الشعبية وجميعها ذات مغزى هام يرتبط مباشرة بوظفية الدولة ومشروعيتها الاجتماعية والشعبية، وهو الأمر الذي أهملته الحكومة وخبراؤها من الاقتصاديين محليين وأجانب، في حين أشار البنك الدولي إلى خطورة المسألة الاجتماعية وتفاقم آثارها إن لم يتم معالجتها أولاً بأول وبخطى سريعة، مع أن هذا البنك والصندوق الدوليين هما شريك أساسي في صنع هذه السياسات والإجراءات الاقتصادية التي انعكست آثارها الاجتماعية على غالبية أفراد المجتمع.. في هذا السياق تأتي أهمية دراستنا وتبرز مبرراتها من حيث أنها تستهدف تقديم رؤية علمية ممنهجة وموضوعية لطبيعة السياسات الاقتصادية المطلوبة في اليمن، بالتركيز على تحديد الأبعاد السياسية والاجتماعية للسياسات الاقتصادية ودلالاتها إجرائياً وتحديد الأدوار الفاعلة للدولة وللقطاعات الأخرى المشاركة في العمليات الإنتاجية.
ووفقاً للكثير من الانتقادات التي وجهت للحكومات اليمنية وإجراءاتها الاقتصادية التي لم تحقق نجاحاً يذكر في أي من المجالات المالية أو الإنتاجية أو التسويقية، فإن الأزمات المتفاقمة اجتماعياً أصبحت واضحة للعيان وعبرت الحكومات الواحدة تلو الأخرى عن هذه الأزمات ومخاطرها خاصة في تزايد معدلات الفقراء والعاطلين في الريف والحضر، وكل ذلك يعكس غياب هوية محددة لطبيعة السياسات الاقتصادية وغياب التوجه الاجتماعي لهذه السياسات، الأمر الذي أدخل الحكومة والدولة في مأزق خطير يهدد بفقدانهما المشروعية الشعبية التي تعتبر المرتكز الرئيس للمشروعية التي تؤسس عليها الحكومات والدول حضورها المؤسسي والقانوني ومن ثم إجراءتها المتعددة.
اقتصاد السوق الاجتماعي (المفهوم ومحدداته)
اقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام اقتصادي يقوم على مبادئ واضحة يمكن الاعتماد عليه لتوجيه الجهات الاقتصادية الفاعلة. ومثل هذا النظام لا يسقط من السماء بل هو نتيجة البحث العلمي والتأمل في المبادئ الأخلاقية ونتائج أنشطة تنظيم المشاريع والأنشطة الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى الإطار النظري والأسس الفلسفية التي تعتبر الإطار المرجعي لهذا النظام وتحديد إجراءاته العملانية.
بشكل عام يمكن القول: إن اقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام يعتمد سياسات اقتصادية بمضمونها الاجتماعي، استناداً إلى التزام الدولة دستورياً وشعبياً بالمسألة الاجتماعية التي تستهدفها السياسات الاقتصادية, وهذا يعني في دلالاته أن السياسات الاقتصادية لسيت غاية بحد ذاتها ولسيت خارج إطار المجتمع، بل هي تنظيم للعملية الإنتاجية وزيادة الثروة لأهداف المجتمع والأفراد وليس لزيادة معاناتهم.
ولهذه السياسة مرتكزات دستورية وشعبية وفلسفية وهي تتضمن في دلالاتها تجديداً في وظائف الدولة وأدوارها وفقاً لمتطلبات متغيرة في السياسة الاقتصادية وفي النظام الاقتصادي العالمي.. وهذا يعني إثبات حضور الدولة وفق رؤية متغيرة لأدوارها وليس تغييباً لدورها كما يرى متطرفو الفكر الليبرالي من دعاته عربياً.. ولعل الأزمة المالية العالمية الأخيرة أثبتت أهمية أدوار الدولة وحضورها كفاعل رئيس في السياسة الاقتصادية ومنظومتها الإجرائية.
وتعبير اقتصاد السوق الاجتماعي له دلالات عدة أولاً؛ باعتبار أن هذا السوق وفق عملياته السياسية يستهدف أفراداً ومجتمعاً ولا يجعل منهما تابعين لإيقاعاته الرقمية في الحسابات والأرباح، مما يعلي من صورته المتوحشة.. وإنه يكون صديقاً للأفراد والمجتمعات بحال كان المجتمع حاضراً في رسم السياسات الاقتصادية وفي ذهن السياسيين.. وكلمة الاجتماعي تضاف مرتين في الأولى نحو الاقتصاد بأنه ذو صفة اجتماعية وليس صفة مجرة من المجتمع وبأنه معني بالأرقام والحسابات دون السياق المجتمعي الذي يمارس الاقتصاد فيه.. ومرة تضاف الاجتماعي إلى السوق انطلاقاً من الاهتمام بقدرات الأفراد على الاستفادة منه، وهنا يكون الدخل للأفراد قادراً على تلبية احتياجاتهم، وأن تكون الأسعار مقبولة في حدود القوة الشرائية للغالبية من أفراد المجتمع..
يمنح اقتصاد السوق الاجتماعي الاهتمامات الاجتماعية نفس الأهمية التي تتمتع بها الاهتمامات الاقتصادية، علاوة على ذلك فهو يقوم على توجهات بيئية. بمعنى أن المكونات البيئية لا تقل أهمية عن عناصر السوق وخصائصه الاجتماعية. وحتى عام 88 كان العالم مقسماً إلى قطبين أحدهما يعتمد التخطيط الممركز بيد الدولة والآخر يعتمد اقتصاد السوق الرأسمالي، ولم يكن بعد الخيار الثالث قد تبلور فكرياً وإن كانت محاولات جادة للجمع بين أفضلية التطبيقات في التجربتين. لكنه منذ انهيار القطبية الثنائية فرض النموذج القائم على السوق نفسه على الآخرين رغم الاختلاف في التوجهات السياسية من بلد إلى آخر.
في هذا السياق لم تعد المناقشة حالياً في التحديد للثنائية القائمة على الاقتصاد الممركز بيد الدولة أو اقتصاد السوق الحرة المرتبطة بالحكم الليبرالي. بل أصبح النقاش يدور حول النموذج الأكثر ليبرالية أو النموذج المحافظ الجديد واقتصاد السوق الاجتماعي أو اقتصاد السوق الاجتماعي الديمقراطي. ومن بين هذين البديلين يكمن اقتصاد السوق الاجتماعي والبيئي الذي يعد نظاماً مفتوحاً ومرناً، وبالإمكان تعديله وفقاً للوقت والظروف في مختلف البلدان. وهذا هو السبب الذي لا يجعل نظام اقتصاد السوق الاجتماعي والبيئي نقطة ثابتة على مقياس الأنظمة الاقتصادية، بل بالأصح هو عبارة عن نطاق يتحرك إلى اليسار أو إلى اليمين وفقاً لاحتياجات وظروف معينة. وهنا يمكن اعتماد أهم سمة لاقتصاد السوق الاجتماعي بأنه نظام واحد يقدم: كفاءة اقتصادية، وعدالة اجتماعية، وحماية بيئية.
المتطلبات الأساسية لاقتصاد السوق الاجتماعي:
هناك الكثير من المتطلبات التي تشكل أسس ومرتكزات لاقتصاد السوق الاجتماعي مؤسسياً وفلسفياً وقانونياً وإجرائياً أهمها سيادة القانون ونظام ديمقراطي يحترم مصالح مختلف الفئات الاجتماعية. وتعتبر الشراكة الاجتماعية بين النقابات والجمعيات الحرة عنصراً أساسياً لتصميم سوق العمل، والسماح بتحقيق ديناميكيات تنظيم المشاريع والاستثمار ومعدلات توظيف عالية وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية. جميعها تعتبر أهم متطلبات اقتصاد السوق الاجتماعي، وهي بذلك تعتبر واحدة من المزايا الكبيرة لهذا الاقتصاد من خلال أنه يوفر خريطة طريق لإيجاد الثروة المستدامة في إطار سياسات اجتماعية يستفاد منها في إعادة توزيع الثروة. وتطبيق هذا المفهوم يجعل من الممكن التغلب على التخلف الاقتصادي وتحقيق الاستقرار في مستوى الرفاه، جنباً إلى جنب مع العامل المقبول للعدالة الاجتماعية. فهذا النموذج ليس فريداً في ألمانيا، بل قد يعمل به في البلدان التي لديها خصائص مختلفة. ولكن تقليد التجربة الألمانية لا يوعد بنفس النجاح نتيجةً للاختلافات الهيكلية، والإرادة السياسية، والفاعلية المجتمعية. إلا أن الأمر الهام هنا أنه من خلال هذا النظام النابع من قوى متوازية يتم إنشاء توازن ديناميكي بين مكونات العملية الإنتاجية والسياسية والمجتمعية.. وفي هذا السياق تبرز ثلاثة مبادئ عامة يستند إليها اقتصاد السوق الاجتماعي وهي:
• الروح الفردية للإنجاز والمسؤولية الذاتية للمواطنين.
• التضامن داخل المجتمع.
• فاعلية للدولة وحضورها.
بمعنى آخر يمكن القول بشكل موجز: إن مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي يشير إلى نظام اقتصادي قائم على المنافسة في ظل سوق مفتوحة بعوامل ضمان اجتماعي متوفرة (اقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام مفتوح يتطلب درجة عالية من المرونة). وهذا النموذج لا يمكن أن يكون نموذجاً مثالياً بصورة دائمة. ولكن، باعتباره نظاماً مرناً ومفتوحاً للأفكار الجديدة والتطورات، فإنه يطمح إلى التحسين المستمر عن طريق فحص فعاليته ونتائجه من خلال المقارنات الدولية ورضا المواطن. وهنا يكون دور التقييم والمتابعة العملية والعلمية له من خلال الخبراء وصناع السياسات الاقتصادية أمراً مطلوباً لتقويم مساره ووضعه دوماً في المسار الصحيح.
في نشأته التاريخية منذ 1949 واطراد نموه وتطوره تعرض اقتصاد السوق الاجتماعي إلى ظاهرتين هامتين في السنوات العشرين الماضية هما العولمة وقضية حماية البيئة، وكلاهما يشكل جزءاً لا يتجزأ من أزمة الطاقة والتغير المناخي. وهناك استجابة كافية لهذين التحديين، مما يتطلب تحولاً في السلوك الفردي والاجتماعي، وكذلك قوة دفع جديدة نحو التعلم مدى الحياة. كما أنها تنطوي على إعادة تعديل أدوات التضامن والتبعية. وهذا الاقتصاد بقدر اهتمامه بزيادة الثروة واستدامتها للأفراد والدول إلا أنه مهتم بالبيئة ولا يجوز في إطاره أن تهدر الموارد الطبيعية ولا تدمر البيئة، ذلك أن مفهوم الاستدامة التي يعتمدها اقتصاد السوق الاجتماعي إنما تعني استمرار الحماية للبيئة كمورد أساسي للأنشطة الاقتصادية وتطويرها دون إلحاق الأذى بها.
المرتكز ات الأساسية لاقتصاد السوق الاجتماعي:
• الدولة المؤسسية
• القانون
• الفاعلية المثمرة للمشروعات الاقتصادية
• خلق توافق مجتمعي وسياسي تجاه رسم ملامح السياسات الاقتصادية (فاعلية الاتحادات والنقابات مع الحكومة في اعتماد السياسات والإجراءات الاقتصادية).
وفق هذه المرتكزات يتم الإجابة على سؤال ما طبيعة دور الدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي (هل المطلوب تجديد دور الدولة، تغييره، أم إلغائه، أم انسحابه)؟ ونحن نقول بوضوح وبشكل مباشر للإجابة على هذا التساؤل أنه في كل الفعاليات والمؤتمرات العلمية التي تناولت اقتصاد السوق والمتغيرات الدولية كان هناك إجماع على أن دور الدولة يجب أن يتغير وأن هناك مجالات يجب أن تظل بيد الدولة.
بمعنى آخر إنه يترتب على الدولة مسؤوليات جديدة، ولذلك كانت وستبقى ضرورة اقتصادية معنية مباشرة بسياسة التوازن الاقتصادي والإشراف على توفير السلع العامة وتنفيذ البنية التحتية وقيادة جهود العلم والتقانة. ووفقاً لذلك يتطلب الدور الجديد للدولة البحث عن نظرية اقتصادية جديدة تتعدى النظريات القائمة ويتطلب ذلك إعادة الصياغة لمجمل السياسات المنظمة لدور الدولة وتحديد علاقاتها مع المواطنين.
فالدولة يجب أن تقوم بوضع الإطار العام للنشاط الاقتصادي الاجتماعي وسن القوانين والنظم لتحقيق الأهداف. أي تتدخل الدولة مباشرة عن طريق القوانين والترتيبات الإدارية والتنظيمية الدافعة للنشاط الاقتصادي والحافزة للمواطنين (تأهيل المواطنين للمبادرات الفردية اقتصادياً وللمبادرات الجمعوية اجتماعياً). وقد تترك مساحات كبيرة في النشاط الإنتاجي والاقتصادي للمؤسسات الفردية والأهلية والتضامنية دون أن تغيب كلية عن هذا المجال.
بصورة واضحة، يجب على الحكومة أن تتبنى نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي والبيئي، معربة عن التزامها لتحقيق الازدهار والعدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، مع الإقرار بحدود تدخلاها، ويجب على الدولة حماية التعددية الهيكلية وتعزيز منطلق إمكانيات المؤسسات والأفراد. كما ينبغي عليها تقديم الحوافز بدلاً من التدخل في العملية الاقتصادية، ويجب على الدولة أن تكون على استعداد لتعزيز المسؤولية الذاتية للمواطنين بقدر الإمكان، وتفويض الرقابة ودعم اتخاذ القرارات للمنظمات المستقلة (المجتمع المدني).
في هذا السياق يرى البعض أن دور الدولة يجب أن يكون متغيراً وفقاً لكل مرحلة تمر بها البلد ووفق للمتغيرات الاقتصادية العالمية التي تتطلب إعادة النظر في السياسات والمفاهيم الاقتصادية، ولكن ذلك دون الإخلال بالأسس والمرتكزات الأساسية الواجب اعتمادها من الدولة وهي:
1. نظام مالي وضريبي كفء وفعال؛ حتى يكون في تصرف الدولة الموارد المالية الكافية لأداء واجباتها.
2. نظام معلومات وطني كفء وفعال للحصول على المعلومات الدقيقة والصادقة للاعتماد لأغراض المراقبة والضبط والتنظيم.
3. نظام للتضبيط وغايته مراقبة الأسواق وتحري الأداء الحر والكفء لآلية الثمن وقوى السوق.
4. أطر قانونية وجهاز قضائي فعال للتصدي للمخالفات وتصويب التشوهات وتحقيق التقاضي العادل والسريع.
والسؤال الذي يضع نفسه هنا ماذا عن قطاع الأعمال (القطاع الخاص) في اليمن؟ هل يستطيع قيادة العملية الاقتصادية كبديل للدولة؟ هل يمكن القول بوجود برجوازية وطنية قادرة على قيادة التحول الاقتصادي؟ الواقع اليمني يعكس وجود قطاع أعمال – أو بيوت تجارية - مشروعات تدار من قبل عائلات لا تحظى جميعها بإدارة رأسمالية حديثة.. فالمشروعات الرأسمالية تتصف بالفصل بين الملكية والإدارة.. والسائد في اليمن (في غالبية قطاع الأعمال) إنها تدار من العائلة التي تمتلك رأس المال عدا بعض المؤسسات التي تأسست في عقود سابقة وتتسم بكثير من ملامح المشروع الرأسمالي، لكنها في الغالب ترتبط بمراكز قوى سياسية وعسكرية تسهل لها نشاطها داخل البلد.
وبشكل عام لا يمكن القول باطمئنان إلى إمكانية أن يتولى قطاع الأعمال المهام الرئيسة في التحول الاقتصادي لذلك فإنه على الدولة - الحكومة - أن تساعد في تشكل قطاع أعمال واسع، وتدفع به للشراكة معها في إطار التحول الاقتصادي من خلال الإسناد إليه ببعض مشاريع إنتاجية أو توزيعية لتؤهله ليكون شريكاً فاعلاً. ومن جانبه على قطاع الأعمال أن يؤطر ذاته من خلال تجمعات استثمارية كبيرة عبر شركات مساهمة تستطيع أن تتولى الإسهام الرئيس في النشاط الاقتصادي في المرحلة الراهنة، وتأسيساً لدور مستقبلي كبير..
ولكن أمام هذا الأمر تظهر معوقات ترتبط بثقافة القبيلة وبأدواتها التي تحول دون الشراكة بين عدد من رجال الأعمال متعددي الانتماء الاجتماعي ، إضافة إلى بروز أنانية مفرطة في الاستحواذ والتملك دون التفكير بالعمل الجماعي والتشاركي وهي نزعة تم تغذيتها إبان النظام السابق. ومن هنا يكون المبرر للشراكة الثلاثية بين الدولة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني، إضافة إلى نقابات العمال وشراكة أخرى مع الخارج الإقليمي عربي وأجنبي، وهنا تتظافر جهود الحكومة مع المستثمرين من الداخل والخارج ومع الممولين إقليمياًَ ودولياً لرسم ملامح التحول الاقتصادي وتحقيق تطور حقيقي في هذا المسار ينعكس في تحسين مستمر لمعيشة المواطن اليمني ويوسع من فرص العمل وزيادة النمو الاقتصادي.
وعلى قطاع الأعمال أن يفكر في الربح من خلال مشروعات اقتصادية كبيرة تسهم بالتنمية وخلق فرص عمل.. وللعلم فإن دور قطاع الأعمال الاجتماعي متضاءل ومرتبط بمزاج شخصي أو يتم استخدامه كواجهة ليس أكثر.. مع أنه في إطار الرأسمالية العالمية كمثال النموذج الأمريكي والأوروبي تبرز مئات من الأمثلة للأدوار الاجتماعية والوطنية لقطاع الأعمال في دعم مجالات التعليم والصحة والبحث العلمي ودعم المؤسسات الأهلية التي تعمل في التخفيف من الفقر..ومن هنا فالقطاع الخاص اليمني مدعو للمشاركة الإيجابية في النشاط الاقتصادي بكل مجالاته مع الاهتمام بدور إيجابي في المجال الاجتماعي ودعم مؤسساته الأهلية.
طبيعة دور الدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي:
جوهر اقتصاد السوق الاجتماعي هو الإدارة الفاعلة للتنظيم الاقتصادي، والسؤال ما هو التنظيم للنشاط الاقتصادي؟ كيف يتحقق هذا التنظيم؟ من أجل من يتحقق أو من هو المستفيد من هذا النشاط؟ وللعلم فإن اعتماد هذا النمط من الاقتصاد يتطلب تحولاً في دور الدولة وفي بلادنا ووفق عملية التحول نحو السوق الرأسمالية دون ضوابط منذ عام 95 واعتماد عملية الخصخصة، يمكننا القول: إن مبادرة التحول إلى اقتصاد السوق وفق روشتة البنك والصندوق الدوليين لم تجر وفق صورة منهجية ومدروسة بل تمت وفق ضغوط محلية ودولية أضفت على عملية التحول نوعاً من الاعتباطية في صنع القرارات والإجراءات وغابت السياسات الممنهجة والموضوعية.
وهنا يؤكد الباحث على حقيقة هامة أن الخروج من وهم الاعتقاد بأن تدخل الدولة الواسع هو الطريق إلى تحقيق التنمية قد ينتهي إلى وهم آخر هو بأن ترك المجال للقطاع الخاص سيقود في حد ذاته إلى تحقيق التنمية وكبح الفساد وإشاعة الازدهار الاقتصادي. وتأسيساً على ذلك تأتي دراستنا لتقدم مقاربة منهجية ورسم تصور سوسيو سياسي للمسار الاقتصادي في بلادنا وفقاً لقراءتنا لواقع المجتمع واحتياجاته وظروف معيشته، ووفقاً لمعرفتنا مسار تشكل الدولة الأدوار التي يجب أن تقوم بها في إطار خصوصية اليمن مجتمعياً واقتصادياً في إطار متغيرات لا محدودة يشهدها العالم قد لا نستطيع استيعابها إيجابياً دفعة واحدة، ومن هنا تأتي عملية التدرج والتأهيل الفردي والجمعي وبناء قدرات المؤسسات العمومية والخاصة لاستيعاب ممكنات النشاط الاقتصادي وفقاً لآليات اقتصاد السوق الاجتماعي.
في هذا المسار لا نسير بمعزل عن تجارب هامة وناجحة في أكثر من دولة، وعلينا أن نتعلم الدروس من التجارب الآسيوية التي اعتمدت في رسم السياسات الاقتصادية على النهج الواقعي وليس المسلمات العقائدية، وهذا النهج يجمع بين دور الدولة الاقتصادي ودور القطاع الخاص والقيام بتعديل لهذا الدور وفق المعطيات المتعددة للمسار الاقتصادي (فالمهم ليس فقط حرية الأسواق بل كفاءتها أيضاً). مع التأكيد على أهمية دور الدولة وأهمية البعد الاجتماعي في رسم السياسات الاقتصادية وإجراءاتها المتعددة.
مثال ذلك أن ضبط عجز الموازنة بالاقتصاد في الإنفاق على السلع العامة لا يجب أن يتم من خلال تراجع خدمات الحكومة في مجالات التربية والتعليم والصحة؛ لأن التراجع هنا له تأثير سلبي كبير على تكافؤ الفرص بين المواطنين وعلى قيم المجتمع وأخلاقياته. والمثال الآخر يتأتى من خلال الوعي بأهمية توسيع شبكة الفرص المتاحة لأكبر عدد من الناس في المجتمع للوصول إلى الأسواق وتسليحهم بالمؤهلات التي تمكنهم من التنافس بفعالية، وهنا ما ينبغي القيام به ليس إعادة توزيع الدخل بل إعادة توزيع الفرص.
وللعلم فإن فشل الدولة في دورها الاجتماعي الاقتصادية يقود إلى عدم استقرار سياسي، فالتوازن بين الأدوار الاقتصادية والاجتماعية أمر مطلوب وهام لتحقيق الاستقرار اللازم للتنمية والاستثمار، وهنا يمكن القول بوجود علاقة وثيقة بين اقتصاد السوق وبين الممارسة الديمقراطية. فالدولة يجب أن تعتمد في إدارتها للشأن الاقتصادي بالاهتمام بجميع الفاعلين أو اللاعبين في اقتصاد السوق، كل وفق طاقته وقدراته ومنهم المنظمون الاقتصاديون (المستثمرون-قطاع الأعمال - العمال ونقاباتهم، المستهلك بجميع فئاته وشرائحه الاجتماعية).
من هنا يكون الخروج من أسر الفكر الاقتصادي التقليدي منذ نشأته فقد حبذ الاقتصاديون التقليديون منذ آدم اسميث أن يكون دور الدولة في أضيق نطاق ممكن؛ إذ يفضلون عموماً أن يكون هذا الدور محصوراً في توفير الأشغال العامة الأساسية والمحافظة على النظام والقانون وحماية البلاد وضمان حقوق الملكية وحماية الحريات السياسية والاقتصادية للأفراد.
الدولة هنا من واجبها الاهتمام بمجالات الرعاية الاجتماعية للمواطنين من خلال تعزيز الدور الاجتماعي نحو قضايا الإسكان والتوظيف وتدريب العاطلين بل وإعادة تأهيل من يرغب للالتحاق بسوق العمل؛ لأن فشل الدولة بهذا الدور الاجتماعي كان سبباً هاماً من أسباب ثورات الربيع العربي في اليمن وعموم المنطقة العربية. فقد نظر المواطنون والشباب خصوصاً إلى غياب الدور الاجتماعي من منظورين الأول استحواذ الأقلية على السلطة والثروة في إطار تماسك الأقلية عبر علاقات قرابة ومصاهرة ومصالح مشتركة. والثاني غياب المواطنة المتساوية حيث الأغلبية لا يستطيعون الانتفاع بقدر محدود من الثروة الوطنية.. وهذا الأمر بدا يدركه –مؤخرا- مراقبون أجانب وبدا المراقبون محلياً يهتمون به فقد تضمنت تقارير التنمية العربية وتقارير حقوق الإنسان المحلية إشارات إلى وجود أكثر من 60 % من السكان من يعيش بدولارين في اليوم. وإن لم يتم معالجة هذا البعد باهتمام كبير ستبرز حركات احتجاجية عديدة قد تشمل عموم المجتمع؛ لأن الشباب على وجه التحديد أدرك – جاء إدراكه متاخراً - أن غياب المواطنة وتزايد معدلات الفقر والبطالة إنما يجعل من الدولة كياناً معادياً للمجتمع . خاصة إذا ما قدمنا صورة إحصائية للوضع الاجتماعي وإشكالاته ليس من خلال تزايد معدلات الفقر والبطالة بل أيضاً من خلال تزايد حالات التسول وعمالة الأطفال وتسربهم من المدارس الأساسية ووجود ظاهرة أطفال الشوارع والدفع بالإناث في سن مبكرة جداً 9 - 14 للزواج، ثم ظواهر أخرى مرتبطة بما سبق مثل انتشار المخدرات والجريمة والسرقة.. وبناء عليه يكون البعد الاجتماعي هاماً ومحورياً في السياسات الاقتصادية الراهنة وفي المدى المتوسط والبعيد، ومعنى ذلك أن التركيز على تجميع الثروة – الأوراق النقدية للحكومة- ليس هو الغاية بقدر ما تكون الغاية تحسين شروط المعيشة لغالبية السكان..
في هذا السياق يجب العمل وفق منهج الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني حتى تتسع المعالجات للبعد الاجتماعي. فلا يمكن للدولة وحدها القيام بهذا الدور بل لابد من إشراك المجتمع برموزه الفاعلة. وهنا يأتي القطاع الخاص كداعم وممول للمشاريع الاجتماعية والموجهة نحو الشباب والفقراء والعاطلين، ويأتي دور المجتمع المدني ليقوم بدور فعال وأساسي؛ باعتباره شريكاً حيوياً في عملية التتنمية؛ إذ لا يجوز للقطاع الخاص والمجتمع المدني أن يكونا في موقف المتفرج بل عليهم دور أساسي وهام مع الدولة. وهنا لابد وأن تكون إرادة الحكومة فاعلة في مجال الشراكة المحلية وفي مجال أولوية البعد الاجتماعي في سياساتها الإنمائية.
إن أهم مجالات البعد الاجتماعي للدولة يتبلور من خلال دورها في شبكة الضمان الاجتماعي وحماية المستهلك وحماية البيئة.. وللعلم فإن الحكومة اليمنية حتى اليوم لاتزال غائبة كلية عن حماية المستهلك بل إن هذا المفهوم لايزال بعيداً عن برامجها وخطابها السياسي، مع أنه ذو أهمية كبيرة في إطار الدور الرعائي للدولة؛ فهو مرتبط بكل سكان المجتمع، وحضور الدولة فيه يقلل كثيراً من الإنفاق المالي على مستوى الأسر والأفراد أو على مستوى الدولة والمجتمع.. ومع الإدراك بنوعية المسألة السكانية من حيث استمرار تزايد النمو السكاني وتزايد حجم الشباب كشريحة سكانية -عمرية - كبيرة العدد، وهي شريحة دينامية وفاعلة ومتعلمة فإن استقرار الوضع السياسي في اليمن يرتبط مباشرة في الاهتمام بالبعد الاجتماعي والرعائي للشباب خصوصاً ولعامة المجتمع حتى لا يعاد تحرك الشباب من خلال مظاهرات وحركات احتجاجية قد تستنزف الموارد الاقتصادية المحدودة بالأصل.
إذاً الدور الاجتماعي في سياسة الدولة ذو أهمية كبيرة لا مجال لانسحابها منه؛ بحجة أن المنظمات الأهلية تقوم بهذا الدور.. فالدولة حتى في المجتمعات الرأسمالية الغربية لاتزال تقوم بأدوار اجتماعية في مجال الإسكان وشبكات الأمان الاجتماعي. وبلادنا لم يبدأ فيها دور الدولة بعد، بل نحن في انتظار هذا الدور وتفعيله بالشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني. ولكن هذا الدور لا يكون حاضراً إلا بتحديد نموذج اقتصادي - سياسات اقتصادية - تعتمده الدولة يتضمن بعداً اجتماعياً واضحاً في مضمونه وأهدافه وآليات تطبيقه، وهنا يتلمس الموطنون دور الدولة وخيراتها ويتحقق قدر من التوازن الاجتماعي الذي يعد عنصراً مهماً في تحفيف حدة الصراع الاجتماعي والاحتجاجات الاجتماعية. ثم إن الدور الاجتماعي للدولة له إيجابيات كثيرة تدعم مجال النمو الاقتصادي سواء من حيث طبيعة الاستقرار أو الثقة بالحكومة وعدم التشكيك بمشروعيتها أو من ناحية إقبال المواطنين في الاندماج ضمن برامج اقتصاد السوق التي تمكنهم بشكل أو بآخر من الاستفادة منها وفق إمكاناتهم العلمية والعملية وتأهيلاتهم المتعددة.
فلا يمكن للدولة أن تعتمد إجراءات اقتصادية اعتباطية دون أن تستوعب طبيعة الأزمات الاجتماعية وإشكالاتها وهي متعددة بدءاً من تزايد معدلات الفقر والبطالة مروراً بالتسول وعمالة الأطفال وأطفال الشوارع وانتشار المخدرات والجريمة وصولاً إلى حالات التطرف والعنف وحمل السلاح. كل هذا يتطلب معالجات جادة تعتمد منظورات علمية في السياسات العامة ومنها السياسات الاقتصادية التي تشكل واحداً من مفاتيح الحل للأزمات والإشكالات الاجتماعية.
لماذا التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي:
مع التحول الديموقراطى باعتماد التعددية السياسية والتحول الاقتصادى باعتماد اقتصاد السوق وكلاهما أصبح ضرورة وفقاً للمتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية فإن دور الدولة لا ينبغى أن يغيب عن المجالات الاجتماعية للتنمية، فاعتماد اقتصاد السوق لا يعنى استنساخ النظام الاقتصادى الرأسمالى الغربى (أو الأمريكى) فلكل دولة ظروفها فى التطور والتنمية، وهنا تشير تقارير التنمية البشرية الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة الإنمائي إلى أنه (يجب على الحكومات الوطنية أن تجدد طرائقها فى الإدارة وتمكن الناس من المشاركة الشعبية في الحكم وفي التنمية، وإن اعتماد آليات السوق لا يعنى أن تتخلى الدولة عن مسؤوليتها تجاه المجتمع.
وتؤكد تجارب الدول الآسيوية التي حققت تطوراً كبيراً فى الاقتصاد وفق آليات السوق مثل اليابان وكوريا وسنغافورة وماليزيا وهونج كونج، وجميع هذه البلدان حققت نمواً اقتصادياً كبيراً ارتبط بدور فاعل وأساسي للدولة التي اهتمت بتنمية وتطوير البنية التحتية اللازمة للنمو الاقتصادي وبتقديم خدمات اجتماعية متعددة وبالضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين وبتطوير التعليم والتدريب النوعي للقوى العاملة وتوفير مناخ مستقر ومساعد على الاستثمار والنمو الاقتصادي.
إن مذهب دعه يعمل laisses faire، والذى يقضي بأن يكون تدخل الدولة في التنمية في أضيق نطاق ينتمي إلى القرن التاسع عشر، وإن المتغيرات السائدة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين تعبر عن تطور نوعي في التنمية وفي آليات السوق وفي مهام الدولة. والمطلوب هنا هو تجديد مهام ووظائف الدولة وفق مبدأ الشراكة مع المجتمع المدني، فالسوق غير المقيد لا يتفق مع الحكم الديموقراطي وإن اعتماد السوق اقتصادياً، لا يعني أن يتم تسيير المجتمع ؛ باعتباره ملحقاً بالسوق. إضافة إلى أن التنمية في إطار اقتصاد السوق لا تقتضي دولة انكماشية وضعيفة، بل يستلزم دولة فاعلة (مؤسسياً وقانونياً) حتى تمكن الفقراء والأقل حظاًَ من تحسين حياتهم وليس مزيداً من إضعافهم، وفي هذا الصدد يمكن القول: إن الحكومه التي تعمل لصالح الفقراء هي أيسر منالاً في ظل النظم الديموقراطية.
وهنا تكون الحكومة الجيدة أو الحكم الجيد ليس من قبيل الترف بل باعتباره ضرورة حيوية، فالسوق ذاته لكى يتطور ويحقق نمواً اقتصادياً يحتاج إلى دولة تسنده وتنظم نشاطاته وتحمي عمليات المنافسة داخله وتمنع الاحتكارات وتجدد التشريعات والقوانين اللازمة، وتدعمه بتطوير البنى التحتية التي من دونها لا ينجح السوق في مهامه..أي أنه مطلوب في النموذج الإنمائي الجديد عملية توفيق بين ديناميات الرأسمالية - السوق - وبين الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
في هذا السياق يمكن القول: إن الواقع اليمني المعاش يتطلب رؤية تنموية ثاقبة؛ فهو لايزال يعاني من ارتفاع في معدلات الأمية وانخفاض المستويات الثقافية والتعليمية، وانخفاض عمليات التحديث الاجتماعي، بل وغيابها في كثير من مناطق الريف اليمني، ومع التسعينيات ظهرت أعداد كبيرة من العاطلين (منهم نسبة كبيرة من المتعلمين)، وهنا فإن خطة التنمية يجب أن تتضمن في أهدافها واقع المجتمع كما يعبر عنه أفراده، وهنا تكمن أهمية الشراكة للمجتمع المدني في التخطيط.
ومع تنوع وتعدد التحديات الخطيرة التي تواجهها الدولة والمجتمع في اليمن محلياً وخارجياً فإن الدولة بمفردها لم تعد قادرة على مواجهة تلك التحديات، الأمر الذي يوجب إشراك المجتمع، وهو ما يجسد الرؤية التنموية الجديدة التي تنظر إلى التنمية باعتبارها: عملية شاملة ومستدامة وليست عملية مؤقتة، عملية مجتمعية يشارك فيها كل أفراد المجتمع (ذكوراً وإناثاً)، عملية موجهة مقصودة، ومخطط لها أي أنها ليست عملية عشوائية، تحقق التوازن بين الريف والحضر وبين المجالات الاقتصادية والاجتماعية وبين الحاضر والمستقبل وبين احتياجات الناس وسلامة البيئة، عملية توسع الخيارت أمام الناس في مختلف مجالات الحياة، عملية يتسع فيها فضاء الحريات العامة وتحترم حقوق الإنسان (تنمية الناس، الاستثمار في القدرات البشرية وبنائها، تنمية للناس - التوزيع العادل لثمار التنمية، تنمية بالناس - إتاحة الفرص والخيارات (المشاركة الشعبية).
إن اقتصاد السوق الاجتماعي (الطريق الثالث في التنمية) يشكل الخيار الوطني الأمثل للسياسات الاقتصادية فهو يعتمد على التوفيق بين اقتصاد السوق والتدخل الحكومي المنظم والمحدد الذي يستند على الشراكة مع المجتمع المدني الحديث وفقاً للأسلوب التالي:
1. دور محدود للدولة اقتصادياً ودور فاعل اجتماعياً وسياسياً.
2. دور فاعل للقطاع الخاص وفق آليات السوق (اقتصاد السوق تنظمه الدولة وفق قوانين تمنع الاحتكار وتنظم المنافسة وتحمي المصلحة العامة).
3. مجتمع مدني مستقل تتزايد مساهماته الاجتماعية والاقتصادية بالشراكة مع الدولة.
4. اتساع الديموقراطية من خلال اللامركزية والحكم المحلي.
5. التمكين والإنصاف للفئات الفقيرة والمهمشة.
6. إدماج المرأة في مختلف برامج التنمية.
7. التنمية البشرية هي المركز الأساسي للتنمية الشاملة وشرط استدامتها.
8. الحكم الجيد (الشفافية، محاربة الفساد، استقلال القضاء، حكم القانون).
فالسياسات الاقتصادية هي محور عمل الدولة برمتها وفقاً للتعريف الذي قدمه صاحب كتاب رأس المال بقوله: إن السياسة هي الاقتصاد المكثف.. وهذا الأخير يصبح جوهر العملية السياسية ولوازمها تشريعياً بل وثقافي، إضافة إلى حزمة من الإجراءات الإدارية والسلوكية، وفي بلادنا كثير ممن يتخذون القرارات بشأن السياسات الاقتصادية يجهلون الكيفية الحقيقية التي يعمل بها الاقتصاد ويجهلون تداخل العلاقات وتفاعلاتها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ولذلك تظهر إجراءات اعتباطية في الشأن الاقتصادي، ومن ذلك اعتماد الخصخصة وبيع القطاع العام منذ 95 بمعزل عن القانون الناظم لهذه العملية حيث صدر القانون متأخراً ثلاث سنوات.
وفي اليمن نتفق على عملية التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي بمبررات عقلانية ومنطقية، لكن لا اتفاق على إلغاء دور الدولة اقتصادياً؛ فالقضايا التي تواجهها الدولة قضايا بنيوية هامة: إصلاح سوق العمل، زيادة استثمارات القطاع الخاص، إصلاح المالية العامة، إصلاح نظام التسعير، تحرير التبادل التجاري. إذاً تدخل الدولة أمر مهم ليس فقط لتصحيح فشل السوق وإنما كذلك لإعادة توزيع الدخل والثروة.. وهنا نكون إزاء ترتيب لحضور الرأسمالية المنظمة أو الموجهة من خلال الدولة أو من خلال قطاع الأعمال (البرجوازية الوطنية)، وهذا الترتيب يتضمن إعادة التكيف الهيكلي وبرامج التكيف تتكون من محورين:
الأول: يركز على تنفيذ سياسات وإجراءات لاستعادة التوازن الداخلي والخارجي من خلال تطبيق سياسات مالية ونقدية متشددة موجهة لترشيد الطلب المحلي عن طريق خفض النفقات الحكومية والسيطرة على نمو السيولة النقدية وانتهاج سياسات محددة فيما يخص نظام الأسعار وسعر الصرف ونظام التجارة.
الثاني: يركز على تطبيق إصلاحات هيكلية تؤدي إلى إزالة التشوهات في الاقتصاد، بما يضمن كفاءة استخدام الموارد، وبالتالي رفع معدلات النمو وضمان استدامته.
ومرة أخرى تظهر الحاجة إلى استمرار دور الحكومة –الدولة- والدعوة إلى هذا الدور مازالت قائمة مع إحداث تغيير في طبيعة ومستوى ذلك الدور بما يضمن إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص وتتحول الدولة من العمل المباشر في النشاط الإنتاجي إلى الدور الإشرافي والتنظيمي في إطار استمرار تواجدها الفاعل في المجالات التي يحجم القطاع الخاص عن ممارستها.
معنى ذلك أن الدور المتجه لتوسيع ممارسات القطاع الخاص إنما يعني في دلالاته تغيير الدور الذي تضطلع به الدولة من دور اللاعب - الفاعل المباشر في الاقتصاد - إلى دور الحكم في الأسواق التي يتنافس فيها القطاع الخاص. وهذا التغيير في دور الدولة مؤشر للتغيير في أدوات السياسة العامة (فهو يعني الانتقال من الاستثمار المباشر في العمليات الإنتاجية إلى تنظيم أعمال الاستثمار من قبل القطاع الخاص). وهنا تتولى الدولة تشجيع المنافسة والابتكار وحماية المستهلكين ومنع الاحتكار وحماية أصحاب الودائع من مخاطر الممارسات غير السليمة مع حمايتها المباشرة للمجالات الاجتماعية ودعمها المستمر. وفي بلادنا حيث الجهاز الحكومي أقل قدرة على معالجة المشاكل الفنية ولا توجد ضوابط كافية لمنع اتخاذ قرارات اعتباطية، كل ذلك يجعل القطاع الخاص يحجم عن الاستثمار؛ لأنه يخشى من سياسات وإجراءات تحمل في طياتها مخاطر كبيرة أهمها عدم التنبؤ بالقرارات الاعتباطية للحكومة وازدواجية قراراتها، إضافة إلى عدم التكافؤ في الحصول على المعلومات اللازمة، وهنا لا تقدم الأجهزة الحكومية إشارات تطمينية للمستثمرين محليين وأجانب بل وتجعل استثماراتهم معرضة للمخاطر المحتملة.
إن عجز الحكومة عن تزويد الفقراء بالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات العامة أثار -ولايزال - تساؤلات حول دور الدولة ومشروعيتها ووظيفتها الأساسية. وهنا يستمر التوسع في الطلب كماً ونوعاً على الخدمات العامة وفقاً لتزايد النمو السكاني، وهنا تصبح عملية النهوض بنوعية التعليم وتوفير الرعاية الصحية وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي قضايا ذات أهمية بالغة بالنسبة للسياسة العامة وللاستقرار واستدامة المناخ الملائم للنمو الاقتصادي، بل ولتوفير اليد العاملة الأكثر كفاءة للعمليات الاقتصادية وفق مستوى التطور التقني، وهو الأمر الذي يعكس قصوراً كبيراً في العملية التعليمية وعدم اتساقها مع متغيرات سوق العمل.
ويأتي عجز النظام عن التكيف مع المتغيرات العميقة في المجتمع وفي سوق العمل انطلاقاً من إصراره على اعتماد سياسات وقرارات اقتصادية دون شراكة في مناقشتها مع قطاع الأعمال ومع العمال ونقاباتهم ومع ممثلي المجتمع المدني، وإصراره على عدم تغيير إيجابي ونوعي في أسلوب الإدارة وما يقترن بها من تفاقم البيروقراطية والمحسوبية والفساد، وهنا يكون السياسيون والبيروقراطيون عبارة عن مجموعات مصالح يمارسون نفوذهم على عملية صنع القرار الاقتصادي خدمة لمصالحهم الذاتية وليس نهوضاً بالمصلحة العامة (سعي مراكز النفوذ للحصول على مكاسب ريعية).
إن إعادة تعريف دور الدولة أي تحديد المجالات الملائمة لها يتطلب معرفة ما إذا كان اقتصاد السوق سيقدم كماً وكيفاً قدراً أقل من السلع الاجتماعية والسلع العامة عما هو مقبول اجتماعياً وهل سيعمل اقتصاد السوق في خدمة الصالح العام؟ وما هي التدابير الحكومية التصحيحية التي يلزم اتخاذها؟ وما هو الدور الذي ينبغي القيام به لكل من الدولة والقطاع الخاص في مجال الخدمات العامة، وما هو نطاق الدولة وما هو نطاق القطاع الخاص؟ إذاً الحاجة ماسة لإعادة تحديد دور الدولة ووظيفتها بدلاً من سحب دورها أو إلغائه، فلا يمكن نجاح السياسات الاقتصادية دون دور فاعل ورئيس للحكومة وفق تجديد لهذا الدور وممكناته التنظيمية والبنيوية.
آليات التوافق المجتمعي لدعم تشكل اقتصاد السوق الاجتماعي:
إن فن السياسة باعتماد الإجراءات المناسبة في الوقت المناسب وبالقدر المناسب هو السمة الأساسية التي تعكس حضور اقتصاد السوق الاجتماعي. في هذا السياق فإن الحكومات المحلية والوطنية لديها دور قيادي؛ لأن العملية الانتخابية تعطيها المسؤولية عن رعاية المجتمع. ومع ذلك لا يمكن لهذه المؤسسات الحكومية أن تكون ناجحة إلا إذا كانت في حوار مع الجهات الفاعلة اقتصادياً (اتحادات أرباب العمل والنقابات العمالية والمؤسسات المستقلة). يمكن أيضاً لجمعيات المجتمع المدني مثل جماعات الحفاظ على البيئة وجمعيات حماية المستهلك، أو غيرهم من المحتجين أن تلعب دوراً هاماً في هذا الحوار، خصوصاً على الصعيد المحلي.
كما أن الحوار المكثف أمر ضروري أيضاً داخل الأحزاب السياسية لإشراكها في عملية صنع القرار خاصة في حالة اتخاذ قرارات بعيدة المدى، ومن ذلك في بلادنا القرارات الاعتباطية للحكومات السابقة برفع سعر البترول ومشتقاته، وما كان ينجم عن ذلك من مظاهرات واحتجاجات يتخللها استخدام العنف وسقوط عشرات القتلى والجرحي، مثل هذه القرارات يجب إشراك كل رموز المجتمع المدني عبر حوار وتسويات يتم التوافق عليها قبل إصدار القرارات.
ففي الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، تجبر الدولة على إعادة تعريف دورها على صعيد النشاط الاجتماعي والاقتصادي باتجاه تقليصه وإعادة توجيهه وإعادة تشكيله. وتنبع الضغوط في سبيل التغيير من ثلاثة مصادر:
• القطاع الخاص الذي يريد وجود بيئة مواتية أكثر للسوق، وتوازناً أفضل بين الدولة والسوق.
• المواطنون الذين يريدون وجود قدر أكبر من مساءلة الحكومة ومن استجابتها، إضافة إلى تحقيق قدر أكبر من اللامركزية.
• الضغوط العالمية المتأتية عن الشركات المتعدية للقوميات وعن اتجاهات اجتماعية واقتصادية عالمية تشكل تحدياً لهوية الدولة وفلسفتها.
آليات تفعيل اقتصاد السوق الاجتماعي:
أولاً: شروط الإطار العملي الموثوق
إن وجود قوانين كافية، نظام قضائي مستقل، احترام حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية، إمكانية المشاركة في عملية صنع القرار السياسي، استمرار بعض السياسات الحكومية، أو على الأقل الخدمة العامة، كلها لا غنى عنها لتقديم نظام توجيهي طويل الأمد إلى الجهات الاقتصادية المختلفة.
إذا لم يتم إنشاء هذه القوانين والقواعد بشكل واضح ومقبول اجتماعياً، سيحاول البعض الحصول على الكثير من المزايا على حساب الآخرين أو على حساب المجتمع. فبدون وجود إطار عملي واضح وموثوق به، سوف تسعى الجهات الاقتصادية إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح على مدى قصير ووضع مدخراتهم في الخارج بدلاً من استثمارها في البلد الذي تحققت فيه هذه المدخرات. ويعتبر أي اقتصاد منظم بقوة ومضاف إليه الطابع المؤسسي مثل ناقلة كبيرة تغير مسارها ببطء أكثر بكثير من زورق إبحار.
ثانياً: الإعلام المستقل والمسؤول
يعتبر اقتصاد السوق الاجتماعي نموذجاً متعدد الأوجه حيث يصعب على المواطن العادي التوصل إلى فهم كامل للعمليات الاقتصادية والاجتماعية وارتباطاتها بالبيئة. ولهذا فإن المعلومات والاتصال الفعال أمر حتمي في اقتصاد السوق الاجتماعي، فهذا ممكن بالنسبة للمستهلكين من قبل جمعيات حماية المستهلك ومشرعي لوائح الدولة للاستدلال بمحتوى المنتجات بشكل واضح. ووفقاً لنموذج اقتصاد السوق الاجتماعي لا ينبغي على الدولة تسهيل ذلك فقط إنما عليها أن تدعم بقوة حرية المعلومات، وذلك في مصلحتها أولاً ولمصلحة المجتمع ومن حقه بدرجة أساسية.
ثالثاً: الاستقلال النسبي واستعداد المشاركين للتسوية
يؤكد اقتصاد السوق الاجتماعي على أهمية الشراكة بين الدولة ورجال الأعمال والنقابات والمؤسسات العامة المستقلة والجماعات المهتمة في المجتمع المدني؛ باعتبارها جهات هامة وممثلة للمجتمع وللمنتجين وللعمال، وهنا يكون التوافق المجتمعي على السياسات والقرارات الاقتصادية.
إذاً اقتصاد السوق الاجتماعي يعترف بوجود الآخرين وبفاعليتهم، ويؤكد أن مصالحهم الاقتصادية هي مصالح مشروعة، وهنا يلزم تقديم الحلول والتسويات المرتبطة بالقرارات والسياسات الاقتصادية من خلال شراكة معهم.
فالشراكة الاجتماعية هي سمة هامة لاقتصاد السوق الاجتماعي، وهذا يعني دائماً التفاهم السلمي والانسجام بين الجهات الفاعلة، بل الاستعداد للحل والتسوية إذا تم استنفاد إمكانيات التفاوض عندما يتوصل الجانبان إلى حل وسط، وهذا يعني أن الاتفاق الذي يتم التفاوض عليه يكون فاعلاً ومعمولاً به ويمنع وجود إضرابات أو احتجاجات قد تؤثر سلباً على العمليات الاقتصادية. في هذا السياق يجب على الحكومة أن تكون مستعدة لتقديم الحلول الإيجابية تجاه حاجات المجتمع وقضاياه..
فقبل إدخال القوانين التي تؤثر على المصالح الاقتصادية والاجتماعية أو الإيكولوجية، يجب عقد جلسات استماع وإجراء مشاورات من شأنها قد تؤدي إلى إدخال تعديلات على الخطط والقرارات.
أهم أدوار ووظائف الجهات الفاعلة في اقتصاد السوق الاجتماعي:
أولاً: الدولة ومؤسساتها العامة
- وضع قوانين وشروط الإطار العملي ذات الصلة باقتصاد السوق الاجتماعي والبيئي، فضلاً عن نظام مراقبة يضمن التزام الجهات الفاعلة بهذه القواعد.
- تحديد الأولويات لمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
-حماية وتشجيع المنافسة الوظيفية.
- التنبه فيما يتعلق بالتوازن الاجتماعي من أجل تجنب أو تخفيف حدة المشاكل الاجتماعية.
- تقديم الحوافز ودعم الابتكارات.
- إنتاج السلع العامة.
- وضع مجموعة قواعد سلوك صديقة للبيئة.
- مراقبة وتمرير القواعد التي تحدد نظام اقتصاد السوق الاجتماعي والبيئي.
- تشجيع ودعم الأنشطة التعليمية والتدريب المهني والبحث العلمي.
- التدخل بطريقة تبعية عندما لا تتمكن المبادرات الخاصة أو التضامن من حل المشكلات.
ثانياً: رجال الأعمال ومؤسساتهم
- التركيز على الإنتاجية والقدرة التنافسية.
- البحث والاضطلاع بالأنشطة الربحية وإعادة الاستثمار في الأرباح أو على الأقل جزء منها.
- مراقبة الأسواق المحلية والدولية والبحث عن ابتكارات جديدة.
- مراعاة الاحتياجات البيئية في إنتاجهم.
- التأكد من الظروف المقبولة اجتماعياً للعاملين معهم.
- تشجيع ودعم التدريب المهني للعمال.
- تسهيل التعاون بين إدارة العمال عن طريق توجيه تدفقات شفافة المعلومات.
- المشاركة في الشراكة الاجتماعية والتفاوض مع نقابات العمال حول ظروف سوق العمل.
- الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير.
- إنشاء اتحادات وجماعات ضغط لتقديم مصالحها وتبادل المعلومات.
ثالثاً: النقابات العمالية
- السعي لتحقيق ظروف مقبولة اجتماعياً في سوق العمل.
- التفاوض حول المرتبات من خلال الشراكة الاجتماعية مع رابطات أرباب العمل.
- احترام ظروف السوق والمصالح الربحية للشركات.
- إشراك أعضاء النقابات العملية في التدريب المهني.
- دعم اللجان العمالية في الشركات في عملية الإدارة.
- السعي في التواصل الدولي كقوة موازية مع شركات متعددة الجنسيات الشركات.
رابعاً: منظمات المجتمع المدني
- إشراكها سياسياً لتؤثر - على الأقل بشكل غير مباشر– على الجهات الأخرى الفاعلة في اقتصاد السوق الاجتماعي والبيئي.
- البحث عن المعلومات من أجل زيادة الشفافية في المجتمع.
- طلب ودعم حماية المستهلك.
- تعزيز السلوك الصديق للبيئة.
- دعم محفزات التعلم مدى الحياة.
- العمل على المستوى المحلي لتحسين الرعاية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للأفراد.
خامساً: المراكز والمؤسسات العلمية والبحثية (مؤسسات العلوم الاجتماعية):
ومهمتها: - تحليل فعالية النماذج الاقتصادية المختلفة بشكل عام والتحقق من الكفاءة التشغيلية لاقتصاد السوق الاجتماعي من حيث الديناميكية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحماية البيئية.
- رصد التطورات داخل البلاد وخارجها وتأثيرها على اقتصاد السوق الاجتماعي (العولمة، التغيرات الديموغرافية، التغيرات البيئية والثقافية، العوامل النفسية للسلوك الاقتصادي والاجتماعي، ودورات الأعمال التجارية).
- تحليل مختلف أدوات اقتصاد السوق الاجتماعي من حيث فعاليتها وأبعادها.
- تقديم خدمات استشارية إلى الجهات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الفاعلة.
حوكمة اقتصاد السوق الاجتماعي :
أهم معوقات الاقتصاد اليمني ليس كما يقال ندرة الموارد بل اعتقد جازماً أن سوء إدارة الموارد واستثمارها بطريقة أفضل سواء الموارد الطبيعية او الموارد البشرية، فالإهدار واضح بشكل مباشر في سوء استخدام الموارد الطبيعية كالمياه والمعادن والمشتقات النفطية والغاز، إضافة إلى سوء استخدام مياه الأمطار وتجميعها في حواجز مهمة للزراعة أو إعادة دعم المياه الجوفية.. وكذلك الحال في سوء استخدام الموارد البشرية من خلال ضعف النظام التعليمي الذي يجب أن يركز على إكساب الطلاب معارف ومهارات ومنهجية جديدة وأن يكون التعليم مرتبطاً بمتغيرات سوق العمل، وأن يكون هنالك معاهد خاصة للدورات التدريبية القصيرة لإعادة تأهيل العاطلين، إضافة إلى فوضى استخدام العمالة الأجنبية داخل اليمن في حين تغرق البلاد بعمالة محلية فائضة..
وفوق هذا كله يأتي الفساد ليلتهم جزءاً كبيراً من التمويل المحلي والأجنبي الذي خصص لمشروعات هامة فلا تجد طريقها إلا إلى جيوب الفاسدين.
هنا يكون الحكم الجيد عاملاً هاماً ورئيساً في ترشيد الإدارة اليمنية وعقلنة سلوكها ((الحوكمة مهمة أيضا داخل مؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني )) وفي هذا السياق يمكن القول إننا أمام مرحلة تشكل منعطفاً خطيراً فإما تغيير إيجابي في طبيعة السياسات الاقتصادية وادارة الشأن العام في الدولة والحكومة ومحاربة الفساد والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية وإما الانهيار الكامل للدولة والمجتمع في الفوضى والفساد وتعميم الفقر والبطالة..
وهنا نضع دراستنا هذه كدليل استرشادي هام للحكومة اليمنية يضعها على مسار طريق التنمية والنهوض وفق المحددات الاقتصادية والسياسية في اطار مماثل لما هو سائد في الدول المتطورة علنا بهذا الأمر نندمج في السياق الحضاري العالمي ونرتقي بمجتمعنا نحو الأفضل.
ومن هنا يكون لزاماً علينا الحديث عن حوكمة اقتصاد السوق الاجتماعي كمنهج ومفهوم ورؤية سسياسية لتفعيل الدور الاقتصادي بعيداً عن معوقاته ومشكلات الفساد. فماذا نعني بحوكمة اقتصاد السوق الاجتماعي؟ وما مقاييس الحوكمة؟ وما أثرها في التنمية والتطور الاقتصادي؟
برز مفهوم الحوكمة/ الحكم الجيد/الإدارة الرشيدة فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى من قبل المؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليين) حيث كانت الدول النامية محل اتهام بسبب إخفاقها فى عملية التنمية؛ حيث رد هذا الإخفاق إلى سوء الإدارة وعدم كفاءة المؤسسات الرسمية هنا بدأت جهود البنك وضغوطه تتجه نحو عمليات الإصلاح الاقتصادى الهيكلي، وهنا تم اعتماد مفهوم الإدارة الرشيدة كآلية رئيسة للإصلاح ومكافحة الفساد ولتحقيق الشراكة بين ثلاثة أطراف أسندت إليهم جميعاً تحقيق التنمية، هذه الأطراف هي:
• نظام حكم يتصف بإدارة رشيدة للموارد المالية ويعتمد الشراكة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص.
• مجتمع مدني فاعل يسهم في تحقيق التنمية وترسيخ الإدارة الرشيدة داخل جهاز الدولة وداخل المؤسسات المدنية ذاتها.
• قطاع خاص قوي قادر على خلق فرص العمل والإسهام في الناتج القومي وقيادة التنمية.
الحوكمة تضعنا أمام منهجية جديدة تشكل إضافة ايجابية في مواجهة تحديات التنمية البشرية في اليمن وفي عموم المنطقة العربية أكثر من كونها أداة نقد تجاه أنظمة الحكم القائمة. وبالرغم من المآخذ على هذا المفهوم حيث تم الربط بينه وبين العولمة باعتباره معطى غربياً يستهدف ترسيخ النوذج الليبرالي وفقاً للخبرة الغربية ويهمل خصوصية المجتمع العربي، فالنموذج الليبرالي يستلزم تقليل دور الدولة وانسحابها من المجال الاجتماعي مقابل إبراز فاعلية القطاع الخاص، الأمر الذي يترتب عليه مخاطر عدة ستتعرض لها غالبية أفراد المجتمع خاصة الطبقة المتوسطة.
فالحوكمة Good Governance أهم مكونات التنمية الإنسانية وأهم خصائصها قيام مؤسسات مجتمعية قوية والتوازن بينها من خلال شبكة متينة من علاقات الضبط (الرقابة) Regulation والمساءلة Accountability والشفافية Transparency هنا نعرف الحكم الصالح أو الإدارة الرشيدة إنه نسق من المؤسسات المجتمعية المعبرة عن الناس تعبيراً سليماً تربط بينها شبكة متينة من علاقات الضبط والمساءلة يستهدف تحقيق مصلحة عموم الناس فى المجتمع. ويستخدم مفهوم الحوكمة/الإدارة الرشيدة Good Governance منذ عقدين من الزمن من قبل المنظمة الأممية لاعطاء حكم قيمي على ممارسة السلطة السياسية لإدارة شؤون المجتمع . وهذا يعتمد على تكامل عمل الدولة ومؤسساتها مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى. وادارة شؤون المجتمع من هذا المنظور تتضمن ثلاثة أبعاد مترابطة :
• البعد السياسي المتعلق بطبيعة السلطة السياسية وشرعية تمثيلها.
• البعد التقني المتعلق بعمل الإدارة العامة وكفاءتها وفاعليتها.
• البعد الاقتصادي-الاجتماعي المتعلق بطبيعة بنية المجتمع المدني ومدى حيويته واستقلاله عن الدولة.
إذاً الإدارة الرشيدة للحكم هي الآلية المثلى لتحقيق التنمية المستدامة، فهي تعني ممارسة السلطة بشكل يحترم كرامة وحقوق وحاجات المجتمع والأفراد. وترتكز على قيمتين عالميتين لهما أهمية خاصة في منطقة الشرق الأوسط هما التضمينية والمساءلة.
التضمينية: ترتكز على مفهوم المساواة، وهذه الأخيرة حين تترجم إلى لغة ادارة الحكم تعني أن كل من له مصلحة في عملية إدارة الحكم ويود المشاركة فيها يمكنه فعل ذلك بتساو مع الجميع. فإدارة الحكم الجيد تتضمن آليات تحدد وتحترم الحقوق الأساسية للجميع . والحكم الجيد يتجسد في معاملة الحكومة للمواطنين جميعاً على قدم المساواة أمام القانون وبغير تمييز وفي تأمين فرص متساوية للاستفادة من الخدمات التي توفرها الحكومة.
المساءلة : تنبع من مفهوم التمثيل الشعبى فمن اختيروا للحكم هم خاضعون للمساءلة من قبل الشعب . والمساءلة ترتكز ممارستها على توفر المعرفة والمعلومات والشفافية في نمط إدارة الحكم. وتتم المساءلة على مستويين الأول مساءلة داخلية تقوم بها الحكومة بغية حماية المصلحة العامة بإرساء أنظمة وحوافز متعددة تحكم سلوك المؤسسات المختلفة ضمن الحكومة. من هذه الإجراءات فصل السلطات، انشاء أجهزة رقابة مستقلة. والثاني مساءلة خارجية وتتم حين يقوم الشعب نفسه بمساءلة حكوماته. والمساءلة مبنية على حق الشعب بمحاسبة الدولة والحكومة ووضعها تحت طائلة المسؤولية من حيث كيفية استعمالها لسلطتها ولموارد الشعب. والمساءلة تستلزم الشفافية (أي الوصول الى المعلومات) والتنافسية (أي القدرة على الاختيار بين كيانات سياسية واقتصادية بديلة على اساس حسن أو سوء أدائه.
ولعل المبرر الموضوعى لتقبل فكرة الحوكمة/الادارة الرشيدة أن التنمية في المنطقة العربية على جميع المستويات يعيقها ضعف إدارة الحكم أي ضعف مستويات التضمينية الأمر الذي يستلزم وفق منطق الضرورة والاحتياج نمطاً جديداً من الإدارة .
ولإدارة الحكم مكونان أساسيان هما مؤشر لنوعية الإدارة في القطاع العام، ومؤشر المساءلة العامة. الأول يقيس فعالية وكفاءة البيروقراطية، حكم القانون، حماية حقوق الملكية، مستوى الفساد، نوعية التنظيمات وآليات المساءلة الداخلية. الثاني يقيس مدى انفتاح المؤسسات السياسية ، ومستوى المشاركة ، احترام الحريات العامة،شفافية الحكومة، حرية الصحافة (الإعلام يساهم في النقاش العام حول المساءلة العامة للحكومة).
في هذا السياق تذهب أدبيات البنك الدولى في القول: إن تحسين مستوى التضمينية والمساءلة في آلية إدارة الحكم في الشرق الأوسط وشمال افريقيا سيساعد في ثلاثة أشكال هي:
1. التقليل من الأثر السلبي للسياسات الاختيارية والمنحرفة.
2. تحسين الأداء الإداري مما يقلل من كلفة ومخاطرالاستثمار والأعمال.
3. تحسين مستوى الخدمات العامة التي تزيد من إنتاجية قطاع الأعمال.
وهنا يؤكد الباحث على القول: إن الحوكمة كمفهوم وكعملية لايؤدي استخدامه إلى الفوائد والإيجابيات التي ذكرناها سابقاً ولكنه على الأقل يحقق ثلاث وظائف إيجابية هي:
أولاً: الحوكمة وإن كانت لا تتضمن بحد ذاتها سياسات اقتصادية حسنة إلا أنها توفر آليات (النقاش العام حول أثر السياسات الحكومية) وتساعد على التقليل من استمرارية السياسات المنحرفة والخاطئة وعبر تأمين المساءلة العامة للسياسيين والموظفين العموميين، أي أن الحوكمة تسهم في حسن تطبيق السياسات الاقتصادية المؤدية للنمو.
ثانياً: إن إدارة حكم أفضل ستسهل إنشاء مشاريع تجارية جديدة وإدارة وتوسيع النشاطات الموجودة . فوجود إدارات كفؤة ومسؤولة تخفض من كلفة المعاملات (الدخول الى السوق ، التشغيل ، الخروج من السوق) كما أن التضمينية والشفافية تزيدان من مستوى التنسيق وتبادل المعلومات بين الدولة والقطاع الحاص، مما يعزز أن الدولة تطبق القواعد والتنظيمات الرسمية. علاوة على ذلك فالإدراة الرشيدة تزيد من مرونة الدولة فى تجاوبها للأزمات الاقتصادية.
ثالثاً: إن المشاريع الاقتصادية تدار في محيط تجاري يعتمد على توفير الخدمات العامة بشكل مرض وكفء وعادل (الطرقات الآمنة والمصانة جيدا ً) وعلى التطبيق الفعال والعادل للتنظيمات العامة (قوانين التنافس وجمع الضرائب).
وتأسيساً على ذلك نقول: إن ضعف أداء الدولة في الوطن العربي بشكل عام لا يعود إلى قلة الكفاءات بل يعود إلى ضعف آليات إدارة الحكم خاصة تلك التي تتعلق بالمساءلة العامة. هنا لابد من تنمية اخلاقيات الخدمة العامة والأمانة في إدارة الممتلكات لعامة. فالخيارات أمام المواطن ناقصة بشكل كبير إن لم تكن معدومة. ذلك أن الآليات التي تسمح للمواطن بتقييم الخدمات أو تقييم السياسيين هي محدودة ومقيدة. وهذا الأمر يعكس ندرة المعلومات حول إدارة الحكم، ومن ثم فالمواطنون لا يملكون الكثير من الخيارات في كيفية تلقي الخدمات.
في هذا السياق يؤكد تقرير البنك الدولي للعام 2005 أن الحكم الجيد من الوسائل التي تؤمن النمو والرقي الاجتماعي كما أنه من الأبعاد الأساسية للتنمية البشرية ذاتها. ويشير إلى أن تحدي إدارة الحكم لا يكمن في اختيار القادة المناسبين أو إرساء السياسات المناسبة فقط بل يكمن أيضاً في ضمان أن عمليات اختيار أو تغيير أو تجديد ولاية القادة ورسم ومناقشة وتنفيذ السياسات ستؤمن فرصة لجميع أفراد الشعب (بصفتهم مواطنين ومستفيدين من خدمات الحكومة) للتعبير عن خياراتهم والمشاركة في الحوار. فالحكم الجيد لا يضمن بحد ذاته نتائج جيدة من حيث القادة والسياسيين، لكنه شرط لا غنى عنه لمنع استمرارية النتائج المخيبة والسياسات غير الفعالة والانتقال إلى نتائج وسياسات أفضل.
ووفقاً لذلك فإن مسؤولية النهوض بتحدي الحكم الجيد لا تقع حصراً على عاتق الحكومة؛ بسبب أن العديد من الأطراف داخل الحكومة وحتى خارجها قد تقاوم الاتجاه إلى إدارة حكم أكثر تضمينية ومسؤولة، فالحكم الجيد يتطلب أيضاً مشاركة فاعلة من الشعب وخصوصاً من منظمات المجتمع المدني، كما أن المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية تتحمل مسؤولية تصميم علاقاتها مع دول المنطقة بصورة تقترب من تحقيق إدارة الحكم الجيد.
إن أحد الدروس المكتسبة من تجارب إصلاح إدارة الحكم حول العالم هو أن الانتقال إلى التضمينية والمساءلة والمشاركة يستلزم وقتاً؛ لأنه يتضمن تغيير تقاليد ومواجهة مصالح المستفيدين من الوضع الراهن. فالنقاش حول إدارة الحكم الجيد تعرقله الرقابة الحكومية وندرة المعلومات.
ومن هنا يمكننا القول: إن التضمينية والمساءلة هما نقطتا الانطلاق لأى برنامج يسعى إلى تحسين إدارة الحكم..إن برنامج الإصلاح السياسي في اليمن والمنطقة العربية يجب أن يستهدف إلغاء العوائق التي تحد التضمينية والمساءلة مثل الرقابة على إنشاء الجمعيات الأهلية والرقابة على مصادر تمويلها وإخفاء المعلومات حول الإنفاق الحكومي أو إعاقة مساءلة كبار الموظفين.
إذاً لابد أولاً من التزام علني وصريح بتحسين تضمينية الدولة وبتعزيز الشفافية والتنافسية في إدارة الشؤون العامة وإن تصريح الدولة بالإصلاح يكتسب مصداقيته فقط من خلال صياغة برامج الإصلاح في إطار تشاركي مع منظمات المجتمع المدني وأفراد المجتمع بشكل عام.
فالهدف هو الوصول إلى إجماع حول الاتجاهات الأساسية لتحسين إدارة الحكم وحول الإجراءات التي تعزز التضمينية والمساءلة. ولن يتحقق ذلك إلا باعتماد خمسة إجراءات (هذه الإجراءات الخمسة كل منها تكمل الأخرى وتعززها، ولايمكن لإحداها أن تحل محل أخرى بل هناك علاقات ترابط وتساند) هي:
1. إجراءات لتحسين التضمينية.
2. إجراءات لتعزيز المساءلة الخارجية.
3. إجراءات على المستوى المحلي تعضد المساءلة الخارجية.
4. فصل وتوازن بين السلطات بغية تقوية المساءلة الداخلية.
5. إصلاحات إدارية لتعزيز المساءلة الداخلية.
بشكل عام يمكن القول: لقد ظهر مفهوم الحوكمة (الإدارة الرشيدة للحكم) وترافق مع تطوير مفاهيم التنمية التي تغير تركيزها بدلاً من النمو الاقتصادي أصبحت تهتم بالتنمية البشرية وتوسيع فرص الاختيار للمواطنين وتحسين معيشتهم ومن ثم الاهتمام باستدامة التنمية.
وهذه الأخيرة تعكس عملية مترابطة بين مختلف مكونات النشاط الإنتاجي والسياسي والثقافي والبيئي، أي أنها تعتمد منهاجاً متكاملاً يقوم على العدالة في التوزيع والمشاركة في الإنتاج وصنع القرار وعدم الإضرار بالبيئة.
هنا يمكن القول: إن الإدارة الرشيدة للحكم هي الرابط الضرورى لتحويل النمو الاقتصادى إلى تنمية بشرية مستدامة. ومن واجب ومسؤولية هذه الإدارة أن تتأكد من تحقق المؤشرات النوعية لتحسين نوعية الحياة لكل مواطن.
إن مفهوم الإدارة الرشيدة يتضمن حزمة متكاملة (سياسات واجراءات وثقافة) تستهدف إعادة النظر في أسلوب وإدارة وتسيير واتخاذ القرارات من جانب الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، أي أنها تتضمن:
• اللامركزية في مواجهة المركزية.
• الاستجابة السريعة والفعالة في مواجهة الجمود والصمت إزاء مطالب الواطنين.
• التشاركية في الحكم مقابل التفرد والهيمنة.
• بناء القدرات المؤسسية في مواجهة ضعف المؤسسات.
• تحسين الإدارة وإعادة توجيه السياسات على نحو أفضل.
جميع هذه الخصائص تكاد تكون غائبة عن واقع الحكم في المنطقة العربية، فالدولة العربية الراهنة لم يكتمل نموها التنظيمى والهيكلي، ومأسسة الدولة غائبة مع بروز الشخصانية، ومن ثم فهي دولة مأزومة منذ نشأتها الحديثة وأهم ملامحها أن بنيانها الدستوري والقانوني لم يبن على أساس احترام المواطنة التي هي ركيزة أساسية في بناء الدولة الحديثة، كل ذلك جعل من الدولة العربية الراهنة دولة مملوكية سلطانية زاد من قدرتها على التسلط تملكها الكامل للريع الناجم عن النفط أو الدعم الخارجي..
الخاتمة:
إن من أخطاء الدراسات التنموية في السنوات السابقة اعتمدت كلية على علم الاقتصاد بمجالاته الضيقة، وهنا أصبح علم الاقتصاد معنياً بالثروة وليس بالناس، وبالاقتصاد وليس بالمجتمع، وبزيادة الدخل إلى أقصى حد، وليس بتوسيع الفرص أمام الناس وعدالة توزيع الثروة، وتوظيف الدول ثرواتها كغاية، وليس توظيف الثروات لصالح الناس. وكل هذا الأمر عكس نفسه في السياسات الاقتصادية في اليمن خلال العشرين السنة الأخيرة، وكان هدفها تجميع أكبر عدد من الأوراق النقدية للحكومة وليس خلق الثروة وإنتاجها من خلال استثمارات توفر فرص عمل وتوسع القاعدة الإنتاجية. وكانت النتائج سلبية في حياة المجتمع، تراكمت آثارها عاماً بعد آخر وصولاً إلى فبراير الماضي؛ حيث انفجار المجتمع بثورة شعبية ضد النظام وسياساته التي شكلت عدواناً على المجتمع.
ومن هنا نعيد الاهتمام بضرورة أن يكون للسياسات الاقتصادية بعد اجتماعي يعبر عن واقعها المجتمعي الذي يمنح النظام مشروعية شعبية دونها يفتقد النظام لمبرر وجوده.ناهيك عن القول بأنه لا توجد سياسات اقتصادية حتى في الدول الرأسمالية الاحتكارية دون بعد اجتماعي يخفف من حالات الفقر والبطالة ويقلل من الصراعات المجتمعية .. ففي القمة العالمية للتنمية الاجتماعية (كوبنهاجن 95) تعهد زعماء العالم بأن الحق في التنمية أحد حقوق الإنسان، وتعهدوا بالتزام فلسفة اجتماعية واقتصادية جديدة تجعل الناس في محور اهتمامها وأن تعدل في أولوياتها الإنمائية لصالح الفقراء وأن تخفض من نفقاتها العسكرية لصالح التنمية..).
وكانت اليمن حاضرة في هذه القمة لكن النظام لم يغير من سياساته وفق هذا التعهد الدولي فتزايد معدل الفقراء والعاطلين وتزايدت معاناة المجتمع. ولكي يكون النظام وسياساته معبراً عن المجتمع فلابد من إشراكه في تحديد السياسات وصناعتها، وهذا يتطلب متغيرات إيجابية في نظام الحكم والإدارة وتوسيع فضاء الحريات العامة، وهذا يعبر عن عدم جعل الأفراد سلبيين/متلقين فقط للمشاريع والخدمات، بل لابد من تحفيزهم للمشاركة وفق أساليب وطرق متعددة.
صفوة القول: إن الاستقرار السياسي والاجتماعي يكمن مفتاحه في عملية التوافق المجتمعي، وهذه الأخيرة ترتكز على سياسات اقتصادية تلبي الأهداف الاجتماعية. وكما أشار تقرير الحالة الاجتماعية في العالم 2011 : عن “الأزمة الاجتماعية العالمية”، بالقول: إن العديد من الحكومات لا تولي اهتماماً كافياً للآثار الاجتماعية للأزمة الاقتصادية العالمية، وهو يؤكد هنا بأن السياسات الاقتصادية التي لا تنظر إلى العواقب الاجتماعية غالباً ما تخلق نتائج وخيمة على صحة الناس، والتغذية والتعليم، والتي بدورها،تؤثر عكسياً على النمو الاقتصادي علي المدى الطويل. كما يؤكد القول بأن زيادة الإنفاق لتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية وتحسين فرص الحصول على خدمات تعليمية وصحية سوف يساعد على ضمان المزيد من التنمية الشاملة والاستقرار الاجتماعي، ذلك أن نظم الحماية الاجتماعية ضرورية لكسر حلقة الفقر والحد من عدم المساواة، ونزعم بأن اعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي يعتبر مدخلاً أساسياً في معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية ومدخلاً لهوية سياسية وفلسفة اقتصادية تعتمدها الحكومة اليمنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.