في مجتمع يُمارس على أفراده الاستلاب الفكري والسياسي بدقة فائقة ومنهجية ،معقدة يبدو الخطر محدقاً بحياة أمة ما إن تنفك من سلطة معينة حتى تقع في قبضة أخرى أشد فتكاً وإضراراً بحاضرها ومستقبلها مما يحول دون تحقيق الهدف المنوط بجوهر المجتمع من تشكيل صائب للعقل وتكوين سليم للوعي ليغدو المجموع خلاف الوظيفة الحقيقية له عثرة في طريق تحرر الفرد وسبل ارتقائه ونجاحه، فمن وسط متعدد الأطياف والأفكار، متنوع الرؤى والمواقف إلى نسيج اجتماعي واحد ينظر للحقيقة بعين واحدة ومن زاوية واحدة، ويتعاطى مع كامل مكوناته بقمعية لا تخلو في كثير من أحوالها من روح المحارب والمناهض لكل فكرة جديدة أو فعل مخترق للمألوف، متجاوز للمعتاد. خطر التهميش والإقصاء هذا لايأخذ طابعاً واحداً ليكون من السهل السيطرة عليه أوالحد من جموحه؛ لكنه يمتد ليشمل كافة مناحي الحياة سياسياً وثقافياً واقتصادياً مع احتوائه في ذاته على عناصرتكفل استمراريته، وتمنحه قوة تحميه من أي احتمال متوقع لنشوء قوة فكرية تناهض ما يرمي إليه من تغيب للروح المتحررة والعقلية المتجددة ؛فقيم النفي والقمع لاتقتصر على فئة دون أخرى، وليست بالظاهرة الفردية ليرتبط مصيرها بشخص ما، وليست حكراً على شريحة اجتماعية معينة، أومؤسسة حزبية؛ بل إنها تأخذ طابعاً جماعياً، وسمة ملازمة لأمة ارتضى غالبية أفرادها بالرضوخ لها والبقاء تحت سلطانها وفق محددات وشروط يتم من خلالها توزيع الأدوار وتبادل المواقف. ومانحن فيه من تكاثر مفزع للسلطات والمركزيات إلا نتيجة لتلك الثقافة المجتمعية المؤسسة والداعمة لأي مشروع استبدادي؛ إذ إنها تتفنن في صناعة الطغاة والقامعين موجدة لهم مبررات البقاء ومسوغات الاستمرار لينقسم المجتمع تحت غطائها إلى: قامع ومقموع فأينما وليت وجهك ثمة مستبِد أومستبَد كعنصرين متلازمين ومتفقين على اقتسام المواقع و المراكز. لقد خضع الإنسان قديما وسلّم أمره لأوثان وأصنام يصنعها بيده واليوم يصنع بعقله وقلبه سلطات كثيرة تشترك فيما بينها بأن ممثلها هوالإنسان نفسه، ففي مجتمعاتنا العربية والإسلامية مجموعة من المرجعيات والمركزيات التي في حضورها وقوتها يفقد الفرد حريته وذاتيته. والأمر غدا مألوفاً وعادياً بالنسبة إليه، فهو في كثيرمن أفكاره وأفعاله موجهاً، طيعاً في يد الآخر، لا يملك أدنى علم بوسائل التعامل مع القوى الرجعية والفكر الاستبدادي، فالتبعية العمياء والانجرار وراء أي فكر بسهولة والانخراط تحت لواء أيّ حزب أو جماعة صفات مرادفة للإنسان العربي واليمني خاصة لدرجة أن شريحة كبيرة من المجتمع تمكنت من التعايش والتعاطي زمناً طويلاً مع قوى القمع والاستبداد بأشكاله المتعددة، بل وابتكرت منطقاً تصالحياً اتخذ حيال تدني المستوى المعيشي ،واستفحال الفساد في كافة مرافق الدولة موقفاً سلبياً تمثّل في الدعوة إلى القبول والرضى بالوضع الراهن زاد من قوة هذا الموقف السلبي ومكن نفوس الكثيرين منه الصراعات والأزمات المفتعلة والتي فتحت البلاد على سلسلة طويلة من الاحتمالات المهددة لأمن الوطن ووحدته. وعزّز من وجود هذه النظرة التصالحية في التعامل مع الواقع المتردي المعيش ثقافة قائمة على تعاطٍ انتقائي مع أوامرالدين الحنيف ونواهيه، وفهم مغلوط لأحكامه ومقاصده حيث لامكان في علاقة الحاكم والمحكوم إلا للسمع والطاعة هو يأمر وينهي وهم يمتثلون طائعين، كذا الموروث الثقافي الذي حوى بين جنباته كثيراً من النصوص التي أسيء فهمها واستخدمت كوسيلة إقناعية للشعوب لتؤسس نوعاً من التخاذل، والقبول بالحد الأدنى من مثل: القناعة كنز لا يفنى، ليس بالإمكان أبدع مما كان، الرضا بالقليل، لن يأتي الخلف بأفضل مما جاء به السلف.. وقد عمل النظام الحاكم على نشر هذه المقولات لتخدم مشروعه الاستبدادي وليضمن بقاء الناس تحت سلطته، فراح يدعم بسخاء كل مرجعية دينية أوفكرية تنادي بذلك. إضافة إلى الأمثلة الشعبية سواء القادمة من الدول المجاورة لليمن من مثل: العين ماتعلاش على الحاجب ،اللي يبص لفوا تكتسر رقبته، الناس مقامات، لحم أكتافي من خيره..أو اليمنية المنشأ مثل: مشّي حالك أنت في اليمن، أحمد الله غيرك ماحصلش يأكل، أحسن من مافيش، إنسي تعرفه ولاجني ماتعرفوش، شيخ بن شيخ، كابرعن كابر،... يتبيّن مما سبق صعوبة المرحلة الزمنية التالية للفعل الثوري والذي لم يكن إسقاط المنظومة الشمولية العائلية المستبدة إلا فاتحة لسلسلة من الإسقاطات الضرورية واللازمة لتستعيد الشعوب العربية مكانتها، ولتعود الأمة الإسلامية إلى ممارسة الدور الريادي والسيادي المرتقب منها كأمة متفردة من بين سائرالأمم بقاعدة تاريخية وحضارية تؤهلها لإقامة حضارة قادرة على إدهاش العالم.