صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفنون التشكيلية في العالم العربي
نشر في الجمهورية يوم 28 - 12 - 2013

في مرحلة حاسمة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية كانت الدعوة إلى وحدة الموقف والهدف.. تجمعت كل القوى المحبة والسلام تدعو إلى التمسك بمبادئ الإسلام وتسعى إلى البحث عن جذور الروابط التي توحد بين شعوب العالم الإسلامي والعربي. ودعوة كلها الأمل والثقة في أن لعالمنا العربي جذور وأصول تربط بين جوانبه مهما قست الظروف وزادت الخلافات تحت ضغط الصراعات الدولية وينطبق ذلك على كل جوانب الحياة في مجتمعاتنا من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية.. والفنون بكل أشكالها تلعب دوراً هاماً وخطيراً في تهيئة مناخ حضاري يتناسب وحاجتنا إلى التقارب.. وهي الواجهة التي يقيس بها المتخصصون قدرة المجتمعات الإنسانية على التماسك والصمود أمام دوامة الصراعات السياسية وما ينتابها من توتر إلى نوع من الانضباط النفسي والتوازن الحضاري وقد كانت فترة النصف قرن الماضية هي أكثر المراحل نشاطا وازدحاماً بالمتغيرات في بنية المجتمع العربي ولم يخلو ركن من أركانها من نداءات الاستقلال والحرية والتخلص من سيطرة الاستعمار ليس في الجانب السياسي فقط ولكن ذلك يشمل أيضاً محاولة التخلص مما فرضته النظم المستعمرة على هذه الشعوب في كل المجالات الاجتماعية والثقافية والتربوية. وكانت الفنون التشكيلية أحدى هذه الجوانب بمفهومها الشامل. فقد أخذت حركة الفن التشكيلي في مراحلها الأولى بكل متغيرات الغرب وحسب قواعده وضوابطه الحضارية.. بداية خاطئة تبدو فيها التبعية غير المنضبطة والتي أدت في النهاية إلى ما نعاني منه الآن من أزمة معقدة كلما حاولنا الخروج منها تواجهنا سرعة العصر واندفاعه فنضيع في متاهات نظرية حول الفن والإبداع والشخصية والتراث تؤدي بنا نحو التشتيت وعدم الاستقرار.
وبقدر قسوة الصراع كان إصرارنا على الاستمرار وكان دائماً ما يدور في أذهان فناني العالم العربي ما لتاريخهم وتراثهم الحضاري العريق من أثر في بعث نهضة البشرية عبر التاريخ ونجد أنفسنا في النهاية أمام تساؤل هام. كيف أن مثل هذا الماضي العريق والمؤثر .. لا يؤدي إلى نهضة عربية إسلامية في مجالات الحياة المعاصرة ؟ وهذا ما سوف نحاول الإجابة عليه..
لقد ظلت ثقافة العرب وعلومهم وفنونهم تهيمن على العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه وكان لها الاستقرار والازدهار في ظل سلطان العرب وفتوحاتهم الإسلامية التي حملت معها رؤي جديدة للحياة ومفاهيم وفلسفات ثرية بالمعرفة والإيمان ولما كان الفن يعتبر أحد صور الثقافة فقد حمل هو أيضاً روح الإسلام المتأصلة في ضمير العروبة مؤكدا أصالته واستطاع بذلك أن يسمو بروحه الكامنة لتشمل تقاليد وثقافات وفلسفات غنت بها حضارات المنطقة.
المنطقة العربية التي سكنتها أمم عريقة منذ فجر البشرية وحمل التاريخ لنا من خلال فنونهم مدى أصالتهم والتي مكنتنا بدورها من التعرف على مفاهيمهم وتقاليدهم والتي كانت تؤكد دائماً على وجود وحدة وإيقاع مشترك في كل نواحي الوجود الطبيعي والحياة البشرية ساعد وأكد على ذلك خضوعها لمناطق اتصال جغرافية وتركيبه اجتماعية متشابهة إلى حد كبير وجنسية في أصولها، تشترك دائماً في صنع تاريخها وحضارتها وثقافتها، وكانت هناك أيضاً شبه وحدة عقائدية يتضح من تداخل أساطيرهم وفكرهم الديني، نخرج من ذلك بحقيقة أن تاريخ أمتنا العربية تجمعه وحدة فكرية وحضارية تطورت في صور مختلفة عبر العصور واقتربت من بعضها في مراحل تاريخية مشتركة ساعدت العصور الإسلامية على نمو شخصيتها العربية في ظل الدين الجديد وخاصة فيما يتصل بالمظاهر الحضارية وتكيفها مع الفلسفة والفكر الإسلامي.
هذه الوحدة ظهرت وانعكست في كل الظواهر الفنية والتي لازمت الجذور الأولى للأمة العربية فكانت أصول الفن الآشوري والبابلي والكلداني لها امتداداتها في الآرامي والفينيقي والذي اقترب هو الآخر وحضارات بلاد الشام مع فنون مصر والتي تميزت بالتركيب الهندسي ذو الواقعية الكونية التي تعني في المقام الأول ما يحمل الفن المصري القديم من معاني القداسة والخلود والتي امتدت آثاره بعد ذلك في الفنون القبطية ثم في الفن الإسلامي.
إن مثل هذا المفهوم للوحدة ولما تحمله فنون وحضارات منطقتنا من قدرة على التطوير والتحوير في الأشكال الفنية والسمو بها وتوظيفها لخدمة مجتمعاتنا عبر التاريخ لا يمكننا تجاهلها فقد لعبت دوراً هاماً في خلق شخصية الفن العربي والإسلامي فيما بعد وهي التي يمكننا أن نتمسك بأصولها في رحلتنا مع تطور أساليب التعبير الفني في عصورنا الحديثة مع أخذنا في الاعتبار أن الفنان العربي المسلم كان يهتم بجوهر المحسوسات ما دامت تحملها الأشكال ويبقى عليها خفية معتمداً على الوحي أو بمعنى آخر على الحدس. الأمر الذي سعت إليه الفنون الغربية في مدارسها الحديثة وخروجاً من فلسفات (برجسون) و(كروتشا) والتي كانت سبباً في محاولات التقريب التي قام بها المؤرخون في الربط بين الفن العربي الإسلامي وفنون الغرب. وهي نفسها التي أوجدت نوعاً من التقارب بين فنون العرب المسلمين في كل العهود والأقاليم العربية وبما أن لنا مثل هذا التراث العظيم والذي يعتمد في أصوله على قواعد وقياسات بنيت عليها مدارس الفن الحديث الغربية أو بعضها على الأقل فلماذا نجري وراء هذه المدارس والاتجاهات نقلدها ونحن نملك أصولها؟
إن بداية رحلة الفن التشكيلي الحديث والمعاصر في عالمنا العربي لم تبدأ بما وصل إليه أجدادنا في نتاجات فنية أصيلة ولكنها بدأت مع ظروف مختلفة وتحت سيطرة فكرية وثقافية دخيلة علينا تأثرنا بها وسرنا على منوالها غافلين عن أن التاريخ يسجل لنا معابرنا الحضارية التي أثرت فنونهم وساعدت على نهوضها.
وبناء عليه فإن عملية التنظير للحركة التشكيلية في العالم العربي تمر بطريق وعر تكثر فيه الفجوات حيث نجد صعوبة في إيجاد نوع من التسلسل أو الاتصال بين مراحله، هذا مع الوضع في الاعتبار أن فجوة أو آخر عصر النهضة في أوروبا وعصري الباروك والروكوكو وعصر الشهيرة العربية والتي لازمها تطور في كل مجالات الحياة والبحث والتقدم العلمي لم تلتفت إلى بلادنا إلا باعتبارها مواد للدراسة وكنوزاً للاقتناء وبالأخذ من علومنا وفنوننا لإثراء أوروبا الناهضة أما فنانو العالم العربي والإسلامي في هذه الفترة فقد ضاعوا في حرفهم يتقنونها ولا يستطيعون إضافة الجديد إليها فتوقفت عجلة التطور بالنسبة لنا ولم نبدأ في التحرك إلا أخيراً ونحن مقيدون بقياسات حضارية وعلوم وإيقاع متطور وسريع تصيبنا الحيرة إذا حاولنا البحث عن ذواتنا من خلاله .. لست متشائما تماماً حول مستقبل الحركة فما دمنا قد بدأنا بمناقشة هذا دليل على أننا نسعى إلى الخروج من هذه التبعية لنمسك بأصول هويتنا الفنية ولنعيد النظر في تراثنا المتنوع بين التاريخ القديم وبين عصور الوحدة والتوحيد تحت ظل الإسلام وبين فنوننا الفطرية والشعبية والتي ما زالت تحمل قدراً من الصدق والبراءة والقيمة الخالصة التي نحن في حاجة إليها.
سوف أحاول في هذا التنظير المختصر أن استجمع خبراتي في التلاقي والتحاور والتي أرجو أن تلتقي مع خبرات رفقائي في التخصص لندعو إلى نهضة عربية ومعاصرة في مجال الفن.. لقد كان لعلاقاتي الوطيدة بالعديد من النقاد الغربيين وكذلك بفناني العالم الثالث وفناني عالمنا العربي أثر كبير في إحساسي بالثقة بإمكانية عبور هذه المرحلة نحو مستقبل زاهر ولذلك فسوف أتطرق إلى طبيعة الفنان التشكيلي العربي اليوم وما هي مكونات شخصيته حضارياً.
مع الرجوع إلى روادنا لنأخذ ممن سلك منهم الطريق الصعب نحو الحفاظ على أصالته القدوة. وسوف يأخذنا هذا المسار إلى إدراك الفارق الواضح لما تحمله مضامين تجاربنا من حس وجداني وفكر ومحتوى صادق وحقيقي يترجم كل ما مرت به مجتمعاتنا من تطلعات وآمال وضغوط وآلام قد تغني عن مقالات ومقالات من خلال لغة الشكل التي نعبر بها والتي قد تخرج وتنحرف نحو أساليب الغرب ولكننا إذا فهمنا معنى الشكل بطريقة أكثر علمية لأدركنا أن مفرداته المجردة قد تحمل معاني ومذاقاً خاص مهما حاول المنظرون إخضاعها لمدارس التشكيل الغربية.
سوف يقودنا هذا إلى فهم التيارات والمذاهب الفنية والتي ظهرت في مجتمعاتنا العربية خلال القرن العشرين والتي قد توصلنا إلى حقيقة أن إطلاق حرية التعبير للفنان التشكيلي العربي دون قيود سوف يوصله إلى أول الطريق، وأننا مهما فعلنا فلن نستطيع أن نخلع عنه رداء العصر وفي نفس الوقت لن يستطيع كائن من كان أن يقتل داخله انتمائه إلى وطنه وعشيرته. طبيعة الفنان التشكيلي العربي اليوم وما في شخصيته من أصول صادقة وقشور زائفة أن الظروف الصعبة التي مر بها الفنان التشكيلي العربي المعاصر مرتبطة في حقيقتها بكل دقيقة من مجتمعه وهو يتابع عن كثب ويعيش بكل الصدق أمورا قد تخفي عن عامة الناس.. فقد عشنا في مرحلة من حياتنا ظروفاً وقياسات كانت تقول بضرورة التكيف وأن بعدنا عن ذلك هو تخلف وتأخر، حتى أصبح هناك نوع من التمغرب الكاذب والتقليد الأعمى. وأصبح التفاخر بتغيير لغتنا أمر يسعى إليه المثقفون وأصبحنا نتحدث لغات غيرنا من الشعوب بأشكاله وألوانه دوراً خطيراً في دفعنا إلى طمس معالم ثقافتنا العربية والتي سحقت معها شخصيتنا الفنية وما زلنا نعاني من تأثير ذلك حتى الآن وقد يقول البعض بأنه إذا كان المجتمع العربي يعاني من فقدان هويته فكيف نطالب الفنان بالحفاظ عليها؟ .. في الواقع انه مهما انساق المجتمع دون وعي منه في مثل هذه التيارات إلا أن الفنان هو الأقدر على أن انتمائه بالصدق مع نفسه .. ولكن هذا الصدق كيف يمكننا أن نستقرئه في أعمالنا الفنية دعونا نتابع ذلك فمنذ مرحلة الاستشراق والمهتمين بالفن لا يتعدى الطبقات الحاكمة المبهورة بفنون أوروبا وبعض كبار المفكرين العرب الذين عاشوا في أحضان ثقافة الغرب ودرسوا في جامعاتها فاهتموا بفنونهم ومدارسهم واعتبروها المثل الأعلى المقتدي به والذي يجب الوصول إليه في أعمالهم بينما كان فنانو الغرب أنفسهم يتجهون إلى بلادنا .. اهتم نابليون بجلب فنانون معه في حملته لتسجيل كل دقيقة في مجتمعاتنا واكتشف هؤلاء الفنانون مدى غنى وثراء هذا الشرق العربي بالمعرفة والثقافة فعشقوه وتأثروا به وكانت أعمال ديلاكروا وغيره من فناني أوائل القرن التاسع عشر فاتحة اهتمام وتسجيل لمظاهر الحياة في هذا المجتمع الساحر وجاءت أعمال ماتيس وبول كلي وفازاريللي وغيرهم من فناني المدارس الحديثة بعد ذلك لتأكد هذا الاتجاه ولكن هذا الخط الذي أثرى فنون الغرب انحسرت آثاره في فنونهم وأعطتها مذاقاً خاصاً ومتميزاً ولم تستفد فنوننا العربية والشرقية من ذلك إلا بما تركته من بصمات على تجارب فناني أوروبا وبقي فنانونا المبهورون بمهاراتهم الأدائية يقلدونها ويأخذون بأساليبها ،ولكن دماؤهم الحارة وقلوبهم الدافئة العامرة بحب بلادهم وطبيعتها جعلت أعمالهم تسير في طريق جديد نحو الاهتمام بمظاهر الحياة اليومية في بلادهم كل من زاويته الاجتماعية الخاصة وأدائها بأساليب غربية مشاركين فناني الغرب المستشرقين ومنافسين لهم مع اختلاف في الجوهر ، فكانت أعمال محمود سعيد ومحمود مختار ومحمد ناجي في مصر والذين لازموا أيضاً مرحلة النهضة الوطنية فعبرت بعض أعمالهم عن هذه المرحلة من ناحية الموضوع.. وانتقل هذا الشكل من التعبير الفني إلى باقي الدول العربي وتكونت صالونات الفن أخذاً بما هو متبع في أوروبا.
واسمحوا لي أن أفسر هذه الظاهرة بأنها حقيقة ولم يكن أمام فناني هذه المرحلة أن يفعلوا أكثر من ذلك وبقدر الحقيقة والصدق في أعمالهم كان قدر الزيف حيث كانت هذه هي الصفة العامة للمجتمعات العربية وهم يمثلونها بكل دقة سوف يوصلنا ذلك إلى إدراك أن فناني عالمنا العربي المقهور كانت تحكمهم عواطفهم وأحاسيسهم وقلوبهم فيما يختارون من مواضيع ولكن عقولهم وثقافتهم الغربية كانت تفرض عليهم الالتزام بأساليب التشكيل الأوروبية في ذلك الوقت وهذا أمر أجده بارقة أمل في أن هذا الجوهر الصادق والذي مازالت معالمه تحملها تجارب فنانينا اليوم سوف تؤدي إلى التخلص أيضاً من الكثير من قشور الشكل الخارجية لتصبح لنا أيضاً أبجديتنا البصرية الخاصة ، أرجو ألا يتعارض ذلك مع مفهوم عالمية لغة الشكل ، فالعالمية في مفهومي هي في التلقي وليست في التعبير الفني وأن هناك علاقات بصرية متعددة ترتبط بالتكوين السيكولوجي والفسيولوجي للفنان تتراكم مع مراحل نموه ومخزوناته الشعورية واللاشعورية فسكان السواحل وعاداتهم تفرض بالتة لونية تختلف عن تلك التي لفناني المجتمعات الزراعية والصحراوية بل أكثر من ذلك تتدخل عاداتهم وتقاليدهم وعشقهم للطبيعة وتغيراتها في مجتمعاتهم في تحديد هذه الخصوصية حتى انسيابية الخطوط وتعارضها عادة ما تكون مأخوذة من علاقات مشابهة في الطبيعة. إذا تتبعنا شخصية الفنان العربي اليوم وبدقة لاكتشفنا مثلاً أن عقيدته وديانته لها تأثير على هويته ولحسن الطالع إن أغلبيتهم من المسلمين ثم من المسيحيين والعقيدتاين السماويتاين لا تختلفان كثيراً في جوهرهما. وأن ما تملأ عقائد السماء قلوب المؤمنين من سمو ورقي وانضباط تحمله تجاربهم الفنية بل وأكثر من ذلك فقد يبحث الكثير منهم عن أصول ومبادئ مرتبطة بديانتهم وبتراثهم يضيفونها إلى لغتهم البصرية فتكمل بذلك المحتوى الفكري والفلسفي السطور السابقة تحمل قدراً من التفاؤل ولكن ذلك لا يمنع من وجود عثرات عديدة فالشخصية الفنية العربية تمر بمرحلة مشابهة لعملية الولادة الجديدة العسيرة وهناك محاولة لجمع الشتات ولابد من النجاح والفشل والذي قد تختلط معالم كل منها بين الحقيقة والزيف.. ومن هنا تأتي أهمية التنظير والنقد الموضوعي في الفن فهو الذي يضع النقاط فوق الحروف وينقي الصورة من شوائبها إذا التزم بالأمانة والصدق وهذه قضية أخرى نعاني منها فما زلنا في حاجة إلى المنظر والناقد المثقف والواعي والأخذ بالأساليب الحديثة في دراساته مع قدر من الحساسية لاستشفاف الأصول الحقيقية في العمل الفني.
لا أنكر أن فناني العالم العربي المعاصر تتفاوت قدراتهم في التخطيط لمواجهة مصاعب العصر وأن حلم وصول إبداعاتهم إلى المتلقي اصبح يشوبه الغموض ، فكم من فنان عربي تمكن من أن يرتمي في أحضان الغرب بعباءة شرقية عربية فاكتسب الشهرة.. ولكن هل هذا هو الطريق ؟ اسمحوا لي أن أقول لكم إننا مازلنا دمية يلعب بها الغرب وفنانونا الأذكياء والأقل ذكاء جميعا يعيشون عصر المادة والماديات الزائلة دون وعي أو إدراك ولن نستطيع التخلص من هذا التأثير العصري على أفكارنا ما دام يفرض نفسه على مجتمعاتنا في كل مظاهرها وثقافتها. ولكن الكشف عن كنوز فنوننا وتطويرها باعتبارها مادة تقوي من انتمائنا إلى أوطاننا مع العودة إلى الأصول العقائدية والاجتماعية الأصيلة والحقيقية والارتفاع بفنوننا عن الخوض في صراعات الشهرة والمكاسب المادية سوف يوصلنا إلى أول الطريق الصحيح فتسقط القشور الزائفة ويتألق الجوهر الصادق النقي .. ولنستشف ما في فنوننا الشعبية البريئة والبسيطة ما تحويه من ترجمة نقية لحاجات مجتمعاتنا الجمالية فعليكم بها تتدارسونها بعناية فهي تحمل في عمقها تاريخ امتنا دون زيف أو مواربة. ولعلنا باقترابنا منها وبعقلية علمية معاصرة نستطيع أن نتزود بطاقة دافعة جديدة للمضي في طريق إنقاء شخصيتنا وهويتنا الفنية.
كما ذكرنا فقد بدأ الاهتمام بالفنون التشكيلية بمفهومها المعاصر والحديث مع ضوابط وتنظيمات وتخطيطات المستعمرين تحكمه مقاييسهم الجمالية.. بل قد تتعدى ذلك إلى اعتبار الشرق بكل ما فيه من تراث فني غني متخلفا بالقياس مع فنون الغرب وهو أمر نرفضه تماما قد يكون ظاهر الأمر بالنسبة للمستعمرين مختلفا عن فهمه الحقيقي لقيمة الشرق.
ومنذ عهد الدولة العثمانية وفتحها باب ورود الكفاءات والخبرات الغربية في مجالات الثقافة والتربية والاقتصاد والإدارة والاعتماد عليها في إنقاذ سيطرتها وسلطانها لم يتمكن الفنانون من التخلص من الخضوع لهذه الضغوط وتتابع السنوات وتصبح المنطقة العربية تحت ظل الانتداب والاحتلال من دول أوروبا والتي عملت على تجزئة الثقافة والتربوية على المجتمع ولم تتمكن الشعوب العربية بثوراتها التحررية المتتابعة من التخلص من هذا الإرث المفروض عليها بالرغم من حصولها على الاستقلال وعندما ظهرت مدارس تعليم الفن اعتمدت على مدرسون غربيين كانوا يعدون خلفائهم من أبناء الوطن وقد حملوا لواء أساتذتهم وفنونهم وثقافتهم وحتى فلسفاتهم التعليمية ومناهجهم التربوية ولم يسمح لهم بالالتفات أو الاهتمام بالتراث العربي لتدارسه وسبقوهم لدراسته باعتباره لا يتعدى حدود الصناعات الحرفية دون التأكيد على قيمته الفنية وما يحمله من جذور وأصول لها أصالتها وقوتها وتطورها والتي كان من الممكن في هذه المرحلة من أن تكون بداية طريق جديد لظهور هوية فنية وشخصية عربية متميزة.. ولكن فات هذا الزمان وما زلنا نسمع ونقرأ أن ما فات والعودة قد تكون تأخير واجترار لا مرد له معتمدون في آرائهم على نظريات غربية كانت تحكمها استمرارية تطورية لا تتواءم أو تتناسب مع طبيعة مجتمعاتنا فخير لنا أن نتمسك بأصول لنا من أن نجري وراء غيرنا لاهثين تابعين دون هوية أو شخصية وهذا في مجال الثقافة والعلوم الإنسانية ناسين أن تاريخ حضارة الإنسان في أي مكان من الأرض ملك للإنسانية وان شعوبنا كانت مركزاً لحضارات عظيمة دفعت وأعطت وأدت إلى حضارات الغرب التي وراءها الآن لست أدعو إلى رجوعية مسطحة إلى الماضي فهي عودة محددة الدفع ولكنني أدعو إلى وقفة ثقة في تراثنا نمسك بأصوله لنعبر بها نحو مستقبل جديد نصنع نحن أبجدياته وهويته.. ويأخذنا هذا الحديث إلى مفهوم الأصالة وأنا لن أتطرق إلى الآراء التي تحدثت عن هذا الموضوع ولكنني سأوضحها من وجهة نظري فليست هناك دعوة إلى الأصالة أو إلى التراث فالأصيل والحقيقي لا يحتاج دعوة والفنان المبدع الصادق يحق ذاته دون حاجة إلى نبش الماضي فهو جزء منه أدرك ذلك أو لم يدركه قد تأخذه تيارات دخيلة فتبعده عن أصوله ولكنه عندما يعود إلى مجتمعه والى ضوابطه الاجتماعية الحياتية وتقاليده وروابطه، وكلها أمور ترتبط بمزاجية خاصة وبحاجات عاطفية وجمالية تختلف من مجتمع لآخر حسب تاريخه وتراثه الحضاري - فأنه سوف يدرك أن ذلك اقرب إلى نفسه يحقق له التوازن والانضباط باعتباره جزء من كل هو مجتمعه وعشيرته والإنسانية قاطبة بعد ذلك لم يتمكن الفنانون الرواد من فهم حقيقة المرحلة التي كانوا يعايشونها واندفعوا وراء التقليد وأن كنا نستشعر في أعمالهم درجة من الصدق قد لا تتعدى معالجتهم لمواضيع محلية والاهتمام بطبيعة بلادهم وبيئتهم وأنا ضد وضع مخطط لكيفية الخروج من الأزمة فهو اتجاه نحو المنهجية المحدودة التطبيق فالفنان المبدع 00طاقة وحرية وصدق ينفر من الدفع حتى لو كان بالنوايا الطيبة.
أن قيامنا بمحاولة تتبع حركة الريادة في الفن التشكيلي في عالمنا العربي لا بد وأن تأخذ في الاعتبار مفهوم لغة الشغل في التعبير المبدع عند الفنان رافضين فكرة مجالات الإبداع الفني العربي لا يمكنها أن تتعدى حدود الصناعات والحرفية إلى اعتبارها لغة مجردة لها مذاقها الخاص والتي يمكنها أن تخاطب الإنسان في كل مكان محملة بكل ما وصل إليه الإنسان العربي المعاصر من معرفة وثقافة وعلم واجد نفسي مضطراً بالبدء بمصر باعتبارها اسبق من غيرها في الدخول في مرحلة البحث عن الذات في مجالات الفنون التشكيلية.
لم تبدأ حركة الريادة في الفن التشكيلي المصري إلا متأخراً بالقياس لدول الغرب وذلك كغيرها من الدول العربية حيث لم تتعدى الأشكال المزدهرة حين ذلك حدود الصناعات الحرفية في صعيد مصر ودلتاها والموروثة عن الأجداد وذلك في النسجيات وصناعة الأدوات المنزلية الفخارية والمعدنية وفنون العمارة الشعبية في الوجه القبلي والنوبة بتقاليدها وقواعدها المعمارية المرتبطة إلى حد ما بدرجة من النقاء المتصل بنفس هذه الأصول في التاريخ القديم ومع إنشاء مدرسة الفنون الجميلة 1908 بدأت أنشطة الفنون التشكيلية بنتاجات طلاب هذه المدرسة (1910 - 1912) وخريجيها والتي لم تتعدى في ملامحها الأساسية حدود المدارس الفنية الفرنسية والإيطالية تأثرا بأساتذة هذه المدرسة وتوجيهاتهم وحتى برعاية جمعية
محبي الفنون الجميلة والتي أنشئت في هذه الفترة وقد كان من أهم فناني وخرجي هذه المرحلة الفنان النحات محمود مختار والمصورون محمد حسن ويوسف كامل وراغب عياد .. وبالرغم من أن موضوعاتهم كانت مأخوذة ومستلهمة من البيئة المصرية إلا أنها كانت تؤدي بأساليب غربية قد نستشعر في بعضها إحساساً طبقياً ولكنه في النهاية ذو مذاق جديد ورؤية متميزة اقرب إلى المصرية من مثيلاتها في أعمال المستشرقين وغيرهم من الفنانين الأجانب والذين كانوا ينافسونهم في المعارض المختلفة.
ولم تحرم الإسكندرية من حركة الريادة في مصر وقد تميز فنانوها بانتماء وأصالة اكثر وضوحاً ونقاء، وتمت تجاربهم في أحضان هذه المدينة العريقة ذات الطبيعة المميزة والأحياء العتيقة والتاريخ القديم فكانت نتاجات فنانيها الرواد أكثر انتماء ومن أهمهم محمود سعيد ومحمود ناجي وجورج صباغ وغيرهم.. ونقلت لنا أعمالهم عادات وتقاليد شعبية متنوعة بألوان بحرية دافئة فجمعت بين التسجيل الذكي والحس التشكيلي الخاص حتى أننا نستطيع أن نقول بوجود مدرسة سكندرية مازالت مستمرة حتى اليوم. لم يكن نصيب سوريا مختلفا عن مصر في حركة الريادة فقد بدأت أيضا متأثرة بالتيارات الغربية وان كانت غالبية مواضيعهم تميل إلى تسجيل التاريخ العربي والتراث والبيئة العربية والإسلامية بمعالجات غربية تنوعت أعمالهم ولكنها احتفظت بمذاق خاص يمكن تمييزه وأن كانت أكثر قرباً من زملائهم في لبنان وتركيا من أهم روادهم طارق وميشيل كرشه وعبدالوهاب أبو السعود وسعيد تحسين ثم تبعهم الجيل الثاني من الرواد والذين لم يخرجوا كثيراً عن مسار من سبقهم واصبح طريق القدوة متصلا وحاملا لنفس صفات الرواد بإيجابياته وسلبياته أما في العراق فقد استمرت موجة التأثر بالمدارس الغربية أخذ بمنهج التبعية والافتنان بحركة تطور الفن في أوروبا وأن كانت أغلب مواضيعهم تتركز على البيئة وهو الأمر الذي أشرنا إلى أهميته لما يحويه من حنين واضح للطبيعة والتراث والذي أدى بقدر الصدق فيه إلى خصوصية تحمل قلبا عربيا له جذوره الحضارية من أهم روادهم والذين يعتبرون رواداً أيضاً بالنسبة لبعض البلاد العربية المجاورة لهم الفنان عبد القادر رسام والحاج الموصلي وابنه والفنان جواد سليم ثم فائق حسن والذي اعتبر رائدا للفن الحديث في العراق بعد ذلك حيث كان أهم الفنانين العراقيين الناقلين لأساليب الفن في أوروبا إلى وطنه طبقا لدراسته بأكاديمياتها وقد نظم نشاط الحركة التشكيلية هناك من خلال التجمعات والجمعيات الفنية مثل جماعة الرواد وجمعية أصدقاء الفن 1941.
لم نحاول تتبع حركة الريادة في التجمعات العربية أن ندخل في التفاصيل قدر اهتمامنا فيها عن قدوة نأخذ بها وقد يوصلنا ذلك إلى اكتشاف نوع من الوحدة واضحة المعالم مع ملامح إقليمية أقل وضوحا فلبنان مثلا كانت أقرب إلى مدارس الغرب وأكثر المجموعة العربية تأثراً أو أخذاً بها لاعتبارات اجتماعية وجغرافية، من أهم روادها نجيب يوسف شكري وعبد الله مظهر ونعمت الله المعادي وجمال الفيروني ثم داوود القرم وحبيب سرور وقيصر الجميل وغيرهم. اشتركت الأردن وفلسطين في ظروف سياسية متشابهة أدت إلى تأخر ظهور حركة الريادة فيها وإن كان ذلك لم يمنع من ازدهار أشكال الفن الشعبي والحرفي المرتبط بالبيئة والطبيعة والعادات والتي أخذت مكانها بعد ذلك باعتبارها ملهما ومثيرا لفناني هذه المنطقة من العالم العربي وسعى الرواد كغيرهم إلى معرفة أسرار الفن الغربي الحديث بمراحله المختلفة وإن بقيت أعمالهم تحمل روح وطبيعة مجتمعاتهم المتأثرة بتراثهم الشعبي وعليه فإن القدوة هنا بالنسبة لفناني اليوم سوف تعود إلى الأصول اكثر من عودتها إلى الرواد. إذا اتجهنا إلى المغرب العربي فإننا لن نجده أكثر حظا في تخلصه من التأثيرات الغربية والفرنسية والإيطالية والإسبانية بالتحديد فقد لعب الاستعمار دوراً هاماً في نقل ثقافة أوروبا إلى تونس والجزائر والمغرب وليبيا فأخذوا بها ولكن ذلك أيضاً لم يمنع تواجداً ضمنياً يرتبط بشواهد ودلائل حضارية هي جزء من تاريخ متداخل بين المغرب العربي وعصوره الإسلامية وأوروبا ، ففي تونس اقترنت أصول الفنون الشعبية والحرفية بمواضيعها وقصصها بتجارب الفنانين ونذكر منهم على سبيل المثال الفنان يحيى التركي حيث كانت مراحل تطور تجربته الفنية ترتبط بمتابعته للزوار من الفنانين الفرنسيين ثم بتوجهه لتكملة دراسته في بلادهم وتتابعت تجارب الفنانين في نفس المسار تتحدث بلغة غربية عن مظاهر الحياة في بلادهم حاملة حنينا وعشقا لم تستطع أن تحمله أعمال المستشرقين من الفنانين الغربيين. عند استعمال لفظ لغة الشكل أجدنى مضطراً لتفسير أن ما وصل إليه الغرب من تطوير لها وتنويع لا يورثها تماما لهم فهي لغة مطلقة ومجردة يمتلك نواصيها كل فنان حر أصيل وأهم وظائفها الناقلة لأحاسيس الفناين هي تبعيتها لمزاجية جمالية خاصة تعمل مختزنات الفنان بكل جوانبها في تحديد هويتها وتصبح بذلك تعبيراً عن مجتمع بعينه له تاريخه وتطوره ، قد تختلف التعاملات البصرية التشكيلية بين فنان وآخر في المجتمع الواحد لمجرد تغير مكونات شخصيته المرتبطة ببيئته الجزئية والتي تكون عادة تابعة لهوية شمولية هي لمجتمعه ووطنه ثم تتسع إلى منطقته ثم إلى الإنسانية قاطبة، تقطع استمرارية الاتصال هنا معابر مستمرة بين كل أنحاء الوطن الأم وهو الكرة الأرضية في هذه الحالة.
عند فهمنا لذلك ندرك أن محاولتنا الاقتراب من حركة الريادة في الفنون لابد وان نكتشف عند تتبعها فكرة الاتصال والتوصيل هذه فتونس والجزائر وليبيا لن تبتعد كثيراً عن المغرب والكل أيضاً لن يخرج عن انتمائهم إلى العالم العربي والإسلامي والذي له الفضل في توحيد الكثير من الصفات الاجتماعية والإنسانية لهذه الشعوب.. وتبقى دائما الحرف والفنون الشعبية والصناعات التطبيقية والتي تستطيع أن تنتقل من مكان إلى آخر بسهولة ومرونة لتصبح كحبات مسبحة تتصل في تسلسل منظم، لقد كان لاقتراب المغرب من أوروبا واتصالها المباشر مع إسبانيا وفنونها المهجنة مع فنون أوروبا أثر في تميز واضح لتجارب روادها، من أهمهم أحمد رباطي الطنجي ومحمد السغيني ومريم مزيان واحمد الشرقاوي والجبلاني ، وكان فناني الجزائر والآخذون بدرب زملائهم اكثر حيرة عند مواجهتهم محاولة التزاوج بين تراث عربي إسلامي ونهضة غربية فرنسية أتت إليهم ورحلوا إليهم لها تحت ظروف التحرر المميت(( واجه هذا الصراع روادهم محمد راسم ومحمد ازميرلي والفنانة بايه وغيرهم وكان على الفنانين الشبان أن يمسكوا بزمام الصراع تخليص تجاربهم من المزج الذي يخفي جوهر شخصيتهم وهي يعاني منها المجتمع الجزائري بشكل عام.
لقد عانت السودان الشقيقة ما عانته زميلاتها في العالم العربي وجاءت حركة الريادة وتحرير الشخصية الفنية متأخرا بالرغم من كونها تحمل تراثاً شعبياً عظيماً ومتميزاً والذي كان أحد العوامل الهامة في تطور مدارس الفن الحديث في أوروبا ، من أهم روادها إبراهيم الصلحي ومحمد شبرين واحمد عبدالعال وغيرهم. ننتقل الآن ونحن نتبع رواد الفن التشكيلي في العالم العربي لنأخذ منه القدوة إلى شبه الجزيرة العربية وهي آخر المطاف وهي الممثلة في مجموعة دول مجلس التعاون وقد ذكرت ذلك لأن وحدتها أمر منطقي من جميع النواحي وأهمها بالنسبة لنا الناحية الثقافية والفكرية وعاداتهم وتقاليدهم المشتركة والتي تجعل من تجارب فنانيهم مرآة تعكس كل أصولهم الحضارية ، بدأت حركة الفن التشكيلي في هذه البلاد متأخرة عن زميلاتها من الدول العربية ومتأثرة بها وكانت مجالات ظهورها متمثلة في الأنشطة الطلابية في الخمسينيات والستينيات لعب المدرسون العرب دوراً هاماً في توصيل معاناة الحركة التشكيلية العربية إليهم بكل ما فيها من تأثرات وقضايا بل ومن مناهج لصقل المواهب الفنية وأصولها الغربية وبذلك فقد دخلوا طريق التمغرب منذ بداية حياتهم التشكيلية الحديثة وهم في الواقع أقل شعوب المنطقة العربية انسياقاً وراء الغرب بسبب عملية التوصيل المهجنة التي قام بها الموجهون العرب ولكنهم لا يدركون ذلك، وكان التحول الاجتماعي المفاجئ سبباً في انحرافهم تحت وطئت التطلع إلى الغرب بمزيد من الانسياق .. وتبعاً لأن تجاربهم مازالت في طور التكامل يصبح الأمل في التخلص من المؤثرات والأحكام الغربية النقدية قريبا لو لم يندفعوا في صراعات الفنان من اجل إثبات وجوده بين أبناء وطنه.
لقد بدأ نشاطهم في المجالات المدرسية كما قلت ثم بدأ في التحول نحو التخصص والاحتراف بالتدريج ولعبت الدولة ومؤسساتها في مجمعاتهم دوراً هاماً في ذلك، جاءت دولة البحرين سابقة لزميلاتها وقد يكون ذلك راجعاً لاختلاف أصول تكوينها الحاضر ثم تلتها دولة الكويت البلد المنظم لتجمعات تشكيلية متعددة ثم قطر فالمملكة العربية السعودية فدولة الإمارات ثم سلطنة عمان .. ولن أطيل في الحديث عن الحركة في هذه البلاد والتي استطاع بعض فنانيها من الوقوف إلى جانب زملائهم في العالم العربي اليوم متكافئين معهم في مواجهة المتغيرات والظروف التي يواجهها المجتمع العربي من جميع النواحي لتصبح قضية القدوة عامة شاملة فرواد مصر والعراق والمغرب العربي هم رواد الحركة العربية في الفنون التشكيلية وتجنب السلبيات التي وقعوا فيها والأخذ بالإيجابيات أمر مفروض على كل الشباب والأجيال التي تلتهم في عالمنا العربي. من الواضح إن فناني شبه الجزيرة قد أدخلونا بسرعة في الفن العربي المعاصر ولكن ذلك لم يمنع من وجود رواد واجهوا المرحلة الأولى في نشأة الحركة التشكيلية في بلادهم من أهمهم الأخوانى العريفي والمحرقي والعريض وعلي الشيخ بشير في دولة البحرين وتتابعت المحاولات الشابة بعد ذلك.
وجاء الدوسري وأيوب حسين والقطان وطارق السيد فخري والأنصاري من دولة الكويت وجاسم الزيني والملا والكواري بدولة قطر ومحمد السليم بالمملكة العربية السعودية وعبد القادر الريس وغانم الهاجرى وحسين شريف بدولة الإمارات ثم ننتقل إلى سلطنة عمان وهي هنا تسير في ركب الحركة في منطقتها. وكذلك دولة اليمن ونذكرهما هنا لنحمل فنانيها مسئولية العبور نحو المستقبل بدافع من الانتماء إلى تراث عريق في السنوات البكر لمولد حركة تشكيلية معاصرة في بلادهم ونذكر من دولة اليمن الفنان فؤاد الفليح وعلوي طاهر وسالم باذيب وفاروق الجفري وعلى جذافي. نخرج من هذا العرض السريع المختصر لحركة الريادة في مجتمعنا العربي بعدة نتائج هامة نستعرضها كالآتي:
أولاً: إن روادنا تجمعهم ظروف متشابهة وساروا في طريق واحد ونحو تحقيق شخصيتهم الفنية وإن كان ذلك على مسافات زمنية مختلفة وبتفاوت في هذا التحقيق وإذا كان الطريق لم يكن ممهدا في بدايته ومنجرفا نحو الغرب في مساره فلعلنا نستطيع عند الأخذ بمبدأ القدوة أن نتجنب بعض التعثرات إذا أدركناها.
ثانياً: تشتت طاقاتهم الإبداعية بين ارتباطهم بأصولهم وتراثهم وبين تبعيتهم لأساتذتهم ومدارس واتجاهات الفن في أوروبا وقد نجد لهم مبررا لهذا التشتت فمجتمعاتهم كانت تمر بنفس الصراعات وهم يعبرون عنها بكل الصدق.
ثالثاً: واجه هؤلاء الرواد مجتمعاً تتصارع طبقاته للتظاهر بالتحضر مكتسحة أمامها تاريخها العريق وتراثها الغني دون إدراك لخطورة ذلك في المستقبل.
رابعاً: كان مخطط المستعمر حصر الطاقات الإبداعية في إطار الصناعات الحرفية والشعبية دون الاهتمام بتنمية الإبداع الحر المتطور لما يحمله من إمكانية الرفض والثورة على ما يقيد حريته وحرية مجتمعة. وكما يبدو لي فقد أدرك المستعمر المخزون والطاقة المبتكرة التي يحملها فنانو المجتمعات العربية المسلمة في قلوبهم وكيف أن ازدهار ونمو هذه الشريحة من المجتمع سوف تكون قوة دافعة نحو الاستقلال الثقافي والفكري وهم يدركون خطورة هذا فقتلوا كل ما يمكن أن يدفع إلى ذلك واحلوا محله ثقافتهم وفكرهم ولكنهم لحسن الحظ لم يتمكنوا من القضاء على جذوره الممتدة في تراب وطنه عميقة عمق التاريخ نفسه وما يملأ قلوبهم من إيمان عميق وإحساس بضرورة التمسك بكل ما هو حق وخير فبدأ ينيب براعم جديدة تحتاج إلى الكثير من الرعاية والحماية لتنمو في مناخ فكري وثقافي أصيل ومتطور.
إن تعرفنا على البدايات الرائدة وما واجهته من صعوبات ، لن يعطينا القدوة التي نحن بحاجة إليها، فظروفهم تختلف عن ظروفنا وغزو الغرب لبلادنا في أزمنتهم كان له دوافعه ومخططاته ، ولكن غزو اليوم أصبح أكثر تعقيداً وغموضاً يتسرب إلى المجتمع بطرق عديدة غير مباشرة قد نجد صعوبة في الكشف عنها أو التخلص منها، وبالرغم من انهم عاصروا مراحل الاستعمار والانتداب والثورة عليه ولكن ذلك لم يكن إلا سياسيا بالدرجة الأولى ، أما نحن فنعيش محاولة الاستقلال الحضاري والثقافي والفكري وهي معركة اكثر ضراوة ووحشية بالرغم من ظاهرها الهادي. إن علينا أن نتخلص من فكرة الملاحقة فلن ننال منها إلا اللهث وسنبقى تابعين نشعر بالنقص كلما شاهدنا تجاربهم واقتربنا من ثقافتهم في الوقت الذي نملك فيه تراثاً تاريخياً وعقلاً وفكراً يمكننا من التفوق عليهم أو على الأقل مجاراتهم ولكن بلغتنا وبأصولنا فكل فن صادق وحقيقي لابد وان يرتبط بجذور إقليمية وهو عطاء إنساني عالمي في النهاية.
وعليه فإن لروادنا كل التقدير والاحترام، نأخذ منهم القدوة بقدر حاجتنا وبقدر الصدق في تجاربهم دون أن نغفل حاجات مجتمعاتنا الجمالية والروحية والتي دائماً ما كان الفن معطيها على مر العصور. لابد وأن هناك لغة تعبيرية بصرية خاصة بنا يمكننا أن نتخاطب بها ونخاطب بها العلم كلغتنا العربية وفي نفس مستواها التقني ننقل لهم ثقافتنا وفكرنا وفلسفتنا في الحياة والنابعة من إيماننا بخالقنا.. لا أن نزين بيوتهم بفنون أقرب إلى العادات منها إلى القيمة العميقة الأصيلة، فيها من الطرافة والإثارة ما يدغدغ مشاعرهم وينقلهم إلى عالم الشرق بخصوصياته ولزماته من خط واستعمال للرموز الشعبية والتراثية الغريبة عليهم أو بتسجيل مشاهد من حياتنا ليتفاخروا باقتنائها.
فلنأخذ قبساً من روادنا يمكننا من العبور إلى المستقبل وبالتصوف والدراسة الدقيقة في جوهر تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا وما تبقى منها من مظاهر حقيقية وبإيمان وثقة بالنفس وبروحانياتنا سننظم تصوفنا وسيأتي اليوم الذي تقتنع فيه شعوبنا بأهمية رسالة الفن في الحياة لاستمرارها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.