يبقى «مستقبل الثقافة في مصر» أكثر نتاجات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من حيث إثارة الجدل وإيجاد ردود أفعال شديدة ومتباينة في الأوساط الثقافية والفكرية، ليس في مصر فحسب وإنَّما في عموم البلدان العربية والإسلامية، بل إن تأثير هذا الكتاب امتدّ ليشمل الأقليَّات المسلمة في بعض الدول الأوروبية. ولم يكن الأثر الذي تركه هذا الكتاب الصادر عام 1938م آتياً من فراغٍ البتَّة؛ ولكنه مثَّل نتاجاً طبيعيَّاً لخطورة القضايا التي ناقشها فيه مؤلِّفه، ولا سيَّما أنه ظهر في معالجته لها متأثِّراً بالثقافة الفرنسيَّة التي اكتسبها هناك خلال دراسته فيها؛ إذ أوفدته الجامعة المصريَّة للدراسة في مونبيلية في فرنسا، ليحصل على درجة الدكتوراه عن أطروحته: “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون”، بعد أن كان قد حصل على درجة الدكتوراه الأولى من الجامعة المصريّة عن أطروحته: “ذكرى أبي العلاء”.. وبرز ولع طه حسين بالثقافة الغربية جليّاً في كثيرٍ من مضامين هذا المؤلَّف، وربما أن تأثره زاد كثيراً بفعل زواجه من فتاة فرنسية ذات أصل سويسري، واسمها “سوزان بريسو” التي قال عنها: إنه منذ سماعه صوتها لم يذق طعم الألم..!! فلم يكن ينبغي إزاء هذه العوامل، ونحوها كثير، أن يستغرب البعض كثيراً من تأكيد حسين بأنه لا يمكن للأمَّة الإسلاميَّة أن تنهض إلّا إذا “أخذت بالحضارة الغربية كلّها، بحلوها ومرّها، وحسنها وقبيحها، ما يُحمد منها وما يُعاب”، لكن قد يكون مكمن الاستغراب كامناً في كونه عُرف لسنوات من روَّاد المدارس والمعاهد الدينية، ويكفي أنه من تلامذة الإمام محمد عبده، فضلاً عن التزامه بحضور دروس الأزهر..!! ورغم وفاة طه حسين؛ فإن أفكاره في ذلك الكتاب أو غيره من كتبه لم تمتْ، ولكنها ظلَّت حيَّةً ذات تأثير على الحياة الثقافية في عصره ومصره، حتى أن أحد مَنْ ناقشوا مضامين ذلك الكتاب (وهو شلش علي) عنون كتابه ب«طه حسين: مطلوبٌ حيَّاً أو ميِّتاً»، وهو ما رأينا أن نجعله عنوناً لمقالتنا هذه؛ علَّه يخفِّف بعضاً من تواضعها شكلاً ومضموناً معاً..!! ووفقاً لما سبقت الإشارة إليه؛ فقد لقي هذا الكتاب الكثير من ردود الأفعال، وكثرت كتب الردود عليه؛ إذ كتب الأستاذ أنور الجندي “محاكمة فكر طه حسين”، بعد أن كان الشيخ مصطفى المراغي قد أصدر “بين القديم والجديد”، وخالد العصيمي في “مواقف طه حسين من التراث الإسلامي”، ومحمد مهدي الاستانبولي “طه حسين في ميزان العلماء والأدباء”، والدكتور أحمد دعدوش “طه حسين بين التحرير والتغريب: دراسة نقدية لكتاب: مستقبل الثقافة في مصر”، وعُقدت الكثير من الندوات بل والمؤتمرات العلمية لمناقشة فكر طه حسين من خلال هذا الكتاب، مثله مثل بقية كتبه الأخرى التي يبدو أكثرها رواجاً “في الشعر الجاهلي”..!! تجدر الإشارة إلى أن كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” قد صدر في طبعاتٍ كثيرةٍ، لعلّ آخرها إصداره من الهيئة العامَّة للكتاب في مصر، ضمن سلسلة “تراث النّهضة”، رغم ما قيل عن كون صاحبه “طه حسين” قد تراجع عن بعض آرائه فيه في أواخر أيَّام حياته، كما نُقل ذلك عن العلّامة المحقِّق محمود محمّد شاكر، شقيق المحقِّق والمؤرِّخ الشهير أحمد محمد شاكر، علماً بأن والدهما “محمد شاكر” من أشهر علماء مصر في عهده، وتكتب الزميلة المصريَّة “إسراء شعبان” رسالة ماجستير عن جهوده الإصلاحيَّة وإسهاماته الفكرية. باحث دكتوراه في الفكر الإسلامي، مدرِّس في كلية الآداب بجامعة إب.0 [email protected]