قيل إنّ الحب كالمعاني على الطريق، لكنه كالشعر صعبٌ، ويمكن وصف الحب أنه سهل ممتنع، إذ لايكفي أن تحب لتكون محباً، بل ينبغي أن تفهم ما هو الحب وكيف تحب. فالحب كما قيل: مغادرة ال “أنا” لتلتقي بما لا وجود لها إلا فيه، ولا تشرف على صاحبها إلا كاشراف البحّار على خيباته من أسرار البحر. وهو رغبة الإنسان في اكتمال إنسانيته ليرتقي بها بمقدار وعيه بمعانيها واكتشاف معالمها واسرارها، ليعيد ترتيب مفاهيم الأشياء في رحلته ويستعيد حقيقتها وحقيقة مسار الحياة وتوازنها المفقود، فيغدو الحب ضوء القلوب تستهدي به إلى أفقها الإنساني، فتُسهم في صياغته وبعثه حباً يجمع الإنسان في سمو غاياته ووضوح آماله، وبقدر ضوء القلوب ووعي المحب، يتدفق شلال الضوء المتجمع من تسبيحات الكلمات المكتنزة بضوء الغايات النبيلة، كما نجد في تسبيحات كثيرة من تسبيحات الفضول التي تُكوِّن بمجموعها فضاء حبه وشلال ضوءه. ولأن الحب محكوم بصواب البدايات وصدقها، وعليها تتأسس النتائج وتدوم ويزدهر الأمل، فإن النصوص الحاضنة لمثل هذا الحب لا يمكن صوغها بالكلمات إن لم ينضجها عقل متحرر لايخضع لخوفٍ أو تقية، وفكر يعرف اللغة ويدرك مستواياتها وابعاد موروثها المتجاوب مع مستوى الذات، القادرة على التجسيد والتشخيص عبر أساليب اللغة المتنوعة، وهذا ما كان يعرفه عبد الله عبدالوهاب نعمان، إذ كان يُدرك كيف ينْظِمُ ضوء مكنونات اللغة في بناء تمليه عليه لحظة الكشف لفظاً وأسلوباً، فتتكامل بهما مكونات الصورة بتراتب مدهش، كهذه الصور المتنوعة بمجاز الألفاظ المؤطرة بأسلوب النداء ليبدو الحبُّ وطناً والمحبوب آمالاً على نحو: ياحب يا ضوء القلوب البيض في ليل الحياة يا حب حبيتك وشل القلب من ضوءك ضياه يا حب غنيتك وخليتك على كل الشفاه ياحب يا تسبيح وجداني وروحي للإله ياحبنا يكفي فقد فاضت رحاب العمر نور يا جب قلبينا تلملم في زجاجات العطور تتعطر الأعياد منك أو تعطر بك زهور وحدك وباقي العطر للأيام في باقي الشهور. وكما في قوله: يا حب يا أرضي ويا سمائي ياموطني ويا بلاد قلبي ياحب من غيمك شربت مائي ودام غيمك واستمر شربي وعلى نحو هذه التسبيحة التي ناجى بها أسمى حب مدّه بضوء الإبداع ونبل الغايات: وحدتي ... وحدتي يا نشيداً رائعاً يملأُ نفسي أنت عهدٌ عالقٌ في كل ذمة أمتي .. أمتي امنحيني البأس يا مصدربأسي واذخريني لك يا أكرمَ أمة رأيتي .. رايتي يا نسيجاً حكته من كل شمسِ اخلدي خافقة في كل قمة. بمثل هذا التنوع في تشكيل الخطاب في نداء المحبوب يتنوع بناءُ الصور المُشكلة لوشاح الحب وفضائه عند الفضول، فالحب عنده مترسخ بصواب الرؤية، وازدهار العقل في حريته، والنفس في أشواقها، وفيه تتشابك الأحلام وتتماثل الغايات. إذ نجد في حدائقه الشعرية حالات حب أشبه بالمعجزات، تصنع حاضرها وتحيا بوعي العصر وتحولاته، حدائق منجزة باشتباكات المصائر وشراكة الوجود، حدائق مشيدة بكلمات تصنع لحظة استيقاظ العقل، واكتشاف الجمال في كل مجال اتجهتْ إليه أو أبحرت فيه غصون الحياة. ومن حيث نُظِرَ إليها أو أُبحِرَ فيها بدت أشعتها الفعلية تعلقُ بالروح وتولدُّ طاقة الحب والحضور بما تملك من مهابة الأصالة وجلال الجمال، فتجعل كل من يحاول شرحها يتهيب خدش شفافيتها، ويخشَى الغوصُ فيها حتى لا تفقد بريق سحرها، لأن كل شرح سيعجز عن بلوغ معانيها المضمرة بكل أطياف الجمال المتدفقة برونق الضياء الذي يغمرنا بألوان الحب واشراقات الوطن، ويُشعِلُ فينا حنين الذاكرة وشجى لقاء الأحبة أو فراقها، منذ “ألوان الهوى في عدن” إلى “الأحلام الكِبار .. في آخر وجه عيد”، وفي صهوات العز التي تعشق الحق جليلاً ومهيبا، في “سماوات بلادي”، ومن أجل عشق الحق فيها نقطف من روضة سماوات بلادي باقة تُشيرُ بعطرها إلى تنوع الجهد المبذول وطبيعته، وغاية الرفض وقيمته: كم سلكنا ومشينا طرقاً تُفنى بها روح الفناءِ ورفضنا وأبينا ركعة الهون وضعف الانحناء. وكم سكرنا في أحلام السنين وسجع الطيور، وسبحنا في مجرات النجوم نهتدي بضوئها إلى جنة الحب التي شيدتها المنى، فنغني: من الضحى حتى قدوم الأصيل بين الندى والظل تحت النخيل “ما أحلى هواك” و “من أجل عينيك” و “ مهما يلوعني الحنين” و”حسنك لعب في العقول”. وفي أجواء: أذكرك والليالي غامضة النجوم والسماء مستضيفة ساريات الغيوم والقمر قد توارى في السحائب يعوم نتذكر: “لك أيامي” و “طال الفراق”، وتتجلى “وافي العهود” و “أنا مع الحب” ويبدو “الليل والنجم وهمس النسيم” في “مدارب السيل” و “وادي الضباب”، وفي بكور الغبش يطيب البلس مع الصبايا الملاح، ورش عطور الكاذي، وهمس النفس في استعطاف “هات لي قلبك”، وفي هيام “هيمان” يعرف أن فؤاده لا يرتوي من الجمال فيدندن: محال أن يروى فؤادي محال ياورد قلبي ما ارتوى من جمال هيمان حتى لو سكنت السحاب لأصبحت قيعان فيها سراب هكذا تبدو الكلمة في خطاب الفضول صورة مكتملة الدلالة تعبق بألوان الأسرار وتفصح عن حب عميق الأبعاد يتجلى في رحاب الأنفس كما يتجلى في رحاب الأرض ونشيد الدنيا، وهي تردد: في خطى الواثق تمشي قدمي مثل سيل وسْط ليلٍ يرتمي هي أرضي زرعت لي في فمي بسمة الخير وناب الضيغم وهو إيماني يؤاخي في دمي فرحة النصر وحزن المأتم. في هذا المستوى من المفارقة والدهشة والتجلى النبيل صاغ عبدالله عبد الوهاب نعمان ضوء حبِّه شعراً، فحلَّقَ بجناحي حب الأرض والمرأة / الإنسان، فتماوج في أثير الحياة بصوتٍ تعانقت فيه عبقرية الروح وعبقرية اللحن، بصوت الفنان المبدع أيوب طارش الذي رسم كثيراً من الحدائق الغنية بالاثمار والجمال، في مساحة الوطن وسمائه بريشة حبين: حب “الفضول” الذي فَهِمَ ما هو الحب؟ وكيف يحب؟ فأعاد بحبه صياغة الوعي بالوطن ومفهومه، وحب الفنان “أيوب” الذي كان وما زال غناؤه يمثل المعادل الموضوعي لطبيعة حياتنا الإجتماعية وطموحاتنا وآمالنا في وطن ما زلنا نحلم بتأسيسه، ونرسم أبعاده مع كل سماع لصوته، وهو يشدو بروائع الوطن وحبه، ذلك الحب الذي تجد ال “أنا” معناها فيه، ومن خلال نسماته تتنفس عبق الفردوس. ومن الأصوات التي تعانقت مع عبق الفردوس صوت فنان الضوء والعبير عبد الباسط عبسي الذي شارك بوعي في رسم خارطة الحب عند الفضول، وبيَّن بحميمية ألْحانه وصوته العذب تضاريسها، ولوَّنَها بطعم القبل، وحُسن الملاح، فأشرقت في مبسم الفجر ونُسَيْماته المبلولة بَنُطَفِ الروح، وضوء الضحى على مباسم الحور، وعنونها بدفء الحب، فغنى متسائلاً بفيض أحاسيسه الشجية: ماذا يقولين واحبيبي الطيور عند الضحى والليل أو في البكور هل قد غزاهُنّ الهوى في الوكور إنها خارطة لفردوس الحب بكل ألوانه، تحوي منه ما يروي ظمأ النفس ويحقق دفئها، كُتِبَ في دليل مفتاحها: “ماشاش حتى جنان الخلد تأويني إلا إذا كان فيها حبُّ يكفيني” وجاء في خطاب اشهارها: “قولوا لمن بالحب ضاقوا ألا هاتوه عندي عاد قلبي فساح” هذا طيفٌ من فضاء حب الفضول، وخارطة شعره التي شارك أيوب طارش وعبد الباسط، في رسمها، وبثا بصوتيهما المميزين معالمَ أشعتها ومفاتيح دلالاتها، وستبقى بمحتواها الشعري وسماتها الفنية والغنائية دليلاً لمنابع الضوء، ومساحة كبيرة يشعُّ منها حب الوطن وحب الجمال، ولن تضيق معالمها أبداً. رحم الله الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفضول”، وأطال في عمري الفنانين الرائعين: أيوب طارش العبسي، وعبد الباسط العبسي، ومنحهما الصحة ومزيداً من اشراقات الإبداع.