المدافعون عن حقوق الإنسان في الإسلام، يواجهون حيرة أمام قضية حق الزوج بضرب زوجته الناشز، ذلك أن القائلين بحق الزوج اعتمدوا أيضاً ظاهرة الضرب.. والقراءة بهذه السطحية هي أقرب إلى من يقرأ ( ويل للمصلين ..) أو كمن يقرأ ( لا تقربوا الصلاة.. ) وهذا الفهم أضر بالقرآن والسنة، حيث يفتح شبهة خطيرة. .. والواجب شرعاً وتأصيلاً أن نقرأ القرآن في هذا الصدد وفي غيره من رؤية شمولية للواقع والطبائع ، وليس على الطريقة الجزئية التي تحولت إلى كوابح تحول بين الناس وبين الدفاع عن الإسلام بقوة مطمئنة .. الأشد سوءَاً أن تصبح النظرة التقليدية - مصحوبة بعامل الرغبة والرهبة - قدسية ..إذن لابد من منهجية شاملة، وخلال عيشي مع هذه المنهجية أجد أنها هي الأجدى والأقرب إلى الواقع الاجتماعي والطبائع والمتغيرات العصرية .تساؤلات تُقرِّب الفكرة حتى لا أطيل الكلام، سأحاول تقديم، بل تقريب الفكرة على هيئة أسئلة، ثم بعد ذلك نصل إلى فهم الآيتين ( 34 35 ) من سورة النساء، فأقول: أولاً : إذا كانت شريعة الإسلام بهذا الكمال، وبهذا العدل، فهي ستواكب فضائل كل عصر، فلكل عصر فضائله، وبكل عصر تتجدد صور العدل فيه، أليس كذلك؟ إذا كانت المرأة اليوم قد وعت حقوقها جيداً، فهل ضربها كزوجة يتلازم مع وعيها التعليمي ومستواها الفكري والاجتماعي؟ هل الضرب والمهانة والإذلال النفسي للمرأة لاسيما كزوجة -ملكةً في أسرتها - يتناسب مع الجو الذي حدده القرآن بالمودة والرحمة والسكن النفسي ؟ الأمة الإسلامية تعيش صنوف الاستبداد القاتل في كافة مناحي الحياة، والمصلحون يطمحون أن ينتشلوها من هذه الهوة السحيقة، مؤكدين أن الانطلاقة تأتي من إصلاح شأن الأسرة .. والسؤال : هل ضرب الزوجة يتناسب مع هذا الهدف الإصلاحي العظيم ؟! بصيغة أخرى : هل الجو الأسري - الذي يُخيَّم عليه الإذلال والمهانة النفسية داخل الأسرة - كفيل بإخراج شعب ينتزع حقوقه، ويرفض الذل والعبودية ؟! هل وعينا قصة بني إسرائيل في أرض التيه ( أربعين ) عاماً ، وأن الهدف منها هو إخراج جيل حر لا يعرف العسف الفرعوني، ولا الطغيان، ولا الإذلال والقهر والمهانة النفسية، أم أن القصة جاءت هكذا لملء الفراغ ، وتسويد الصفحات ؟.. حاشا رب العزة. القرآن في غاية البلاغة والتراتب المنطقي بين آياته وسوره، فكيف جاءت الآية ( 34) تنص على الضرب، تم تلتها الآية ( 35 ) ونصت على التحكيم؟! أقصد أن الترتيب المنطقي يأتي بالأخف، ثم الأشد، وهذا أمر واضح في القرآن الكريم.. بدأ بالحبس للواقعين في الفاحشة، ثم جاء الجلد، وكذلك الخمر، وغيره ، وغيره.. لآية ( 128 ) من سورة النساء نصت بوضوح أن النشوز حاصل من الزوج، كما يحصل من الزوجة.. والسؤال: لماذا يكون حل نشوز الزوجة بالضرب، وحل نشوز الزوج بالصلح (التحكيم)؟! ألا يتنافى هذا مع العدل الإلهي الذي ساوى بين الزوجين، حيث قال ( ولهن مثل الذي عليهن ) ؟ هل مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الضرب مع زوجاته عندما تظاهرنَ عليه؟ ولماذا منع أبا بكر وعمر من تأديب ابنتيهما المتظاهرتين؟! إن سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقام له دلالة، استخرج الأصوليون من هذا الموقف وأمثاله قاعدة أصولية تقول ( ترك الاستفصال مع قيام مقتضى الحال ينزل منزلة العموم في المقال ) بمعنى أن الرسول في هذا المقام منع ( أبو بكر، وعمر ) من الضرب، بل هو لم يضرب، ذلك أن الضرب هنا هو حق من حقوقه كزوج أولاً.. ومُشرّع للأمة ثانياً، لكن منعه للرجلين، وعدم القيام بالتأديب بنفسه، يوحي بأن الآية ( 34 ) ليس معناها الضرب المتعارف عليه.. ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب في نصوص أخرى من السنة، فكيف يرفض توجيهات الله عز وجل ؟! هل الضرب أيضاً يتناسب وكرامة الزوجة؟ هل يتناسب مع حق المرأة في الخلع؟ إذا كان الأمر الضرب هو الحل للخلافات فالخلع مرفوض تماماً، فليس لها الحق في طلب الخلع أبداً، إنما العصا لا غير. هل ممارسة الإذلال والمهانة النفسية والرهبة للمرأة كزوجة كفيل ببقاء المحبة، وسيحول بين الزوجة والخيانة، أو على الأقل الكره الشديد للزوج ؟ ماذا يقول علماء النفس عن تحقيق الذات في بطش المقموع بمَنْ هو دون؟! فالزوجة المقموعة تفتك بالأبناء، ويتحول المنزل إلى حلبة سباع تتناهش . هذه الأسئلة وغيرها الكثير تجعل المفكر والفقيه يعيد ان النظر في فهم النص الجزئي، والعودة إلى الفهم الشمولي للنصوص العامة المتعلقة بكرامة الإنسان، وخطورة الجو الأسري، ثم مبدأ العدل، والمساواة، والواقع الثقافي المتغير، والاجتماعي.. هذا النظر الشمولي يُوصلنا إلى السؤال الأهم، وهو (ما معنى ) كلمة ( ضرب ) الواردة في الآية ( 34 ) من سورة النساء ؟ الجواب : قال أهل العلم بالعربية : إن كلمة الضرب في القرآن لابد أن تكون معها قرينة لفظية تحدد مكان الضرب، وبالتالي تتضح معها أداة الضرب، ثم تتضح الدلالة .. والأمثلة كثيرة جداً، منها ( وإذا ضربتم في الأرض ) فلفظ الأرض قرينة على أن الضرب هنا السفر.. وكذا ( .. فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) فلفظ ( جلد ) قرينة أن الضرب بأداة هي السوط.. وكذا ( فاضربوا فوق الأعناق .. ) فلفظ الأعناق قرينة تفيد القطع بالسيف. لكن الآية ( 34 ) لا يوجد فيها قرينة لفظية أبداً ( فاضربوهن) وهذا يعني أن المعنى ليس الضرب، والإيذاء الجسدي، واللطم، أو سواه من وسائل الاعتداء الجسدي،وإنما هو شيء آخر، وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الهجر الطويل الذي يصل إلى (45) ليلة، وقيل شهراً كاملاً، وهو في المنزل، لكن هذا الهجر هو إبداء عدم الرضا، وكناية عن الغضب إزاء تصرف صدر من الزوجة.. وبهذا الفهم - في ضوء المنهج المقاصدي المُوَفّى الشامل - نكون قد فهمنا الدليل الجزئي في ضوء المنهج الكلي للمقاصد (واقعاً وثقافة وطباعاً وكرامة) وغير هذا نكون قد أسأنا إلى القرآن والإسلام ونكون أشبه بالدب الذي أراد أن يدافع عن صاحبه النائم من الذباب، فألقى عليه حجراً، فقتله.. وصدق القائل (ومن البرَّ ما يكون عقوقاً).