يوم كعادة بقية الأيام التي تتكرر، لقد تغير اتجاهي على الأقل منذ شهور قليلة، كنت قبلها أتجه يوميا نحو الشمال، أصبحت الآن أتجه جنوباً، قد تأتي أيام أخرى أتجه فيها شرقاً وأخرى أتجه غرباً. حقا! كم اتجاه لهذا العالم؟ هل هي أربعة فقط؟ أليس لي أن أكتشف اتجاها خامسا لأحمل براءة اكتشاف جهة ما، كما من اكتشف قارات العالم الجديد...أي جديد للعالم؟ قارات موجودة منذ الأزل وعندما استطاع الإنسان أن يصل إليها قال إنها أرض جديدة. الكون قديم جداً، ونحن الأقدم منه، ولكنّا لم نكتشف أنفسنا بعد، فكيف لنا أن نكتشفها ونحن نسير بنفس الجهة المحددة لنا يوميا إلى أن يدركنا الموت؟ وقفت في الشارع أنتظر “باصاً” لأذهب إلى البيت ونفسي تنازعني بمللها حين تتوق لجهة أخرى، أثناء انتظاري كان اتصال صديقتي تطلب مني أن أرافقها إلى “بني حُشيش” وهي من ضواحي صنعاء، أدركت حينها أن نفسي تواصلت لتلك الجهة فعزمت أن أذهب معها، كانت دعوة لحضور مناسبة “ولادة” إحدى قريبات جاراتها التي هي من أصل بني حشيش، ويجب أن تلبي ذلك الواجب الاجتماعي الذي كثيراً ما يقام في العائلات الشمالية، صنعاء وما حولها حتى وإن أنجبت الواحدة في كل سنة مرة، الساعة الثالثة عصراً كنا فوق سيارة ازدحم فيها خمس نسوة، المسافة من صنعاء إلى بني حشيش تستغرق الساعة تقريباً، لقد مر وقت طويل لم أحضر فيه مناسبات مثل هذه وخصوصاً في قرية، كان الهواء جديداً والمنطقة تشهد تاريخاً قديماً مازال حاضراً بين تلك الجبال والتلال المحيطة بالقرية، مزارع العنب الممتدة على طول الطريق ونحن متجهون إلى القرية، ولكنها يابسة بسبب الشتاء، يجمع الأهالي أغصان العنب اليابسة لإشعال تناوير الخبز الذي لا يخلو منها بيت، رائحة الإنسان والأرض ممتزجة هنا، دخلنا منزلاً كبيراً مبنياً على تلة صخر، ومتكئا على جبل، استقبلنا عددا من النسوة، مرحبات بسعادة حضورنا، صعدنا الدور الأول كان صالة واسعة جداً، مفروشة بسجاد باهت اللون، لا قطعة أثاث واحدة فيها على الرغم من سعتها، تحتوي على عدد من الغرف المفروشة بمجالس محلية لاستقبال الزوار على نظام الدواوين لجلسات المقايل، لم يكن هناك غرف نوم، غرفة نوم واحدة رأيناها في ذلك الدور ولكنها صغيرة جداً ولا تحتوي إلا على فرش عريض، ودولاب، يبدو أنهم لا يهتمون بالعلاقة الحميمة بين الزوجين بقدر اهتماهم بمجالس الضيوف المتسعة، المزودة بما يحتاجه المقيلون. أدخلونا مطبخهم الواسع، التقليدي، نكهة طعام لذيذة هنا، بيد أنها نفس أنواع الطعام التي نصنعها في المدينة، ولكنه ممتزج بروح الطين والنار المشتعلة من الحطب، وضياء الشمس المتدفقة بسخاء داخل المنزل، وبساطة الأدوات المقدمة فيها، رائحة النعناع المعتقة في اللبن، والخبز الذي لم تعبث به أيدي الخبازين في مخابز المدينة، تأكل منه ولا تشبع من حنين لذته، رائحة القشر« البن» التي أسرتني أطاحت بكل إرهاق هذا اليوم، نساء المنزل كثيرات، الأم وزوجات أولادها، وحفيداتها، كلهن يعشن في هذا المنزل، هذا هو التقليد الذي مازال متبعا عند أكثر العائلات الشمالية، لاوجود لاستقلالية حين يتزوج الولد، يأتي بزوجته لمنزل العائلة، النساء في المنزل يُستهلكن فقط في المطبخ والحمل والولادة، إحدى نساء الأولاد التي أنجبت الآن لديها أربعة من قبل وفي كل مرة تلد، يجب أن تعتلي السرير الخاص بالوالدات يوميا لمدة أربعين يوما، وفي المجلس الخاص الذي يجتمع فيه النساء أيضا يوميا، فهو النشاط الوحيد الذي تقوم به النسوة في العصر، وزوجة الولد الثاني أيضاً حامل ما إن تنتهي الأولى من هذه الطقوس حتى تبدأ الثانية بمتابعة نفس الطقس، وهكذا يبقى المنزل الكبير في حالة عمل متواصل لاستقبال النساء، وكذلك اجتماعات الرجال في المجالس الخاصة بهم في الدور الثاني، في ديوان هو أطول كثيراً من ديوان النساء. جلست وسط النساء الكل يمضغن القات ويثرثرن، وبين أيديهن “السبحات” هي للشكل الذي يبعث روح الوقار بينهن، وحتى لا يغفلن عن ذكر الله، مع كونهن يثرثرن ويتحدثن عن الآخرين، مضغت القات معهن وأنا أحس بنشوة جديدة، أتخيل أن أكون كامرأة مثل أي واحدة منهن، دورها الرئيسي الإنجاب فقط، لا أحمل هماً في رأسي، أو متاعب أخرى في الحياة، أسلوب واحد متبع، لا يكلف عناء متواصلا، وهموماً متراكمة، وقلقا لتوفير أساسيات الحياة، هنا كل شيء ضروري متوفر لهن، المنزل، الأكل والشرب، والزوج والأولاد. المرأة النفساء تعتلي السرير المفروش باللحاف المزركش، والجدار خلفها مسجف على الطريقة التقليدية، عدد من المصاحف المعلقة داخل قطعة من قماش خاصة، خيطت على شكل الحقيبة، والعديد من الصور “المبروزة” لرب العائلة وأولاده، ووسط الجدار فوق رأس النفساء مباشرة صورة للرئيس السابق وهو ما يزال شاباً.. لم يغادر قلوبهم وبيوتهم، حتى الآن، فهم يقولون إنه من ألبسهم الحذاء، وهو المسؤول عن تطورهم، فلا يستحق أحد غيره الرئاسة. هذه هي الحياة الأسرية التي تذوب فيها الذات وتتلاشى في شخص واحد، أنا المالك لأرضي، والمسؤول عن الولادات المتعددة، ولكن بشكل واحد، “البدائية”، لا قلق على الأرض والنوع.. وحين خرجنا قبل الغروب لم يكن أثر للرجال في المنزل كله، أو حتى الصبيان كذلك في الشارع، لا أطفال يلعبون. أعتقد أن مجالس القات قد ابتلعتهم أيضاً، وفي طريق العودة، هبط الظلام، واختفت الجهات، ولكني أعلم أننا كلنا نسير لجهة واحدة، مهما تعددت تلك الجهات، ومهما اكتشفنا من عالم جديد، فليس هناك جديد، ولكنا نحن من نعتقد أن ما نراه لأول مرة جديد.