منذ عشر سنوات ونيف قادتني جولات النزول الميداني إلى محافظات الجمهورية للبحث في شأن المعاقين اليمنيين.. وخلال إحدى رحلاتي تلك اكتشفت والفريق المرافق وجود حالات غريبة من الإعاقة في شرعب الرونة.. حيث وجدنا فيها ظاهرة إعاقة مغايرة.. وبشكل متكرر، وهي ولادة أطفال بدون أطراف، أي انعدام اليدين من الكتف.. نحن هنا مع أحد هؤلاء المعاقين الذين يرسمون لوحة إبداعهم وكفاحهم لنرسلها إلى شباب الوطن من الأصحاء. جاء للحياة.. بدون أطراف أن يولد طفل دون أطراف قد لا يعنيه الأمر شيئاً، لأنه لا يدرك من الأمر شيئاً.. لكن هناك من يشعر لحظتها بالألم.. ويذهب تفكيره نحو المستقبل، متسائلاً في قرارة نفسه كيف سيكون مستقبل ابني أو ابنتي وهي عديمة الأطراف، وهي أسئلة بالتأكيد لن يجد الأهل والوالدان جواباً لها إلا إذا أدركوا أن الله له في كل آية أمر وعمل، من خلاله يتحقق استجلاب نقاء فكر هذا المعاق ليكون السبب الحسن الذي يجعل من الآية عبرة يقتدي بها الناس..وهذا ما كان عليه حال محمد الشرعبي الذي جاء إلى الحياة دون أطراف، فعاش وترعرع في كنف أبويه دون أن يستشعر منهم ما يولّد الإحباط أو اليأس في حياته..بلغ حامد السادسة من العمر، فوجد نفسه متساوياً مع أقرانه أولئك الذين يحملون حقائبهم المدرسية فيذهبون ليتلقوا العلم في مدرسة القرية.. تراقص برقصة الطفولة البريئة أمام والديه طالباً منهم إلحاقه بزملائه، فشعر الأبوان بالسعادة للطلب، وإن كان ما يحيّرهم هو السؤال: كيف له أن يحمل القلم ويتعاطى مع الكراريس المدرسية..؟، لكنهم نفذوا مطلبه وأصبح تلميذا مميزاً في إعاقته وتعامله مع القلم والدفتر، ودون أن يرشده أحد، جعل محمد من أصابع قدمه أنامل تلملم قلمه وتقلب أوراق دفاتره وكتبه، لتصبح لأصابع القدمين مهمات اليدين المبتورتين. يقول محمد: كان والديّ يحمساني ويشجعاني على مواصلة دراستي، ويقولون لي: مستقبلك سيكون أجمل لأنك تتميز على الجميع بما تفعله من أجل دراستك.. لكني في المقابل لا أستطيع تجاوز ذلك الأب التربوي في مدرستي الأساسية، وهو الأستاذ القرادي الذي أخذ بيدي وكان له دور كبير في مواصلة دراستي في القرية، حتى إنني بفعل تشجيعهم لي كنت أتابع كل مدرّسي الحصص اليومية، وأتفاعل مع كل حرف يكتبه المدرسون على السبورة.. فأدوّنها بدفاتري بعد أن أضع القلم بين أصابع قدمي، مستعيناً بأصابع الرجل اليسرى ثم أقلب الصفحات فيها. استثناء و يضيف محمد: درست في مدرسة القرية في شرعب الرونة من الصف الأول الابتدائي إلى الصف الأول الثانوي، لم أشعر بأي فعل يؤلمني طوال تلك الفترة، إلا في امتحانات أول ثانوي عندما عمد مراقبو الامتحانات على سحب أوراق الامتحانات مني بحجة أن الوقت قد انتهى، ولم يقدروا وضعي الاستثنائي كوني أكتب ببطء بإصبع قدمي وتسببوا في رسوبي.. لذا أتمنى من التربية أن تضع معايير استثنائية لمثل حالتنا، نحن المعاقين، حتى لا تصيب هذا المعاق أو ذاك بالإحباط. إحراج وتشجيع بعد رسوبي في أول ثانوي التحقت بمدرسة ثانوية تعز الكبرى بالمدينة، وأعدت أول ثانوي، وحالياً أنا في الصف الثالث الثانوي، قسم علمي.. لقد كانت تجربتي مع ثانوية تعز الكبرى تشعرني في أول أيامي بالإحراج حينما أجد زملائي ينظرون لي باستغراب وأنا أكتب بأصابع قدمي، لكن مع الأيام ذهب هذا الإحراج، ووجدت نفسي مُحاطاً بالجميع وكأني بين أفراد أسرتي، كما أحاطني الأساتذة الكرام ومعهم مدير المدرسة الأستاذ عبدالعزيز سيف برعاية ومعاملة منحتني حب الانتماء للمدرسة بكل ما فيها من زملاء ومعلمين أفاضل.. وشجّعني ذلك على المشاركة في العديد من الأنشطة المدرسية، الرسم، الإذاعة المدرسية. حياة طبيعية وعن حياته الطبيعية والمستقبلية يقول محمد: ليس هناك ما يجعلني عاجزاً في ممارسة حياتي الطبيعية، أنا أتناول الغداء وأغتسل وألبس ملابسي وأمشط شعري مستخدماً قدمي اليسرى.. ولي في الحياة أحلام وأمانٍ في أن أكمل دراستي الجامعية بتخصص هندسة، ويكون لي وظيفة عامة كأي مواطن دون أن أسقط حقي بالاستقرار الاجتماعي وأكون زوجاً وأباً كما هي حياة أي إنسان في هذا العالم. وعن الجهات التي تدعم مشواره الدراسي يقول محمد: تم تسجيلي في صندوق المعاقين وهو الذي مكّنني من مواصلة دراستي في تعز بالثانوية بدعم سنوي بمبلغ خمسين ألف ريال.. صحيح إن المبلغ مع متطلبات الظروف الاقتصادية والمعيشية يسير، لكني أمام حاجتي للدراسة ورغبتي في إكمال مشواري فيها عليّ أن أحتمل الظروف وقساوتها حتى أبلغ الغاية الأجمل التي وعدني فيها أبي وأمي، وإن شاء الله سيعينني على تحقيقها، والشكر لكل من أخذ بيدي وشجعني أسرتي وأساتذتي وزملائي في مدرسة القرية ومدرسة ثانوية تعز الكبرى، ولكم في «صحيفة الجمهورية».