المناداة بالتشظّي في عالم اليوم الذي تتسابق فيه الدول إلى التكتلات التي تضمن بقاءها؛ يُعتبر خطيئة حضارية - إن صحّت التّسمية - فالدول لا تذهب إلى التكتل إلا لعلمها أن الوقوف منفرداً على السّاحة الكونية أصبح صعباً في هذا الزمان.. وهي من أجل ذلك نفضت عنها صراعات الماضي وودّعته إلى غير رجعة لتمد أيديها متشابكة في كيان قوي يضمن لها مكاناً على الخارطة الحديثة. وللنظر إلى القارة الأوروبية سنجد أغلب دولها قد دخلت في حربين عالميتين مدمّرتين قضتا على أكثر من 70 مليون شخص، ناهيك عن الخسائر المادية التي لحقت بتلك الدول التي انقسمت إلى فسطاطين، هذا بخلاف الحروب الجانبية التي دارت بين تلك الدول كحرب السنوات السبع (1756-1763) بين بروسيا والنمسا وحرب المائة عام بين فرنسا وانجلترا ومغامرات نابليون على امتداد الخارطة الأوروبية وغيرها؛ لكن هذه الدول رمت بكل ذلك خلف ظهرها وصنعت السوق الأوروبية المشتركة، البوابة التي ولجت منها إلى الاتحاد الأوروبي الذي يضمُّ اليوم أغلب الدول الأوروبية متنوّعة الأعراق والأديان والثقافات وذات أحقاد تاريخية دفنتها من أجل مصلحة الكيان الجديد. ونجد مشاريع من حولنا وليدة كانت دولها أقرب إلينا؛ أليست تركيا اليوم مشروعاً عملاقاً في ظل «حزب العدالة والتنمية» الذي استطاع أن يراوغ العلمانية الأتاتوركية الصارمة ويدخلها تحت جلبابه الإسلامي غير المعلن..؟! فرجال العدالة والتنمية استفادوا من دروس الماضي في صراعاتهم مع الجيش – حامي حمى العلمانية التركية – منذ رائد الإسلاميين نجم الدين أربكان من خلال أحزاب «الرفاه» و«السعادة» و«الفضيلة» ليرث كل تلك التجارب ويعيها حزب العدالة والتنمية الحالي، ليتوجّه مخاطباً ليس تديُّن الناخب بل مشاكله الاقتصادية التي لا تفرّق بين علماني أو ملتزم، فاستطاع الحزب منذ تسلّمه السلطة في نوفمبر 2002م أن يشطب ستة أصفار من العملة المنهارة ويخفّض التضخّم من 73 % إلى 8 %، وخلال ذلك توجّه إلى الاتحاد الأوروبي الذي غازله كثيراً من أجل ضم تركيا إليه، فراوغ هذا الأخير رغم كل التنازلات التي قدّمتها تركيا، فأدار حزب العدالة والتنمية ظهره لأوروبا ليتوجّه إلى عالمنا العربي الراقد في سباته ليضمّه ضمن مشروعه الحضاري معتمداً على إرث الرجل المريض الذي حكمنا لأربعمائة عام. ومشروع آخر هو إيران التي صنعت ثورتها الإسلامية عام 1979م على النهج الذي ارتضت لنفسها، فبدأت في الانطلاق بقوّة رغم الدوار الذي أصابها إبان الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات عجافاً أنهكت الفريقين، لكن إيران اليوم مشروع آخر يمد أطرافه إلينا ويبدو للعالم عملاقاً قادماً مصمّماً على الدخول إلى النادي النووي دون تصريح، وما أخبار ملفها النووي الذي يتصدّر كل نشرات الأخبار عنّا ببعيد، وإيران بين شدّ وجذب مع الغرب وعلى رأسهم أمريكا، إلى جانب أن إيران اليوم لاعب رئيسي في المنطقة – خصوصاً بعد سقوط بغداد 2003م- ونحن كالمعتاد جزء من مشروعها أيضاً. إننا بسكوتنا هذا المقيت نصبح «عتبة» يترفّع بها كل أصحاب المشاريع الحضارية من حولنا دون أن يكون لنا أي نصيب في نهضة أو تقدّم، بل مجرّد أوراق يلعب بها الكل، وهذا كله لأننا نحن العرب ليس لنا أي مشروع حضاري. ودعوني أتساءل: ما هو مشروعنا الحضاري؛ هذا إن كان لنا مشروع حضاري أصلاً..؟!. أهو القومية العربية التي غربت شمسها بسقوط بغداد، أم الإسلامية المتلفّعة في خمسين ثوب لا ندري أي ثوب نريد، بل أي خطاب ديني مطلوب، فالكل يرفع شعار «الإسلام هو الحل» هكذا دون آليات ولا حلول، أم هي الحلول المستوردة، أم ماذا..؟!. أقول: إذا لم نصنع مشروعنا الحضاري الذي يلاءم العصر الذي نعيشه؛ فسنضيع دوساً وهرساً بين أقدام الكبار أصحاب المشاريع العملاقة، فلا حياة اليوم ولا وجود بلا مشروع يضمن بقاءنا على الخارطة حتى لا نصبح درساً من دروس التاريخ أو عبرة منه وما أكثرها لقوم يعقلون.