« للأسف العلاج مش موجود في الصيدلية التي نتعامل معها» هكذا أجابني مدير مؤسسة رعاية مرضى السرطان الخيرية التي تساهم بنصف القيمة حين يكون الدواء غير متوفر في مركز الأورام الحكومي و ذلك حين قرأ الوصفة المطلوبة لزوجتي .. صعقت و أنا أقرأ في برودة رده لا مبالاة وتعالي المنعم المتفضل .. فقلت له : «طيب وفروه من أي صيدلية أخرى .. أنتم جمعية مهمتها توفير متطلبات المرضى بأي شكل و لا علاقة للمريض بتفاصيل الإجراءات بينكم و بين الصيدليات» أجابني بانزعاج الذي يريد لا يعنيه الأمر : “ نحن نتعامل مع صيدلية واحدة فقط .. و هذا هو نظامنا .. هذه الأشياء المفروض يوفرها مركز الأورام مش احنا “ كان العذر أقبح من الذنب و أعطاني الثقة في القول : « طيب و ما هو الداعي لوجود المؤسسة إذا كان هذا منطقكم .. أنتم هنا لتديروا تبرعات فاعلي الخير لمرضى السرطان لا أن تتحكموا فيها و تستثمروها و تصرفوا اعتمادات ورواتب و ايجارات ليقال انكم مؤسسة تستطيع جمع المزيد من المال .. لماذا لا توفرونه بصورة مستمرة .. لست معنيا بروتينكم و لا بالصيدلية التي تتعاملون معها .. يهمني ان استلم علاجا لمريضي» كان ردي مستفزا جدا مع انه صائب .. فأجاب في برود : « يا أخي ما فيش علاج .. روح اشتريه من اي صيدلية أخرى» شعرت بالإهانة و المذلة و شعرت بأني أشحت في إحدى الجولات .. و قلت و أنا أغادر مكتبه : « هل تعلم أنك مجرد مدير لا يحق لك ان تعيق ايصال خدمة من فاعل خير لمصاب بالسرطان ، و هل تعلم ان مثل هذا المرض قد يطرق بابك إذا أراد الله» ضحك بكل ثقة و قال : « هذا هو النظام المتبع و انا انفذه» فأجبته : «اعذرني لو كتبت عن هذا الأمر » أجابني بلا مبالاة : « اكتب مجلدات ..» أكثر من ستة أشهر ضاعت من عمر الحكومة دون أن نلمس بوادر نية للشروع في وضع برامج تضمن استمرار توفير الحد الأدنى من متطلبات المواطن و احتياجاته الأساسية فضلا عن تحسينها أو تعزيزها أو إعادتها إلى وضعها البائس الذي كانت عليه قبل الثورة .. مركز الأورام و معاناة مرضاه مثال فاضح أعيشه أنا كل يوم و أكتوي بنيران الأسى و الألم كلما زرته مرغما بحكم مرض زوجتي و انعدام البديل و وحشية سوق الأدوية و سادية تجار العلاج الكيميائي .... الخ . قد يقرأ البعض اتخاذي من مأساة مرضى السرطان مع الحكومة أنموذجا للكتابة عن فشل الحكومه أنه مجرد انفعال نابع من موقف شخصي و عاطفي ، و قد يكون شيئاً من هذا صحيحا ، غير أنني أرى أن ثمة ما ينبغي أن يكون قضية رأي عام تملأ صفحات الصحافة وتشعل أقلام المحققين الصحفيين و كتاب الرأي والموقف . ما ينبغي أن تفهمه الحكومة هو أن قضية مرضى السرطان في اليمن ليست قضية سياسية أو مسألة كيدية ليتم وضعها ضمن جدول المسائل العالقة بين طرفي المبادرة، أو تداولها في سوق المزايدات ، أو استثمارها في أرصفة التسول ، أو استخدامها لتجميل وجوه أو لتشويه وجوه ..مركز السرطان الوحيد في اليمن ليس فيه من الاسم الذي تحمله اليافطة المثبته أعلى بوابته سوى زحام المرضى المصابين بهذا الداء ما بين نائمين على أرصفة فنائه البائس مكشوفين تحت الشمس و الغبار أو ملفوفين بين بطانيات مهترئة أو محمولين على أسرة مكسرة و عجلات مهلهلة تسير فوق أرضية حوش غير مرصوفة ، أو مرصوصين في طوابير على جهاز الإشعاع الوحيد في الجمهورية أو عند شباك الصيدلية الوحيدة التي يفترض أنها توفر العلاج المطلوب بالمواصفات المطلوبة، أو متكومين مابين واقف و جالس على بوابات عيادات الأطباء المنهكين الذين يمتلك كل منهم قلبا يتسع لضجيج سوق قات... الخ مما يدمي الفؤاد و يبكي الحجارة الصماء . المشاهد الكثيرة و المؤلمة التي تشكل يوميات واقع مركز الأورام في صنعاء تصلح لأن تكون مادة فيلمية خصبة لعدسات الصحفيين و الحقوقيين المتخصصين في استنهاض الاهتمامات الانسانية و الإحساس الإنساني و لفت أنظار المنظمات الإنسانية التي قد تهتز لتلك المشاهد المبكية التي لم تهز أحدا من المعنيين مباشرة بها من عند أصغر إداري وصولا إلى أعضاء الحكومه المشغولين بتقاسم سلطة هزيلة يتلخص وجودها في رعاية مشاعر الأطراف المتصارعة و بحث سبل إرضاء كل منهم و ضمان ما يكفل له بقاء نفوذه و حصته في هذا الوطن المنهك . لم يكن مرجوا من الحكومة أن تقفز بمركز الأورام في اليمن إلى مصاف المراكز المشابهة في غيره من البلدان التي عند نفس المستوى الاقتصادي ، فهذا من الشطح في الرجاء ، غير أنه كان من الضروري و الحتمي على الحكومة أن تحافظ وتحرص على الاستمرار عند المستوى الردئ والبائس نفسه قبل الثورة على الأقل بنفس الحرص على استمرار توفير احتياجات الوزراء و المسئولين من نفقات بريستيجية وبروتوكولات شكلية و مصروفات نثرية . مركز الأورام يفترض أن يكون معنيا برعاية مرضى السرطان رعاية كاملة تكفي المريض وأهله كلفة حربهم مع السرطان و تحمل عن كاهلهم مشقة العلاج ، لأن مصيبة و فاجعة الاصابة بالمرض وحدها كافية لينشغل بها المريض و يحمل عبئها النفسي و الاجتماعي والجسدي الثقيل و المضني ، لا أن يظل العلاج وهموم توفيره و احتمال روتين و ثقالة الإجراءات هي الشغل الشاغل للمريض الأمر الذي يجعل تأثير العلاج سلبيا و نسبة نجاحه ضئيلة في ظل ظروف نفسية و جسدية و اجتماعية قاسية تصل في أغلب الأحيان الى درجة الإحباط واليأس .. هذا المركز الذي أصبح اليوم من مسئولية الحكومة و وزارة الصحة التابعة له كان قبل الثورة و لشهور عديدة في بدايتها يوفر الذي لابد منه و هو العلاج الكيميائي و ملحقاته للمرضى .. و أما اليوم و بعد أكثر من نصف سنة مرت من عمر الحكومة فإن مركز الأورام لم يعد يوفر الذي لابد منه ليكون هناك علاقة بينه وبين اسمه «مركز الأورام »، ما الذي يجعلنا نسميه بهذا الاسم إذا كان لا يوفر حتى العلاج اللازم والضروري للمرضى الذين حين تنظر إلى زحامهم بداخله يوميا وزحامهم في عواصم بعض الدول العربية و خصوصا القاهرة ، يخيل إليك أن مرض السرطان صفة جينية داخل التركيبة الهرمونية لهذا الشعب أو أنه علامة تميز الشعب اليمني عن غيره .. بل ربما أن هذا أصبح انطباعا لدى الأطباء و الاستشاريين المصريين خصوصاً. المأساة التي يعيشها مرضى السرطان داخل وخارج مركز الأورام كارثة انسانية لا يتحمل مسئوليتها سوى الحكومة ، و جريمة جنائية ومن المهم جدا أن يتم التعاطي معها على هذا الأساس ، قد تكون جريمة انقطاع الكهرباء والماء و النفط وبعض الأمور قابلة لأن تعلقها الحكومة على شماعة النظام السابق وتتهم بقاياه بتخريبها وبإعاقة استمرارها والسيطرة عليها .. غير أن من غير المقبول ولا المستساغ ولا المنطقي أن تبرر الحكومة قطع علاجات و مستلزمات مركز الأورام بهكذا مبررات و لا بغيرها أيضا .. فلا الحرس ولا قبائل الجدعان غيرها يمكن أن تعيق شراء تلك الأدوية و توفيرها .. فالمسألة بعيدة كل البعد عن هذه الحيثيات . صالح و نفوذه لايستطيع الحيلولة دون مناقصة استيراد كمية من الأدوية فرئاسة الوزراء و وزارة الصحة ووزارة المالية بيد باسندوة و ليس بينه و بين تنفيذ أمر كهذا لا قبائل نهم و لا قفار مأرب ولايمكن أن تلقى «خبطة» لتقطع الدورة المستندية والإجرائية لعملية روتينية كهذه . الحقيقة التي لم يتطرق لها أحد أن الحكومة لم تدرج ضمن جدول أعمالها ولا في أولويات اهتماماتهاهذه الجزئية أصلا و كأنه لا يهمهم هؤلاء المرضى الذين أكل المرض أكبادهم و أتى على أموالهم و أرزاقهم و لا حتى بنسبة واحد في الألف من اهتمامهم بصرف مخصصات المشائخ وسداد التزامات بناء جامع جامعة الإيمان وصرف بدلات سفر لحضور مؤتمر الصومال وو و و و الخ . قد لا يصدقني البعض أنني كتبت هذا الموضوع وأنا أضغط بقوة على جراح طرية لعملية في بطني و لم أشعر بمقدار الألم الذي ينبعث منه الا بعد أن أكملت الكتابة .. فالألم الذي تشعر به زوجتي و غيرها من مرضى السرطان أشد بكثير مما نتصوره .. وأعتزم بعون الله ان أجتهد في تناول قضية مرضى السرطان والكتابة عنها و التحقيق في خفاياها ما استطعت .. و أتمنى من كل زملاء الكلمة و رواد الموقف ومحترفي الصحافة أن ينزلوا الى واقع مرضى السرطان و ينقلوه كما هو من غياهب النسيان الى واجهة الاهتمامات الانسانية و ان يضعوه في مقدمة الملفات المطروحة أمام المعنيين .. وان يتم التعاطي مع هذه القضية الإنسانية بعيدا عن الاعتبارات الفئوية او الحزبية الضيقة وبمعزل عن المكايدات و المزايدات السياسية وبتجرد كامل من الانشداد الى ولاءات أو علاقات خاصة او عامة قد تعيق نصرة هؤلاء الذين يحلمون بشيء من الأمان و شيء من العطف .. أسأل من الله أن يصرف هذا الداء عن الجميع بمن فيهم باسندوة و الأخ مدير مؤسسة رعاية مرضى السرطان . - مركز الأورام .. مؤسسة حكومية مهمتها رعاية مرضى السرطان بتمويل حكومي ومساهمات دولية . - مؤسسة رعاية مرضى السرطان – الزبيري بالقرب من جولة كنتكي - هي منظمة خيرية تمولها تبرعات لمرضى السرطان من فاعلي الخير و تدير تلك التبرعات وفق آلية مؤسسية معينة..