قادت نتائج الانتخابات "الإسرائيلية" الكثير من القوى والمعلقين في "إسرائيل" والخارج إلى الاعتقاد بحدوث ما يقترب من الانقلاب في الصورة . فقد أشارت المعطيات الأولية إلى تعادل معسكري اليمين والوسط - يسار حتى بعد نيل معسكر اليمين منفرداً النصف زائداً واحداً . إذ إن الأنظار تركزت حول الرابح والخاسر شكلاً من دون أن تحاول قراءة ما بين السطور وما خلف الواجهة . صحيح أن تغييراً ما قد حدث لكنه ليس بالضبط كما بدا للكثيرين وأن الجوهري في هذا التغيير لا يتعلق بالعلاقة بين اليمين واليسار بقدر ما يتعلق بتغيير معادلات القوة داخل معسكر اليمين ذاته . سارع رئيس الحكومة، زعيم تحالف "الليكود بيتنا"، بنيامين نتنياهو إلى تتويج نفسه فائزاً في الانتخابات . واعتبرت أغلبية المعلقين والقوى المحلية والدولية نتنياهو خاسراً وأن الرابح الفعلي هو زعيم حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد . وربما لهذا السبب لم يقم أي من رؤساء الدول، بمن فيهم الولاياتالمتحدة، بالاتصال بنتنياهو للتهنئة . فالجميع يعتقد أن شيئاً ما قد تغير وأن التغيير هو نحو الأفضل، وإن لم يكن من الواضح بعد مدى وحدود هذه الأفضلية . إذ اعتقد كل من تابع الانتخابات أن نتنياهو كان خاسراً، لكن الجميع اختلف تقريباً حول ما إذا كانت خسارة نتنياهو تعني خسارة اليمين . وينبع الارتباك في بعض جوانب هذه المسألة أصلاً من واقع أن الصحافة العالمية توجت نتنياهو قبل عام ونيف ملكاً على "إسرائيل" . فقد كان في موضع لا تتعرض فيه زعامته لأية مخاطر لا داخل حزبه ولا داخل ائتلافه الحكومي، ولا حتى في الحلبة السياسية عموماً . وتقريباً لم يبرز بين معارضيه، من كل الأحزاب، من شكّل أي خطر ملموس عليه . فلا الجنرال شاؤول موفاز، زعيم "كاديما" الحالي الذي كان الحزب الأكبر في الكنيست السابقة والذي بالكاد اجتاز نسبة الحسم في الانتخابات الحالية، يشكّل خطراً ولا تسيبي ليفني زعيمة "كاديما" السابقة والتي أنشأت "الحركة" . ومن المؤكد أن زعيمة حزب العمل، شيلي يحيموفيتش، التي بدت مذعورة من اليمين فأنكرت على نفسها وحزبها صفة اليسار وغازلت اليمين، لم تمثل أي خطر . وبعد كل هؤلاء كان يصعب جداً على الجميع النظر إلى يائير لبيد وحزبه على أنهم خطر يتهدد الليكود وزعيمه . والواقع أن الأخطار التي هددت نتنياهو في الأعوام الأخيرة، على الأقل وفق إحساسه، تركزت داخل حزبه وداخل ائتلافه الحكومي . فنتنياهو كان مذعوراً من شريكه الأبرز، أفيغدور ليبرمان، ووجد حلا لذلك بالاتحاد مع "إسرائيل بيتنا" في القائمة الجديدة . ونتنياهو كان مذعوراً من اليمين الديني القومي فوصل إلى حد العداء الفاضح لنجم اليمين الصاعد وزعيم "البيت اليهودي"، نفتالي بينت وركز عملياً حملته الانتخابية ضده . وبديهي أن هذا استكمال لإحساسه بالخطر داخل حزبه من أمثال موشي فايغلين المنتمي إلى اليمين الديني القومي أصلاً . ونافس نتنياهو اليمين المتطرف في الهوس الأيديولوجي والسياسي، تشهد على ذلك مواقفه الأخيرة من تعزيز الاستيطان رغم المعارضة الدولية، وصداماته المتواصلة مع الإدارة الأمريكية . لكنه، على ما يبدو أغفل جملة تطورات داخلية وخارجية واضحة . ومن بين أبرز ما جرى الحديث عنه في هذا السياق الأزمة الاقتصادية الداخلية وتراجع مكانة وقوة الطبقة الوسطى التي اضطرت للخروج في تظاهرات متكررة خلال العامين الأخيرين . كما يعزو البعض تراجع مكانة نتنياهو في صفوف اليمين إلى ما أبداه من تردد، حسب تقديرات اليمين، في حربه الأخيرة ضد قطاع غزة . ويذهب البعض إلى أن نتنياهو خسر الطبقة الوسطى بعد أن كان قد خسر الشرائح الاجتماعية الدنيا خصوصاً من الشرقيين لحركة شاس . وباختصار كبير فإن نتنياهو الذي كثيراً ما بث الذعر في صفوف "الإسرائيليين" بحديثه عن المخاطر الأمنية والوجودية وارتكازه إليها وابتعاده عن التسوية أوحى مراراً بإصابته بالذعر من قضايا أقل أهمية وقيمة . وهذا هو الانطباع الذي ساد في الحلبة "الإسرائيلية" منذ إقراره تقديم موعد الانتخابات لزعامة حزبه خشية من منافسة محتملة غير موجودة إلى إطلاقه العنان لمارد الانتخابات العامة المبكرة خوفاً من خسارة لم تكن واردة . ولذلك شهدت استطلاعات الرأي أنه ومنذ إقرار موعد الانتخابات بدأ نتنياهو وقائمته يفقدان ناخبين محتملين بمعدل مقعد كل أسبوع . وهبط نصيب قائمة "الليكود بيتنا"، التي كانت تملك في الكنيست 42 مقعداً، إلى 31 مقعداً فقط . وذهب معلقون إلى القول إنه لو كان موعد الانتخابات أبعد لفقد نتنياهو فرصة رئاسة الحكومة وربما لخسرت كتلته أيضا مكانتها كأكبر كتلة في الكنيست . وفي كل حال، فإن نتنياهو والليكود خسرا وكان الفائز يائير لبيد وحزبه، "يوجد مستقبل" . وقاد هذا الفوز الكثير من المعلقين والخبراء لدراسة الأمر واعتبارها ظاهرة جديدة . ولكن دراسة أعمق تبين أن ليس في الأمر جديداً جوهرياً . ف"يوجد مستقبل" رغم "نضارة" زعيمه هو امتداد لظاهرة قديمة جديدة في "إسرائيل" اسمها أحزاب الوسط . عموماً بين الحين والآخر كانت تبرز أحزاب تقع ما بينهما تدعي الوسطية لكنها كانت عديمة الأثر والنفوذ تقريباً وسرعان ما تضمحل بعد دورة أو اثنتين . وأبرز هذه الأحزاب، الحركة الديمقراطية للتغيير، والتي وفرت الفرصة لانتقال الحكم في "إسرائيل" عملياً لليمين أول مرة عام 1977 . ثم كانت حركة "شينوي"، بزعامة والد يائير لبيد نفسه، وكانت حركة يمينية سياسياً ولكنها معادية للحريديم وعلمانية داخلياً . وقد اضمحلت "شينوي" وغابت تماماً بعد أن كانت قد نالت مقاعد تقترب مما ناله لبيد الابن الآن . وبرز حزب "كاديما" الذي أسسه أرييل شارون بدعوى أنه حزب وسط فلم يبق كقوة في الحياة السياسية "الإسرائيلية" إلا ثلاث ولايات ونال هذه المرة، بزعامة شاؤول موفاز، مقعدان فقط بعد أن جاهد لاجتياز نسبة الحسم . وباختصار لا تدل التجربة التاريخية في الدولة العبرية على إمكانية البناء على أحزاب الوسط، خصوصاً وأن الميل الغالب ينحو بشكل متزايد إلى اليمين . وعدا ذلك فإن مدخل يائير لبيد وحزبه في حملته الانتخابية كان التوجه نحو اليمين . فقد افتتح حملته الانتخابية في المركز الأكاديمي لمستوطنة أرييل قرب نابلس في الضفة الغربية . كما أنه أعلن تمسكه بالكتل الاستيطانية ورفض تقسيم القدس أو التخلي عنها، وهو لا يختلف في موقفه السياسي جوهرياً عن زعيم الليكود . بل أن لبيد أظهر قدراً واضحاً من العنصرية عندما أعلن أنه يعارض فكرة تشكيل كتلة مانعة ضد اليمين، مبرراً ذلك برفض الجلوس إلى حنين الزعبي وهو يقصد رفض الجلوس إلى ممثلي الأقلية العربية . وأياً يكن الحال، فإن ما أظهرته الانتخابات هو أن الجمهور "الإسرائيلي" أراد التوضيح لنتنياهو أنه لا يريده ملكاً وأنه يسعى لتقييده بإجباره على مشاركة آخرين في الحكم من ناحية، وإظهار حدوده . واعتبر كثيرون أن الجمهور أراد فعلياً معاقبة نتنياهو لأكثر من سبب، اجتماعي واقتصادي وسياسي . ومن الواضح أيضاً أن أسلوب نتنياهو التدميري في مهاجمته لنفتالي بينت وحزب "البيت اليهودي" قاد كثيرين للتصويت لهما احتجاجاً، بعد أن اعتبرهما أنهما اليمين الحقيقي . وقاد ذلك أنصار اليمين المعتدل في الليكود إلى محاولة معاقبة نتنياهو بالتصويت ليائير لبيد باعتباره أقرب إلى صورة الليكود الأصلية قبل تطرفه الأخير . ومع ذلك، فإن اليمين الفعلي ازداد قوة في "إسرائيل" إثر الانتخابات الأخيرة، تشهد على ذلك إشارات عدة . وأول هذه الإشارات وجود ما لا يقل عن 38 من معتمري القبعة الدينية في الكنيست الحالية وهو رقم لم يسبق له مثيل . وثاني هذه الإشارات وجود كتلة راسخة مؤيدة للاستيطان تضم ليس فقط أغلبية أعضاء الكنيست من اليمين، وإنما أيضاً جزءاً لا يستهان به من أعضاء الكنيست من أحزاب الوسط أيضاً . وبديهي أن هذا لن يسهل لا على الاتحاد الأوروبي ولا على الإدارة الأمريكية مهمة تغيير وجهة التسوية السياسية مع الفلسطينيين . فالكنيست الحالية أشد تطرفاً، من الناحية الفعلية، وأكثر يمينية مما كانت في أي وقت مضى، ولا يهم هنا إن كان لبيد يعتبر حزبه وسطاً أم لا .