على مدى ثلاثة أرباع قرن ومنذ أن ألف "ج .جي . لوريمر"J .G .Lorimer««، كتابه الكبير عن الخليج، ساد تشويهه المتعمد لتاريخ شبه الجزيرة العربية والخليج ولم يناقشه أو يعترض عليه أحد . ونسي الناس تماماً أن لوريمر كتب كتابه بتكليف من "اللورد كيرزن""Lord Curzon"نائب ملك بريطانيا في الهند الذي عهد إليه أن يكتبه دفاعاً عن تاريخ الاستعمار البريطاني الطويل في الخليج . ولقد كان "لوريمر"موظفاً مدنياً في حكومة الإمبراطورية البريطانية في الهند فلم يكن يتوقع أن يكون باحثاً محايداً في شؤون حكومته . وتعود شهرة كتابه إلى أنه تمكن من الاطلاع على الوثائق المتصلة بالموضوع، لكن العيب في عمله هو أن "لوريمر"لم ينتفع بتلك الميزة كما كان ينبغي، بل إنه استطاع بسلطته المرجعية المستفادة من ذلك الاطلاع أن يعرض الأكاذيب والشائعات على أنها حقائق لا تقبل الجدل . وكانت طريقة تأليفه انتقائية إلى حد بعيد . وتعمد إلى خدمة غرضه بقدر يجعل عمله محرّفاً مشبوهاً . وليس من الصعب أن نفهم السبب وراء الجهد الذي استثمره في ترجمته إلى اللغة العربية، فقد ساعد ذلك الجهد على نشر وجهة النظر الاستعمارية البريطانية . من الغريب أيضاً أن "الدكتور ج .ب . كيلي""Dr .J .B .Kelly"في كتابه "بريطانيا والخليج الفارسي: 1775 - 1880م"وضع "لوريمر"في قائمة المصادر الوثائقية المطبوعة . إن "كيلي"نفسه يعترف قائلاً (1): "إن عدداً من مجموعات الوثائق والملخصات في دائرة الخارجية بحكومة الهند، معظمها وضعه "ج .أ . سالدانها""J .A .Saldanha"جُمعت استعداداً لتأليف القسم التاريخي من القاموس الجغرافي "Gazetteer«، ومع أنها تحوي نخبة كبيرة من الرسائل من سجلات حكومة الهند وحكومة بومبي عن شؤون الخليج فإن بها قدراً كبيراً من الحذف والإغفال، ولا يمكن دائماً الاعتماد على صحتها التاريخية". ومن الصعب أن نوفق بين اعتراف "كيلي"هذا وبين تصنيفه لكتاب "لوريمر"واستعماله له على أنه مصدر وثائقي، لكن كان غرض "كيلي"أن يدعم لا أن يعارض كتاب "لوريمر". ويمكن أن نقول إنه "كان ملكياً أكثر من الملك". وإن تبنيه لوجهة النظر الاستعمارية بلا مناقشة يكاد يفوق ما نجد لدى الموظفين الاستعماريين أنفسهم . فقد ذكر "فرانسيس واردن""Francis Warden"سكرتير حكومة بومبي في مذكرته الشهيرة في سنة 1819م: إن القرصنة لم تكن محلية من بيئة الخليج (2) . أما "كيلي"فيقول بتعميم مطلق: "على مدى القرون اكتسبت قبائل الشاطئ الجنوبي للخليج شهرة بأنهم قراصنة«(3) . وفي رأيي أنه ليس فيما قاله "كيلي"أي قدر من الصدق على الإطلاق، فلقد كان الخليج دائماً هادئاً مسالماً، وكان حلقة اتصال بين الشعوب المقيمة على جانبيه أكثر مما كان حاجزاً يفرقهم . ومع أن "كيلي"يتابع "لوريمر"في تعداد حوادث القرصنة ويكاد ينسبها جميعاً إلى القواسم (دون أن يقدم دليلاً على ذلك) يبدو متردداً بين رأيين متعارضين فهو يؤكد(4): "إلى حد كبير نتج عن أعمال القواسم الجريئة أن ساحل الشمال من الرمس إلى ما وراءها جنوباً أصبح يعرف لدى الأوربيين باسم "ساحل القرصنة«، وإن كان يجب أن يقال في معرض الدفاع عن القواسم إنهم إلى حد كبير قد اكتسبوا تلك السمعة نتيجة لنضالهم المتطاول مع آل بوسعيد حكام مسقط". ومن الغريب أن "كيلي"يؤكد مقاومة القواسم المستمرة لمحاولات حكام مسقط السيطرة عليهم، ومع ذلك يقتبس في نفس اللحظة تقريباً كلام "جون مالكولم""John Malcolm"وهو يروي ملاحظات خادمه الفارسي عن القواسم سنة 1808م، فيقول(5): "إن حرفتهم هي القرصنة، ومسرّتهم في القتل، وهم يزيدون الأمر سوءاً بأن يذكروا لك أتقى الأسباب لما يرتكبون من أعمال الشر والخسة . . وإذا وقعتَ في يدهم أسيراً وعرضت عليهم كل ما تملك لتنقذ حياتك، قالوا: كلا، فالقرآن يحرم نهب الحي ولكنه لا يحرم علينا أن نسلب الميت ما معه . وإذ يقولون ذلك يدقون رأسك! ولكن ماذا تقول؟ إن العيب لا يقع كله عليهم، فهم إنما انحدروا من نسل غول أو وحش". وفي رأي "كيلي"إن القواسم ليسوا وحدهم الخارجين عن العادة، بل إن الموقف كله في الخليج، وخصوصاً في أمر القرصنة، يفوق التفسير، وهكذا يجادل قائلاً(6): "يُظن عموماً أن من آثار القرصنة إضعاف التجارة، لكن لم يكن الحال هكذا في الخليج قبل سنة 1820م . كذلك لا تنطبق اللازمة الطبيعية لهذا بعد سنة 1820م . فإنقاص القرصنة لم يتبعه انتعاش التجارة . ولعل العلاقة التي تقوم بين القرصنة والتجار-كتلك التي قامت بين القواسم وآل خليفة قبل سنة 1820م- قد عملت على استثناء الخليج من القوانين الطبيعية للتجارة". هذا النوع من التفسير إنما يساعد على تأكيد سوء الفهم تماماً لتاريخ المنطقة والعوامل التي كانت تعمل فيها . إن أهل الخليج بشر عاديون لهم طموحاتهم البشرية العادية، وكانوا رغم فقرهم مهرة . لقد كانوا قوماً ذوي نشاطات إنسانية طبيعية في تجارة خاصة مارسوها آلاف السنين . وكان العامل الوحيد غير الطبيعي هو دخول قوم أجانب عليهم هدفهم السيطرة والاستغلال . وكان أولئك الداخلون المتطفلون هم قوات الاستعمار البريطاني الذين علموا جيداً - وكثيراً ما شهدوا - أن أهل الخليج المحليين لم يهتموا إلا بالممارسة السلمية لأعمال صيد اللؤلؤ والتجارة . وقد تمكن المدافعون عن الاستعمار البريطاني من نشر القول بأن قرب نهاية القرن الثامن عشر وفي العقدين الأولين من القرن التاسع عشر كان عرب الخليج - ولاسيما القواسم - منهمكين بحماس في منهج قرصنة ضخم ضد التجارة الدولية لا في الخليج فقط، بل في البحر الأحمر، والخليج العربي والمحيط الهندي . ويجادل المدافعون عن الاستعمار بأن ذلك التغير المفاجئ في سلوك العرب حدث لأن "القراصنة"استمدوا العون والتأييد من القوة السعودية المتصاعدة التي اعتنق عرب الخليج - وخصوصاً القواسم - مذهبها بحماس . والمؤيدون لهذه الحجة يريدون منا أن نؤمن بأنه لم ينقذ عرب الخليج من تلك المهنة الشنيعة إلا الجهود الخيّرة لشركة الهند الشرقية البريطانية التي كان تدخلها في الخليج لهدف وحيد هو الحفاظ على القانون والنظام! وسيطرة بريطانيا على الخليج التي نتجت عن ذلك ودامت قرابة قرن ونصف من الزمان إنما كانت مسؤولية ألقيت على كاهل بريطانيا على كره منها تقريباً! أما رأيي فهو أن شركة الهند الشرقية كانت مصممة على أن تزيد حصتها من تجارة الخليج بكل الوسائل الممكنة، وأي زيادة في نصيب الشركة إنما تكون على حساب المواطنين من عرب الخليج: العتوب والعمانيين والقواسم . وقد استطاع العتوب في أعلى الخليج أن يقيموا تجارة مزدهرة مع الهند مباشرة، متجنبين تماماً عرب أسفل الخليج: القواسم والعمانيين . أما العمانيون فقد أرادوا أن يجعلوا من أنفسهم القوة العربية المسيطرة في الخليج، لكن محاولاتهم لتدمير العتوب واحتلال قاعدتهم في البحرين باءت بالفشل، ولم تكن لديهم القوة البحرية الكافية لتحطيم القواسم . وقد أغراهم هذا بمحاولة التحالف مع البريطانيين ضد القواسم . أما البريطانيون أي الشركة فكانوا على استعداد لأن يسايروا ذاك التحالف لكن بلا حماس، بالرغم من جهود "ديفيد سيتون""David Seaton" المقيم البريطاني في مسقط لإقناع رؤسائه بمزايا تلك السياسة . وتبين لحكومة الشركة في بومبي أن المعارضة الحقيقية لخططها في الخليج ستجيء من القواسم، لكن الحكومة كانت تعلم أيضاً أنها لا تملك السفن الحربية الكافية لهزيمة أسطول القواسم القوي . وقد لا يكون العون الذي يستطيع أن يقدمه العمانيون كبيراً، لكن المؤكد أنه لا ضير من استعمال مسقط ضد رأس الخيمة، على الأقل إلى أن تتمكن الشركة من حشد القوة الكافية للتغلب على القواسم . ولتحقيق ذلك الهدف لزم حشد دوائر صنع القرار في حكومة بومبي وحكومة الهند بل وحكومة الإمبراطورية نفسها ضد العدو . ولهذا شن موظفو الشركة حملة جماعية منسقة لعرض صورة القواسم أو بالأحرى تشويه صورة القواسم - وكأنهم قراصنة تشكل أعمالهم في القرصنة والنهب تهديداً خطيراً لجميع النشاطات البحرية في المحيط الهندي، والمياه المجاورة . وأي بلية وقعت لأي سفينة عزوها على نحو بارز إلى قراصنة القواسم . وعلى هذا النحو تم تدبير استراتيجية "الأكذوبة الكبرى". وبين عشية وضحاها أصبحت كلمة "القواسم"مرادفة لكلمة "قراصنة«، بل إن بلاد القواسم صارت تسمى "ساحل القراصنة"بدلاً من "الساحل العربي«، أو بدلاً من "الصير"- وهو الإسم الأقل استعمالاً، وأصبح القتال ضد القراصنة هتاف المعركة، وإذا لم تقع حوادث اخترعت حوادث ونسبت إلى أولئك "القراصنة"المتخيلين . ولقد قال "فيليب فرانسيس""Philip Francis"عضو البرلمان البريطاني في ذلك الوقت في مناقشة في مجلس العموم عن شؤون الشركة: "كلما وجد الحاكم العام والمجلس ميلاً في أنفسهم إلى شن حرب على جيرانهم استطاعوا في كل وقت أن يلفقوا حجة تناسب غرضهم«(7) . ينطبق ذلك القول على القواسم، فبعدما وقع "جون مالكولم"اتفاقية مع السيد سلطان بن أحمد إمام عمان في شهر يناير سنة 1800م، وفي نفس الوقت اتفاقية أخرى مع إيران، حينها أطلق مشروعه بإقامة قاعدة تجارية بريطانية في الخليج، وكان قد وقع اختياره على جزيرة خرج، فقرر أن يشنّ حملة يحتل بها تلك الجزيرة لإقامة قاعدته، ثم تحوّل رأيه إلى جزيرة قشم . لكن جزيرة قشم بها قاعدة للقواسم، وقبالتها لنجة قاعدة أخرى للقواسم، فلابد إذن من تحطيم قوة القواسم في رأس الخيمة . ولإيجاد مبرر لذلك، قامت شركة الهند الشرقية البريطانية بإشاعة مسألة القرصنة في الخليج . وفي شهر نوفمبر سنة 1809م بدأت القوات البريطانية بحرق سفن القواسم وتحطيم قوتهم . وفي شهر يناير سنة 1810م استقبل "جون مالكولم"تلك الحملة على جزيرة قشم وأقام قاعدته .(8) وأخيراً، في سنة 1820م خلقوا في الخليج وضعاً لم يختلف عن حرب السويس سنة 1956م، ولعل الفارق الوحيد بينهما أن عملية الخليج حطمت القواسم . إن وصف القواسم بأنهم قراصنة ظلم أُوقع عليهم، وربما أمكن فهمه في ظروف ذلك الوقت، أما أن يصبح هذا الوصف الكاذب حقيقة مقبولة يروجها المؤرخون وينشرونها فذلك يعطي صورة مؤسفة لا تشرف مستوى البحث في تاريخ الخليج . ولعل أقل الباحثين جرماً في هذا المضمار هو "س .ر .لو""C .R .Low"مؤلف كتاب "تاريخ البحرية الهندية"الذي نشر سنة 1877م في قمة الاستعمار البريطاني، لتمجيده والاحتفال بانتصارات قواته . وينتسب "لوريمر"أساساً إلى هذه المدرسة نفسها، وهو قد استنسخ قدراً كبيراً من الحكايات الخيالية من كتاب "لو". ولم يكن "تشارلز بلجريف""Charles Belgrave«، أثناء إقامته في البحرين لما يقرب من ثلاثين سنة، شخصاً محبوباً في الخليج . وكتابه "ساحل القراصنة"لم يدعم سمعته ولا مصداقيته في الخليج . ومع أن المرء لا يستطيع أن يتهمه بالانتحال والسرقة، فإن كتابه قد بني إلى حد كبير على مذكرات كابتن "فرانسيس لوخ""Francis Loch«، وهو من أشد ضباط البحرية طيشاً وتهوراً في الخليج سنة 1819م، مع قدر كبير أخذه "بلجريف"اعتباطاً من كتاب "لوريمر". ومما يزيد في الخلط أن "بلجريف"أضاف ملاحظاته المغرضة المتحيزة تلك . وقد وضع المقدم "ه . مويس . بارتليت""H .Moyse Barlett"لكتابه عنواناً مضللاً هو "قراصنة عمان المتصالحة". وفي هذا الكتاب حصر المؤلف نفسه في مسألة ثانوية هي عمل ومحاكمة كابتن "ت . تومسون""T .Tompson«، الذي قام حقه الرئيسي في الشهرة على الخطأ الأحمق الذي ارتكبه في الحملة على آل بو علي سنة 1820م، وحتى في هذا النطاق المحدود لا يضيف الكتاب شيئاً ذا بال لمعلوماتنا عن الموضوع . ودراسة "دونالد هولي""Donald Hawley"بعنوان "الإمارات المتصالحة"تبعها عدد من الكتب، كان إسهامها الرئيسي هو تلخيص ما كُتب من قبل عن دول الخليج، وعلى الأخص ما كتبه "لوريمر"و"كيلي". وتهدف دراستنا هذه إلى تقديم تفسير أكثر موضوعية ومنطقية للتطورات التي حدثت في الخليج في العقدين الأولين من القرن التاسع عشر، وتلك التطورات التي وطدت لبريطانيا في الخليج وجعلتها القوة المسيطرة فيه، ودام ذلك الوضع مائة وخمسين سنة، وكان السمة الرئيسية لتاريخ الخليج حتى وقت قريب . هذا النص هو مقدمة كتاب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي المعنون: القواسم والعدوان البريطاني (1797 -1820م)، منشورات القاسمي، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2012م . Lorimer, J * . G . Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia, (2 Vols ., Calcutta, 1908-15) . ** ج .جي . لوريمر: دليل الخليج الفارسي وعمان ووسط الجزيرة العربية (في جزأين، كالكوتا (1908-1915) .