جاء الأسبوع الرابع من عملية "القط المتوحش" (التدخل العسكري في مالي)، حاملاً معه العديد من المعطيات، وفاتحاً نوافذ مظللة على مخططات طرفي الحرب . فقد حل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في أول زيارة لمالي منذ التدخل العسكري، وتنقل بين ثلاث مدن في الشمال والوسط والجنوب، قبل أن يلقي "خطاب باماكو" الذي حدد من خلاله محاور أبرزها أن القوات الفرنسية باقية إلى حين بسط السيطرة على كافة الأراضي المالية، وأن القوات الإفريقية ستحل محل القوات الفرنسية، مشدداً على أن فرنسا لن "تنزلق" في مالي لأن انسحاب القوات الفرنسية مقرر، ولا "يوجد أي خطر للانزلاق لأننا نحظى بدعم السكان، ولأن الأفارقة موجودون هنا، ولأن الأوروبيين موجودون، ولأن المجتمع الدولي موحد في مواقفه من مالي"، وفق تعبيره . فهم من تصريحات هولاند في هذا المجال أن الفرنسيين خططوا بطريقة التزلج فوق الطين، إن جاز التعبير، أو أنهم وضعوا خططهم على أساس تجنب الحرب الطويلة والخسائر البشرية، مستفيدين من عاملين مهمين: الأول تجارب الحروب ضد الإرهاب في مناطق أخرى، والثاني خبرة الفرنسيين بالمنطقة بشرياً وجغرافياً، وقدرتهم على إدارة الصراعات المحلية في القارة الإفريقية . ولعل نجاح الفرنسيين في كسب عشر دول إفريقية إلى المشاركة بقواتها في الحرب، ثم لتولي المسؤولية الميدانية مستقبلاً، وخاصة المعارك البرية، يضفي طابعاً محلياً أكثر على العملية، حيث سيواجه مقاتلو تحالف الجماعات الإسلامية قوات دول المنطقة على الأرض، عكس التدخل في العراق وأفغانستان، حيث لم يظهر من "الكأس" إلا جانبها الغربي، كما أن حجم القوات الإفريقية التي سيصل عددها إلى 6500 عسكري، يخضعون حالياً لتدريبات مكثفة على حرب العصابات ومواجهة الجماعات الإرهابية، عامل مهم في مواجهة تدور على مساحة واسعة، وإن كانت المعارك ستنحصر أساساً على حدود أقل من 10%، في أقصى الشمال المالي الذي يتمتع بجغرافيا وعرة . وأكد هولاند أن القوات الفرنسية استطاعت صد الإرهاب وطرده لكنه "لم يهزم بعد"، معلناً أن عمل فرنسا في هذا البلد "لم ينته" . ومن الواضح أن الفرنسيين أخذوا في الاعتبار أن تحرير المدن وانسحاب الجماعات الإسلامية إلى معاقلها في الشمال لا يمثل سوى مرحلة، بينما تبقى المرحلة الأهم هي البحث عن آلاف المقاتلين المتشددين، الذين انسحبوا بأغلب ترسانتهم العسكرية الكبيرة إلى معاقلهم واختفوا في أدغال الصحراء كالأشباح . وتشير تحليلات الخبراء إلى أن خطة تحالف الجماعات الإسلامية (أنصار الدين، الجهاد والتوحيد، والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) تقوم على انتظار اكتمال وصول القوت الإفريقية وأخذ مواقعها على الأرض ومن ثم تقييم الوضع ومعرفة نقاط ضعف هذه القوات، ومنح الوقت الكافي لإرهاقها نفسياً وبدنياً، قبل بدء حرب العصابات التي توعدت بها الجماعات الإسلامية، وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي إلى التصريح بأن الإرهاب لم يهزم بعد، إذ ما دام آلاف المقاتلين المتشددين متحصنين في الجبال والمغارات، ومختلطين بالسكان فلا معنى للاحتفال المبكر، خاصة أن هذه أول عملية عسكرية شاملة ذات طابع إقليمي ودولي في القارة الإفريقية ضد الإرهاب الذي استشرى خلال العشرية الأخيرة في منطقة الساحل . الرئيس الفرنسي حدد بوضوح أن بلاده لا تنوي البقاء في مالي "لأن الدول الإفريقية ستقوم بالعمل الذي كانت القوات الفرنسية تقوم به حتى الآن"، وإذا كانت هذه رسالة للداخل الفرنسي، فإن معلومات "الخليج" تؤكد أن فرنسا ستستمر في دور التغطية الجوية، والإسناد عبر القوات الخاصة، فضلاً عن الجانب التقني والاستخباراتي والتخطيطي لحين بلوغ العملية أهدافها النهائية المتمثلة في تحرير كامل التراب المالي من الإرهابيين، أو على الأقل تحصين الدولة المالية من الانهيار الذي وقفت على شفيره قبل الحادي عشر من يناير الماضي حين كاد الجنوب يسقط تحت زحف الإسلاميين . ولعل واحداً من أبرز أهداف زيارة الرئيس الفرنسي لباماكو هو إبلاغ رسالة واضحة إلى "فرقاء الجنوب"، المتنازعين على السلطة والنفوذ، ومفادها أنه لا بد من إجراء مصالحة بين جنوب وشمال مالي عبر مفاوضات مع الحركات الأزوادية غير الجهادية، من أجل إيجاد حل سياسي لمشكل الشمال الذي يسكنه العرب والطوارق وتتنازعه دعوات الانفصال والحكم الذاتي منذ عقود . وقد عملت فرنسا على تأمين موطئ قدم "للجبهة الوطنية لتحرير أزواد" و"الجبهة الإسلامية في أزواد" المنشقة عن "أنصار الدين"، حيث تركت السيطرة على "كيدال" أقصى المدن الكبيرة في الشمال، للحركتين، واكتفت القوات الفرنسية بوجود رمزي في المدينة ومطارها، وباشرت مفاوضات مع وجهاء وشيوخ قبائل المنطقة، كما قبلت بشروط الطوارق والعرب بدخول فرقة من الجيش المالي على أن يكون كل أفرادها من العرب والطوارق . ويمكن القول إن "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد" العلمانية باتت شريكاً في العملية العسكرية ضد الإسلاميين، وبدأت قواتها التخطيط للسيطرة على مدن "تساليت" و"آغلهوك" الوعرة . ويرجح أن المفاوضات بين الحكومة المالية وممثلي سكان الشمال ستبدأ في وقت لاحق للبحث عن حل سياسي سيكون هذه المرة بدعم وبضمانات إقليمية ودولية واسعة . فيما يلاحظ محلل سياسي موريتاني أن إعمار الشمال وخطة تنميته لم تطرح بعد، ويبدو أنها لا تمثل حالياً أولوية في وقت لم يحسم فيه بشكل واضح تمويل القوات الإفريقية، ولا المدى الذي سيأخذه المسار النهائي للحرب، ولا قضية اللاجئين (نصف مليون)، فضلاً عن ملف السلطة الانتقالية في مالي منذ انقلاب النقيب "سونوغو" . يجمع المحللون الإستراتيجيون على أن التدخل العسكري في مالي حشد أكثر من المتوقع، أي 10 آلاف عسكري (6500 من 10 دول إفريقية، و3500 من فرنسا) فضلاً عن بدء إعداد الجيش المالي وتدريبه . ويمثل هذا الحشد العسكري قوة ضاربة مدعومة دولياً بالمعدات اللوجستية والاستخباراتية، ووضع تحت تصرفها مجموعة من أفضل خبراء إدارة وتخطيط الحروب، والمدربين من أمريكا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، مع تنسيق شبه كامل مع الجزائر والمغرب وموريتانيا ودول الجوار، كما تتواجد على الأراضي المالية وحدات من القوات الخاصة من دول غربية للإسناد، كذلك مشروع "الصحوات" الذي بدأته فرنساوالجزائر وموريتانيا في شمال مالي عبر كسب العلمانيين الطوارق والعرب المسلحين ومحاولات كسب "المعتدلين" من الإسلاميين المسلحين الذين ينتمون لأبناء إقليم أزواد . وفيما لم تطلق القوت الإفريقية حتى الآن رصاصة واحدة، واتخذت مواقعها في الوسط (محور سفاري)، و"غاو" (شمال) وباتت أغلب الأراضي المالية تحت السيطرة، فإن هؤلاء المحللين يجزمون أن المعركة الحقيقية لاتزال في مواجهة الجماعات الإسلامية التي تملك 3 آلاف مقاتل على أقل تقدير، وقد تخرج من معاقلها في الشمال وتعود للقتال بترسانتها المخبأة، وأسلوب حرب الاستنزاف، وهو ما يخشى هؤلاء الخبراء أن يؤدي إلى مفاجآت في "النسخة الإفريقية من الحرب على القاعدة" . وهكذا فإن دخول القوات البرية إلى معركة الجبال هو العنصر الحاسم بالنسبة للعملية العسكرية في مالي وهي المرحلة الأخطر توقعاً بالنسبة للخسائر البشرية، بل هي ما يحدد أمد هذه الحرب . إلا أن معلومات حصلت عليها "الخليج" من مصادر عالية الدقة والاطلاع، تشير إلى أنه من الممكن أن تحصل مفاجأة في هذا المجال، إذا نجحت الجهود الدبلوماسية السرية لفرنسا في عزل كامل إسلاميي "أزواد" عن "الفرع المغاربي للقاعدة" . وأكدت هذه المصادر أن جهات فرنسية تجري مفاوضات سرية عبر وسطاء من شمال مالي مع بعض القادة الميدانيين لحركة "أنصار الدين" بهدف استمالة الحركة إلى الحل السلمي وعزلها عن القاعدة . فيما حققت المرحلة الأولى من التدخل العسكري في مالي نجاحاً واضحاً في الميدان، بتحرير أغلب مناطق البلاد من المتطرفين المسلحين، وفيما تتواصل التعبئة والحشد العسكري للمرحلة الثانية الحاسمة، تصاعد ملف حقوق الإنسان في شمال مالي مع استمرار الانتهاكات ضد العرب والطوارق، التي يقوم بها الجيش المالي في المناطق التي استعاد السيطرة عليها . وسجلت منظمات حقوق الإنسان المالية والدولية انتهاكات ضد العرب والطوارق جنوب ووسط وشمال البلاد، شملت القتل بالرصاص، والذبح، ودفن الجثث في الآبار، ونهب الممتلكات ودهم البيوت، وذلك للأسبوع الثالث على التوالي . وواصل المجتمع الدولي ضغطه على الجيش المالي من أجل وقف هذه الانتهاكات، فيما حذرت فرنساوأمريكا والأمم المتحدة من تصفية عرقية . ويروي الفارون اللاجئون إلى دول الجوار روايات مروعة عن الانتهاكات التي يتعرض لها عرب وطوارق مالي، المرتبطون عرقياً، بالجماعات الإسلامية المسلحة . ويخشى من أن الجيش المالي أراد الانتقام من أبناء إقليم "أزواد" رداً على الهزيمة المشينة التي تعرض لها إبان اكتساح المتمردين الطوارق للشمال السنة الماضية . ويقول كاتب موريتاني مطلع إن الجيش المالي بهذه الانتهاكات يكاد يفسد فرحة الماليين والعالم أجمع بتحرير مدن الشمال المالي من سيطرة الجماعات المسلحة .