مع الأسبوع الخامس لعملية "القط المتوحش" (التدخل العسكري الفرنسي والإفريقي في مالي)، تلوح منعطفات متعددة في الأفق، فبالنسبة إلى القوات الدولية بدأت معركة الحسم الأخيرة، وبالنسبة إلى تحالف الجماعات الإسلامية المسلحة بدأت حرب الاستنزاف، وبين هذين المنعطفين يسارع المجتمع الدولي لتدعيم المكاسب التي حققها التدخل العسكري على الأرض، عبر الدعم العسكري للحرب، والدعم الموجه للمصالحة المالية وتوفير الاستقرار . لنبدأ بالميدان، ففي الأسبوع الخامس باتت القوات الفرنسية والإفريقية منتشرة على أكثر من 98% من الأراضي المالية، (الجهاديون كانوا يسيطرون على 65% عند بداية التدخل) . وقد تواصل زحف القوات الفرنسية والمالية والإفريقية إلى مدن وبلدات الشمال المالي، وها هي تدخل أولى المناطق الوعرة في "تسليت" و"أغلهوك" و"منكا"، أي الحزام الذي كان يؤمن حصون الجماعات الإسلامية في سلسلة جبال "إفوغاس" الوعرة، وهي الجبال التي وضع فيها الفرع المغاربي للقاعدة منذ عشر سنوات ثقل "بنتيه التحتية" من مخازن ومؤمن ومراكز تدريب، كما أنها المقر الرئيس لأمراء كتائب التنظيمات الإسلامية . ويعد تحرير هذه المنطقة من تحالف الإسلاميين عامل الحسم الرئيس في معركة تحرير مالي من الإرهاب، بل إن هذه المنطقة كانت تعتبر "مرجعية" لجهاديي الساحل خاصة من ناحية التدريب والتموين على حرب العصابات قبل توجه هؤلاء إلى مناطق أخرى كالعراق . كما أنها المنطقة التي تدر المال على الفرع المغاربي للقاعدة عبر تجارة الرهائن الغربيين، ورعاية شبكات التهريب الإقليمية . فمن من جبال "إفوغاس" تم تبييض أموال المخدرات والفدى والسلاح المهرب . اقتحام هذه المنطقة تطلب حتى الآن الكثير من الإعداد والترتيبات، فقد باشرت قوات الصاعقة الفرنسية إنزالات عبر الجو للمئات من عناصرها الذين أوكلت إليهم مهمة تأمين مداخل المنطقة، ورصد مخازن السلاح والمؤن عبر أجهزة خاصة وإرشاد الطيران الحربي الفرنسي، تمهيداً لاكتمال تحضيرات الهجوم البري . ومنذ السيطرة على "تساليت" التي ستكون نقطة انطلاق الهجوم البري، والحشد الفرنسي والمالي والإفريقي يتواصل، وقدرت مصادر مطلعة ل"الخليج" انطلاقة الهجوم بحشد لا يقل عن 4 آلاف عسكري مدعومين بالطائرات والمروحيات، فضلاً عن قوات "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد"، التي استبقت القوات الدولية لهذه المنطقة نظراً لخبرتها بالأرض وطبيعة السكان . وكانت جبهة أزواد العلمانية، (طوارق وعرب) قد لعبت دور الاستطلاع والدليل في أقصى الشمال المالي بعد تفاهم مع الجانب الفرنسي يرجح من خلالها أن تكون الجبهة المحاور الرئيس للحكومة المالية في مفاوضات السلام المرتقبة . ويتكتم الجانب الفرنسي بشدة على كل ما يتعلق بمعركة أقصى الشمال الحاسمة نظراً لحساسية المعلومات في هذا المجال، وخطورة المرحلة التي تستهدف القوة الرئيسة للجماعات المسلحة، وخاصة أمراءها الذين اكتسبوا خبرة كبيرة في حرب العصابات . ومهدت القوات الفرنسية لهذه العملية بإعطاء الوقت الكافي للجزائر وموريتانيا لإحكام إغلاق حدودهما البرية، حيث أنهى الجيشان خلال الأيام الماضية أكبر حشد عسكري من نوعه على حدودهما المشتركة مع مالي (3400 كلم)، إلا أن معلومات أخرى تفيد بإسناد دور "حماية" من منطقة "غابة وقادو" شمال مالي (التي تمتد 80 في عرض 40 كلم)، إلى وحدات من القوات الموريتانية، باعتبار تلك الغابة خطراً محتملاً على القوات المتقدمة نحو الشمال، ونظراً للدخول المتكرر للقوات الموريتانية إلى شمال مالي، ومواجهاتها السابقة مع القاعدة في نفس الغابة ومحيطها . إذاً، يرجح أن كل الخطط العسكرية لتحرير "الملاذ الأخير" لأمراء الفرع الصحراوي ل"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" والجماعات الإسلامية المتحالفة معه اكتملت ميدانياً، واقترب موعد التنفيذ، خاصة بعد سحب الوحدات الفرنسية من "تينمبكتو" ونقلها إلى "تساليت" والتحاق القوات التشادية ذات الخبرة المعتبرة في مواجهة حرب العصابات والقوات النيجيرية بالقوات الفرنسية والمالية في "تساليت" . ويؤكد مصدر عسكري في نواكشوط ل"الخليج" أن مجموع القوات التي وصلت حتى مساء الأحد الماضي إلى "تساليت" تجاوز أكثر من 4 آلاف، بينهم 1800 جندي من التشاد، و1100 عسكري فرنسي، فضلاً عن وحدات من الجيش المالي، ومقاتلي الطوارق الذين يلعبون دور الدليل . ويبقى الترقب سيد الموفق في انتظار بدء معركة أقصى الشمال التي يتوقع أن تقدم فيها الجماعات المسلحة أقوى ما لديها من مقاتلين وخطط، هذا إن لم "تتبخر" مرة أخرى من المنطقة وتتحاشى المواجهة المباشرة كما حدث في مدن وسط وشمال مالي خلال الأسابيع الماضية، وإن كان الأمر هذه المرة مختلفاً كلياً نظراً لتضييق الخناق على هذه الجماعات في سلسلة "إفوغاس" وانعدام بديل "جغرافي" واضح، في ظل الطوق الاستخباراتي المضروب على المنطقة، رغم صعوبة ضبط الحدود في الساحل . وخبرة المقاتلين الإسلاميين في طرق التهريب التي تشكل "حبلاً سرياً" للإفلات من الجيوش النظامية . ويستشف من تصريحات القادة الفرنسيين أن القوات الفرنسية تحاول ألا تترك شيئاً للصدفة أو المفاجأة، لذلك لم يؤد نجاح المرحلة الأولى من هذا التدخل العسكري إلى تبديد قلق الفرنسيين من صعوبة مواجهة التنظيمات العقائدية الإرهابية، وهكذا لجأت هذه القوات إلى تحصين مواقعها حد "المبالغة" ومباشرة عملية شاقة ومعقدة لكشف المخازن السرية للمسلحين الإسلاميين، في مناطق الشمال وضواحي المدن المحررة، وحتى في المخابئ الصحراوية، فضلاً عن تعزيز الدور الاستخباراتي الهادف إلى منع الإسلاميين من غطاء اجتماعي فاعل . حرب استنزاف أما على مستوى المنعطف الثاني، فقد أعلنت الجماعات الإسلامية عن بدء حرب الاستنزاف، وكان مفاجئاً أن هذه الحرب بدأت من ولاية "غاو" (900 كلم شمال العاصمة باماكو) وهي منطقة متقدمة نسبياً بعد أن تم تحريرها في 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، حيث تم أول تفجير انتحاري، وتم توقيف انتحاريين آخرين، فضلاً عن 6 ضحايا عسكريين ومدنيين ماليين قضوا جراء الألغام . وأعلنت "التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" أنها خلقت "منطقة نزاع جديدة" في منطقة "غاو"، وأنها زرعت الأرض ألغاماً، وجهزت الانتحاريين، وتوعدت بحرب عصابات طويلة الأمد، وفق تعبير أبو الوليد الصحراوي، الناطق باسم الحركة . ويرى محللون أن أخذ "حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" زمام المبادرة في بدء حرب التفجيرات والانتحاريين يعود إلى طبيعة تكوين هذه الجماعة، التي تتألف من مقاتلين أغلبهم من السود ومن دول غرب إفريقيا، ما يجعل تمييزهم عن السكان الأفارقة المحليين أمراً صعباً، فيما يتركز الجهد الأمني على العرب والطوارق . على هذا المنعطف يبقى أيضاً الترقب سيد الموقف، حيث إن مواجهة هذه العمليات قد تكون الأصعب بالنسبة للقوات الدولية، ولا يعرف إلى أي حد ستتمكن الجماعات الإسلامية من ترجمة وعودها بحرب التفجيرات والانتحاريين . ويشير خبير عسري تحدث إلى "الخليج" إلى أن الأحزمة الناسفة التي استخدمتها القاعدة في تفجير مالي وتلك التي ضبطت بحوزة انتحاريين يوم الجمعة الماضي، وقبلها الأحزمة المستخدمة في نواكشوط كانت بدائية، منوها إلى أن الفرع المغربي للقاعدة أخطر أداء في مجال الكمائن والسيارات المفخخة" . ويضيف "من الواضح أن القوات الفرنسية والإفريقية في مالي تتخذ احتياطات هائلة في هذا المجال، وهي مدعومة بأكبر تعاون ثنائي لشبكات الاستخبارات في منطقة الساحل والاستخبارات الغربية"، إلا "أن اندفاع القوات السريع إلى الشمال خلف فراغات أمنية في بعض المناطق، وهو ما بدأت هذه القوات تلافيه بتعزيز تحصيناتها" . تأييد إقليمي مع الأسبوع الخامس لعملية "القط المتوحش"، وما حققته من نجاح عسكري فاجأ الجميع، بطرد الجماعات الإرهابية من أغلب أراضي مالي، وما حازه من دعم سياسي، حيث رأى العديد من النخب الإفريقية أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي هو الأكثر شعبية في تاريخ القارة، ووجد هذا تطابقاً مع رأي رؤساء دول الجوار، حيث أكد الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز أنه لولا التدخل الفرنسي الإفريقي في مالي لسيطرت الجماعات الإرهابية على كامل التراب المالي، مهددة بذلك أمن واستقرار الدول المجاورة" . ويؤكد أن "هذا التدخل مثل أول مبادرة جادة من طرف المجتمع الدولي لمواجهة شبح الإرهاب، وإنهاء أكثر من عشر سنوات من الخطف، والعنف" في منطقة الساحل . كما بدأ المجتمع الدولي التحرك نحو بناء جيش مالي قادر على حماية هذا البلد المترامي الأطراف عبر المدربين والتسليح وإعادة التكوين، بالتوازي مع التخطيط لإجراء الانتخابات لتجاوز المرحلة الانتقالية في سلطة باماكو، إضافة إلى التحضير لحوار المصالحة بين الأغلبية الإفريقية والأقليات (عرب، طوارق)، لتجاوز أزمة الشمال، التي كانت أحد أسباب التمكين للقاعدة في مالي . إفساد فرحة التحرير واصل الجيش المالي إفساد الفرحة بتحرير هذا البلد والتخطيط لاستقراره وإعادة إعماره . فبعد مسلسل الانتهاكات التي قام بها ضد سكان الشمال من عرب وطوارق، وهي الانتهاكات التي تقول "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد"، العلمانية، إنها متواصلة مع اكتشاف المقابر الجماعية، والتقارير عن حالات الخطف والتصفية والنهب والاغتصاب . ها هي وحدات الجيش المالي، هذه المرة، توجه حرابها إلى أبناء الجيش، وسجلت الأسبوع المنصرم مواجهات بين كتائب من الجيش في العاصمة باماكو، ما أدى لصدمة في أوساط الرأي العام المالي والمجتمع الدولي الذي يغامر برجاله وأمواله من أجل إنقاذ البلد من الإرهاب . لقد دفع ذلك الرئيس المالي ديونكوندا تراوري إلى الخروج بخطاب متلفز شديد اللهجة دان فيه "تبادل إطلاق النار الأخوي"، ووجه نداء جديداً من أجل "الوحدة المقدسة التي لا بد منها" بعد استعادة شمال مالي من المجموعات الإسلامية المسلحة . وقال تراوري "أطلب أن توقفوا نهائياً هذه المواجهات المتكررة في داخل الجيش المالي الذي يتعين عليه القيام بكل ما في وسعه لتطهير صفوفه والقيام بواجبه" . وكانت هذه المواجهات قد خلفت 5 ضحايا (قتيلان، و3 جرحى)، وجرت بعد رفض وحدات القبعات الحمراء الأوامر بالتوجه إلى جبهة القتال . إلا أن المعلومات المؤكدة أن هذه الوحدات التي تدين بالولاء للرئيس المطاح آمادو توماني توري، حاولت مرات إطاحة النقيب "سونوغو" الذي قاد الانقلاب على توماني توري نهاية السنة الماضية، وهو الانقلاب الذي سرع انهيار الجيش المالي أمام المتمردين الطوارق . وتكرس مواجهات باماكو خطورة الانقسامات داخل الجيش المالي في وقت حرج بالنسبة لهذا البلد، وبالنسبة للعملية العسكرية الجارية . فيما يرى بعض المتابعين أنها تعكس بلبلة القرار المركزي في الجنوب وتنازع النخبة للنفوذ من جهة ورفض بعض تلك النخبة، وخاصة جناح النقيب "سونوغو"، لملف الانتقال السلمي للسلطة والمصالحة مع سكان الشمال، المدعومة مطالبهم - غير الانفصالية - هذه المرة، من طرف المجتمع الدولي، خاصة بعد أن انخرط مسلحو "أزواد" العلمانيون "جبهتا تحرير أزواد"، إلى جانب التدخل العسكري في مواجهة الجماعات الإرهابية .