نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    نهائي نارى: الترجي والأهلي يتعادلان سلباً في مباراة الذهاب - من سيُتوج بطلاً؟    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل الربيع العربي زوبعة في فنجان أم حدث تاريخي؟
نشر في الجنوب ميديا يوم 10 - 11 - 2012


الفرق بين الحدث العابر والحدث التاريخي
عندما زار الأميرال فيليب ديغول بكين، قال له أحد القادة الصينيين: شخص مثل والدك لا يظهر في التاريخ إلا كل قرن أو قرنين على الأقل.. وعلى هذا المنوال يمكن القول بأن نابليون لا يظهر إلا كل خمسة قرون. وماذا عن الأنبياء وبقية القادة العظام في التاريخ؟ ماذا عن الفلاسفة الكبار الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة أو اليدين: سقراط، أفلاطون،أرسطو، ديكارت، سبينوزا، جان جاك روسو، كانت، هيغل، نيتشه، هيدغر.. وماذا عن أبي العلاء المعري ورسالة الغفران، التي لا مثيل لها في الآداب العربية ولا حتى العالمية، اللهم الا الكوميديا الإلهية لدانتي؟ والأمير عبد القادر الجزائري هل تعتقدون أنه (بتسامحه الجم وحمايته للمسيحيين في دمشق من المجزرة) يتكرر في التاريخ العربي أو الاسلامي كثيرا؟ وماذا عن أستاذه أو قدوته الكبرى ابن عربي؟
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وايماني
من الأحداث الكبرى مثلا في تاريخ العرب والبشرية ظهور الاسلام قبل اربعة عشر قرنا ونيف، وتشكيل حضارة كبرى وامبراطورية مترامية الأطراف.. انه الحدث التاريخي الأعظم بدون أدنى شك. فظهور النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم كان بمثابة النور الوهاج، الذي أضاء سماء الحجاز أولا، فالجزيرة العربية ثانيا، فالعالم كله ثالثا وأخيرا. ولكن انهيار هذه الحضارة قبل ثمانية قرون بعد تكفير المعتزلة والفلاسفة وكبار المتصوفة كالحلاج وابن عربي، هذا ناهيك عن المعري والتوحيدي والدخول في العصور السلجوقية – العثمانية الانحطاطية، يشكل أيضا حدثا خطيرا في تاريخ العرب والبشرية. إنه خطير بالمعنى السلبي للكلمة، ولم نقم منه حتى الآن.
اغلاق باب الاجتهاد أدى الى كل هذا الدمار المعرفي والغوغائية الهمجية التي نشهدها اليوم. نبينا لم يقل بذلك أبدا، وانما حث على الانفتاح والبحث عن العلم حتى ولو في الصين! وليس الذنب ذنبه، إذا كان قومه قد جمدوا وتحجروا وغلّبوا قشور الدين على جوهره الحي الخلاق. ليس الذنب ذنبه إذا كانوا قد قضوا على العصر الذهبي وغطسوا في عصور الانحطاط. وبهذا المعنى يمكن القول بأن انتصار الغزالي وابن تيمية وبقية الفقهاء على الفارابي وابن سينا وابن رشد والمعري وكل المبدعين الكبار، هو أيضا حدث تاريخي ضخم تابع للأول أو مكمل له. لقد كان المؤشر على بداية الدخول في العصور الانحطاطية الطويلة التي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.. فحضارتنا العربية الإسلامية كانت قائمة على دعامتين اثنتين: دعامة الدين الحنيف، ودعامة العلم والفلسفة.
وبما أن الثانية سقطت فإن حضارتنا انطوت وزالت. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. وكذلك الأمر فإن انتصار حسن البنا على طه حسين والعقاد وبقية التنويريين المصريين، هو أيضا حدث تاريخي سلبي ضخم. ونحن الآن ندفع فاتورته. وسيكون حدثا زلزاليا هائلا، إذا ما ظهر رد فعل قوي ضده: أي إذا ما انبثق التفسير التنويري للإسلام يوما ما، إذا ما نجح الإصلاح كما نجح إصلاح المسيحية في أوروبا. إذا ما استطاع الإسلام التنويري أن يتغلب يوما ما على الظلامية فسوف يكون ذلك حدثا كبيرا في تاريخ العرب والعالم. سوف يشع نور العرب والإسلام على العالم مرة أخرى. عندئذ سيصبح ل"الربيع العربي" معنى حقيقي ومضمون تقدمي رائع. عندئذ سيستحق اسم الربيع فعلا.
أمثلة أخرى على الحدث التاريخي
ومن الأحداث التاريخية الكبرى أيضا، نذكر اندلاع حركة الإصلاح الديني في أوروبا على يد مارتن لوثر عام1517. فقد أذهل معاصريه عندئذ وشعروا بأن زلزالا قد حصل ولم يصدقوا أنه قد نجح أصلا. ويمكن أن نضيف إليه عصر النهضة الأوروبية المتزامن معه. وهي نهضة ما كانت ممكنة لولا المعارف العلمية والفلسفية التي قدمها العرب، كما يعترف بذلك عالم الانتربولوجيا الانكليزي الشهير جاك غودي (انظر العدد الخاص الذي أصدرته مجلة النوفيل أوبسرفاتور الفرنسية تحت عنوان: الحضارات الكبرى. عدد يونيو – يوليو 2012. ص.22).
راشد الغنوشي
وبعدئذ يمكن أن نذكر الثورة الفرنسية لعام 1789، كزلزال خطير وكحدث تاريخي كبير ليس فقط على مستوى فرنسا وأوروبا، وإنما أيضا على مستوى العالم ككل. ولا ينبغي أن ننسى ثورة 1848 و"ربيع الشعوب الأوروبية" الذي صفق له فاغنر ولامارتين وبودلير وسواهم من الشعراء والكتاب. ويمكن القول بأن سقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار العالم الشيوعي برمته، كانا أيضا حدثين كبيرين شعرنا بعدهما بأن التاريخ قد تنفس الصعداء لأول مرة، بعد اختناق ايديولوجي ستاليني طويل ومرعب دام سبعين سنة. والتفجير الصاعق لضربة 11 سبتمبر الإجرامية، يمكن اعتباره أيضا حدثا تاريخيا ذا دلالة كبرى. لماذا؟ لأنه كشف بوضوح عن المرض العضال الذي ينخر في أحشاء العالم الإسلامي منذ عدة قرون من دون أن ينتبه اليه الجمهور العام. كما وكشف أيضا بشكل مباشر أو غير مباشر عن مرض الحضارة الرأسمالية الغربية ذاتها، بل وحتى عن هشاشتها على الرغم من مظهرها الجبروتي العملاق.. وهناك بالطبع أحداث تاريخية أخرى عديدة لا نستطيع ذكرها كلها هنا.
فمثلا انتصار العلم الحديث في القرن السابع عشر بفضل كشوفات غاليليو وكيبلر وديكارت وبعدهم نيوتن على العلم القديم الارسطوطاليسي – البطليموسي يعتبر حدثا خطيرا جدا، لأنه ولد كل الحضارة التكنولوجية والعلمية الحديثة. وقل الأمر ذاته عن انتصار التنوير الأوروبي على الأصولية المسيحية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهو حدث مرتبط بالسابق وشكل قطيعة ابيستمولوجية – أي معرفية عميقة – في تاريخ البشرية. ولا ينبغي أن ننسى الحرب العالمية الثانية كحدث خطير مرعب ولّد عالما آخر. وأخيرا يمكن القول بأن نهضة الهند والصين الاقتصادية والتكنولوجية تشكل أكبر حدث تاريخي في عصرنا الراهن.
وحتما سوف تترتب عليها انعكاسات وآثار لا يعلم الا الله مداها. وأولها فقدان الغرب الأوروبي الأميركي لهيمنته المطلقة على العالم منذ أربعة قرون.
الفرق الجوهري بين الثورة الفرنسية وانتفاضات "الربيع العربي"
ولكن هذه الأحداث الكونية الضخمة نادرة في التاريخ. وعموما فإن معاصريها يشعرون بأن شيئا ما قد حصل وقسم التاريخ الى قسمين: ما قبله وما بعده. فهل ينطبق ذلك على ظاهرة "الربيع العربي" يا ترى؟ بصراحة أتردد شخصيا في الاجابة بالايجاب.
ولا يعني ذلك اطلاقا التقليل من أهمية الانتفاضات العربية الجارية حاليا ضد أنظمة الفساد والاستبداد والحزب الواحد، واللغة الخشبية الامتثالية المقيتة. فلا ريب في أنه قد حصل شيء ما مع اندلاع حركات الاحتجاج العربية، لا ريب في أننا شعرنا بنسمة ريح جديدة تهب علينا. لا ريب في أن المجتمع ابتدأ يتحلحل ويتحرك ويتنفس ويدفع ثمن ذلك ضريبة الدم الأحمر القاني. ولكنه أي الربيع العربي ليس على مستوى الأحداث الجسام التي ذكرتها آنفا. والسبب هو أننا لم نشعر بحصول قطيعة كبرى مع الماضي، كما كان يحصل عادة مع الأحداث التاريخية التي ذكرناها.. بل شهدنا العكس تماما: أي العودة الى الماضي! وهذا شيء غريب في الواقع، لأن الثورات تكون عادة بمثابة قطيعة مع الماضي لا عودة اليه. فكيف نفسر هذه الظاهرة يا ترى؟ قبل أن أجيب عن هذا السؤال سوف أقول بأن الانتفاضات العربية على عكس ما توهمنا في البداية أثناء انفجارها في تونس ومصر، لا تشبه الثورات الأوروبية الحديثة كالثورة الإنجليزية والأميركية، ثم بالأخص الثورة الفرنسية. وإنما هي أشبه ما تكون بالثورة الإيرانية التي اندلعت قبل أكثر من ثلاثين عاما.
التجييش المليوني والخروج من الجوامع والتفافها حول شخصية الخميني في الجهة الشيعية، أو حول القرضاوي في الجهة السنية، كل ذلك يشكل علامة لا تخطئ على مدى التشابه بين انتفاضات "الربيع العربي" والثورة الإيرانية عام 1979. ولهذا السبب رحب بها المرشد علي خامنئي وباركها كبقية الأصوليين.
يضاف الى ذلك أن الأحزاب الدينية في كلتا الجهتين اكتسحت الانتخابات اكتساحا وانكشف مدى تقلص الحجم الشعبي للأحزاب الليبرالية الحداثية. والواقع أن هذا الحدث الانتخابي الذي صعق الكثيرين وخيب آمالهم، بل وأخافهم، ما كان ينبغي أن يفاجئ أحدا. فما عدا بعض المدن الشاطئية السياحية المحدّثة، وبعض النخب الثقافية في العواصم العربية، فإن معظم شرائح الشعب ظلت متدينة وتقليدية فقيرة، بل وأمية بنسبة كبيرة. ولذا فإنها تشكل احتياطيا انتخابيا ضخما للإخوان المسلمين والسلفيين. ولا يمكن انتزاعها من براثنهم إلا بعد نجاح التنوير العربي الإسلامي وانتشار نور العلم والمعرفة والفهم الحديث للدين في أعماق هذه الجماهير الغفيرة.
من المعلوم أن الثورة الفرنسية كانت مضادة بعنف لرجال الدين، ولم ترفع صورهم في المظاهرات الحاشدة التي نظمتها في باريس. وإنما رفعت بالأحرى الصور المضادة لهم: أي صور فلاسفة التنوير، وبالأخص جان جاك روسو وفولتير. وهنا يكمن فرق هائل بين الثورة الفرنسية وثوراتنا. فشتان ما بين روسو وفولتير من جهة، والخميني والقرضاوي من جهة أخرى! لا وجه للمقارنة. إنهما قطبان متضادان ورؤيتان مختلفتان للعالم. بل إن رجال الدين المسيحيين اختفوا عن الأنظار، ونزلوا تحت الأرض خوفا من بطش الثوار الذين أسقطوا سجن الباستيل الرهيب.. ومعلوم أنه كان رمزا لسلطة الاستبداد المطلق التي تحالف معها رجال الدين. أما في الجهتين العربية والإيرانية فكانوا – أي رجال الدين – مبجلين معظمين، وقد صلّت وراءهم الجماهير بالملايين في ميدان التحرير بالقاهرة وسواه.
وهنا يكمن فرق جوهري بين الثورة التي دشنت العصور الحديثة (أي الثورة الفرنسية)، وبين انتفاضات "الربيع العربي" التي انتهت بالخريف الإخواني الأصولي. ولكنها مرحلة مؤقتة أو فاصل اعتراضي لن يدوم إلى الأبد. وسوف يزول بعد أن يستنفد طاقاته وامكانياته ومشروعيته التاريخية.
المثقفون العرب والأبله المفيد!
إن هذا الفرق الجوهري يستحق أن نتوقف عنده قليلا. أقول ذلك، وبخاصة أن بعض المثقفين العرب قارن الثورة المصرية بالثورة الفرنسية، بل واعتبرها أعظم منها! بل ووقعت أنا في الفخ إلى حد ما، ثم اعتذرت عن ذلك أكثر من مرة. لماذا كانت الثورة الفرنسية مضادة لرجال الدين، ولماذا كانت الثورات العربية خاضعة لهم، بل وسلمتهم قيادها من خلال انتخابات حرة؟ والأخطر من ذلك لماذا لا أحد من المثقفين العرب يتوقف عند هذا السؤال الأساسي؟.. طبقا لفلسفة التاريخ الهيغلية، فإنه يخرج أحيانا من أعمال البشر شيء آخر غير الذي كانوا يتوخونه. فلا ريب في أن شباب ميدان التحرير كانوا يرغبون في أن تتمخض الثورة عن نظام حكم آخر متحرر من قيود الماضي المرهقة، وبالأخص القيود الدينية التقليدية.
هذا بالإضافة إلى التحرر من نير الاستبداد السياسي بالطبع، وحكم التوريث وفساد العائلة الحاكمة وحاشيتها، الخ.. كل مظاهراتهم المليونية كانت تهدف في البداية الى استهلال عهد الحرية، أو قل إلى تحقيق المزيد من الحرية والانعتاق وتأمين فرص العمل والحياة الكريمة. كانوا يناضلون، على ما أعتقد، من أجل نظام ليبرالي حديث لا نظام أصولي قديم. أقول ذلك وأنا أتحدث عن الشباب والشابات. ولكن الثورة المصرية في 25 يناير تمخضت في نهاية المطاف عن شيء معاكس لتوجهاتها الأولى، شيء لا يخطر على البال: ألا وهو حكم الإخوان والسلفيين! من كان يتوقع ذلك؟ ليس بالتأكيد الشباب المتحمس الغر والساذج.
محمد مرسي
ولكن ينبغي الاعتراف بأن المراقبين المطلعين على حقائق الأمور ما كانوا يستبعدون اطلاقا هذه الاحتمالية. بل كانوا شبه متأكدين منها. نفس الشيء حصل مع بني صدر وبقية المثقفين الليبراليين واليساريين الإيرانيين الذين دعموا الخميني بقوة، فكان أن حذفهم من الساحة ووضع الأصوليين محلهم ما أن وصل إلى سدة السلطة واستتبت له الأمور. وهذا النوع من المثقف اليساري الساذج يُدعى عادة ب"الأبله المفيد".
فالحركات الأصولية الشعبوية تستخدمه عادة كواجهة تزيينية مقبولة من قبل الغرب والطبقات المستنيرة من الشعب قبل أن تتخلص منه لاحقا، بعد أن تنتفي الحاجة اليه. فهل يلعب هذا الدور عن طيبة خاطر أم غصبا عنه؟ في كل الأحوال فإنه أبله مفيد..
هل يعني ذلك أنه لا يوجد أي شيء جديد في "الربيع العربي"؟ سوف يكون من الخطأ الجسيم أن نعتقد ذلك. فقد حرك المستنقع الآسن وكشف عن عورات الأنظمة الحالية المقطوعة عن شعوبها، هذه الأنظمة المتكلسة فكريا والمتحنطة أيديولوجيا وشعاراتيا وكل شيء. إنها أنظمة الحزب الواحد والصحيفة الواحدة واللغة الخشبية المهترئة، التي تردد منذ عقود نفس الكليشيهات عن الوحدة والحرية والاشتراكية والمقاومة والممانعة والصمود والتصدي، وكل هذا الكلام الفارغ الذي فقد مصداقيته ولم يعد يقنع أحدا.
إنها الأنظمة البوليسية الإرهابية التي سيجت المجتمع كله بالأسلاك الشائكة عن طريق أجهزة المخابرات معتقدة أنها بذلك تستطيع الهيمنة على الدولة الى أبد الدهر. وهي لا تترك أي هامش حرية لكي يتنفس المجتمع، فكان أن انفجر كما حصل في بعض البلدان العربية مؤخرا.
يضاف الى ذلك أن "القديم" الذي أعادنا اليه "الربيع العربي" هو بشكل من الأشكال جديد! فمن كثرة ما طمسناه وحاربناه إبان المرحلة الناصرية والبعثية والماركسية الاشتراكية، يبدو الآن جديدا، بل وبراقا جذابا.. و"الممنوع مرغوب" كما يقول المثل وبحق. فنحن كنا قد اعتقدنا بسبب جهلنا وسذاجتنا، أو بسبب ثقافتنا الشعاراتية والديماغوجية التقدمية السطحية، أننا قد تجاوزنا الماضي لأننا أصبحنا ماركسيين وبعثيين وناصريين وحتى ليبراليين.. فإذا بانتفاضات "الربيع العربي" تعيدنا إلى جادة الصواب، وتقول لنا ما معناه: الماضي لم يمض حتى الآن أيها السادة. على العكس أنه حاضر أكثر من أي وقت مضى. بل وإن هذا الماضي التراثي السلفي – الإخواني قد يشكل مستقبلكم لفترة من الزمن لا يعرف الا الله مداها.
هنا تكمن "جدة" "الربيع العربي"، بالاضافة إلى هزّ عروش الاستبداد والحكم الوراثي والطغيان. ثم يقول لنا "الربيع العربي" أيضا: لقد اعتقدتم بإمكانية تجاوز المرحلة التراثية (أو الإخوانية – السلفية) عن طريق القفز فوقها وليس عن طريق مواجهتها وجها لوجه، ودفع ثمن هذه المواجهة، كما فعلت الشعوب المتقدمة في فرنسا وألمانيا وكل أوروبا الغربية على الأقل. وهذه نظرة مراهقة بل وانتهازية ينبغي أن تتخلوا عنها تماما.
لا يمكن تجاوز أي شيء إلا بعد معاركته ودفع ثمن المواجهة عدا ونقدا. وهذا أيضا يشكل أحد قوانين فلسفة التاريخ لهيغل. أعترف، فيما يخصني شخصيا، أني لم أقتنع اطلاقا في حياتي كلها بأننا تجاوزنا المرحلة التراثية لمجرد أننا تبنينا هذه الأحزاب والايديولوجيات السياسية التي تبدو حداثية وتقدمية، وهي بالفعل كذلك في بعض جوانبها. ولكنها حداثة هشة وسطحية أكثر من اللزوم. وبالتالي فيمكن أن تسقط من أول صدمة أو أول مواجهة مع القوى التراثية الماضوية الراسخة. وهذا ما حصل بالفعل في كل الدول التي شهدت ظاهرة "الربيع العربي". كلها اكتُسحت من قبل التنظيمات الإخوانية. يضاف إلى ذلك أن هذه الأحزاب والايديولوجيات التقدمية استهانت أكثر مما ينبغي بأهمية التيار المتدين ومدى تغلغله في أعماق الشعب.
منذ سنوات وسنوات كنت أرى بأم عيني مدى ثقل الماضي وتراكمات الماضي، ومدى تأثيرها على العقول. ولهذا السبب انخرطت في ترجمة محمد أركون المفككة لتراكمات التراث الإسلامي الموروث من الداخل.
هذا من جهة. كما وانخرطت في نقل فكر التنوير الأوروبي المفكك للتراث المسيحي التقليدي من جهة أخرى. لقد اشتغلت على كلتا الجبهتين، وبكل ما أوتيت من قوة، من أجل مواجهة هذه التيارات الشعبوية التي تكاد تكتسح في طريقها كل شيء.. وبالتالي فلم أنتظر انفجار حركات "الربيع العربي" لكي أدرك نوعية المهمة الأساسية المطروحة على عصرنا وحجمها.
حركة التقدم التاريخي:
خطوتان إلى الأمام.. خطوة إلى الخلف!
لا ريب في أن التاريخ يمشي الى الأمام. ولكنه أحيانا مضطر للعودة إلى الوراء لكي يقفز إلى الأمام. لماذا؟ لكي يلتقط أنفاسه أولا، ثم لكي يصفي حساباته التاريخية مع نفسه ثانيا، ثم لكي يتخفّف من أحماله وأثقاله ثالثا. إنه يرجع إلى الوراء لكي يفكك الانغلاقات التراثية الضخمة المتراكمة على مدار العصور الانحطاطية الجامدة. وهي تراكمات تعرقل الانطلاقة أو تلجم جماحها في كل مرة. وهذا ما يحصل الآن في العالم العربي والإسلامي ككل. العودة إلى الوراء ضرورية بغية تحقيق كل ذلك.
على هذا النحو نفهم عودة الغنوشي ومحمد بديع والقرضاوي وبقية الأصوليين الى الساحة بقوة.. ينبغي التكنيس والتعزيل قبل تشييد البناء الجديد. وهذا التعزيل لا يمكن أن يتم قبل حصول معركة المواجهة والمصارحة مع الذات التراثية التي يمثلها هؤلاء وسواهم عديدون. بهذا المعنى فإن "الربيع العربي" مفيد جدا لأنه سيجبرنا على خوض معركة المصارحة وتصفية الحسابات التاريخية مع أنفسنا. قد يبدو هذا الكلام تناقضيا، ولكن من حيث الظاهر فقط. نعم إن التاريخ، لكي يستطيع القفز إلى الأمام، بحاجة إلى تصفية حساباته مع نفسه أولا. إنه بحاجة إلى التحرر من رواسب الماضي، من تراكمات الماضي الطائفية والمذهبية التي تثقل ظهره وتمنعه من الانطلاق وتحقيق المعجزات. وكيف يتحرر منها؟ عن طريق القفز فوقها أو إشاحة البصر عنها وكأنها غير موجودة، كما تفعل النعامات والأحزاب التقدمية العربية؟ أبدا لا. هذا ما توهمناه طيلة عقود وعقود، عندما اعتقدنا أننا أصبحنا ماركسيين أو ليبراليين أو ناصريين أو بعثيين، الخ. بل وتوهمنا أننا تحررنا كليا من رواسب التراث والعصبيات الطائفية والمذهبية، وأصبحنا أناسا جددا بمجرد أن وضعنا هذا الاتيكيت التقدمي الحديث على صدورنا.
ربيع الإخوان!
فإذا بهذه الرواسب تعود لكي تنفجر في وجوهنا كالإعصار وتجرف في طريقها كل شيء. فإذا بالايديولوجيا الإصولية، إخوانية كانت أم سلفية، تكتسح الشارع وتهمش ما كان مهمشا أصلا: أي كل هذه الأحزاب الحداثية التقدمية بشكل هش وسطحي.. وأخيرا عدنا الى المربع الأول، الى نقطة الصفر من جديد. ومن أعادنا الى ذلك؟ اكتساح الإخوان والسلفيين للانتخابات المصرية والتونسية وسواها. شكرا لهم اذن! فقد ساعدونا، ولو بشكل سلبي، على فهم أين نحن، وفي أي نقطة من مسار التاريخ نتموضع بالضبط.. كنا نتوقع أننا هضمنا الحداثة وتجاوزنا "القدامة" كليا مثل شعوب أوروبا المتقدمة، فإذا بنا نكتشف أننا لا نزال نتخبط في متاهات العصور الوسطى واشكالياتها وفتاواها المرعبة. أكثر شيء يزعجني لدى المثقفين العرب اليوم هو التساؤلات التالية: يا أخي من أين جاءتنا كل هذه المشاكل؟ الإسلام غير المسيحية، ولا يمثل أي مشكلة. في الإسلام لا توجد طائفية ولا تعصب ولا محاكم تفتيش ولا كهنوت.. أو: يا أخي شعبنا غير طائفي. من الذي زرع كل هذه العصبيات الطائفية والمذهبية في مجتمعاتنا؟ أليس الاستعمار؟ الخ. كل هذا الكلام مراهق فكريا، بل وغير مسؤول سياسيا.
مكر التاريخ
ولكن، وهنا سأدهش القارئ بفكرة أخرى غير متوقعة: سوف أقول بأن دخول العرب في المرحلة الأصولية السلفية – الاخوانية بفضل "الربيع العربي" لا يعني انتصار الأصولية، وإنما بداية انحسارها! وهذا ما يدعوه هيغل بمصطلح شهير هو: مكر العقل أو مكر التاريخ.
كلمة "مكر" مستخدمة هنا بالمعنى الإيجابي لا السلبي للكلمة، تماما كما في الآية الكريمة: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. بمعنى أن العقل يحقق أهدافه في التاريخ أحيانا عن طريق استخدام أدوات لا تخطر على البال: أي استخدام القوى السلبية المضادة لحركة التقدم من أجل تحقيق التقدم ذاته! انه بحاجة اليها لكي يحقق أهدافه العليا أو البعيدة المدى. وهذا من غرائب المتناقضات. ولكن فلسفة التاريخ تعلمنا أن استخدام السلبي للتوصل إلى الإيجابي شيء ضروري جدا. يضاف إلى ذلك فكرة أخرى أساسية: وهي أن التاريخ المكبوت والمحتقن تاريخيا، ينبغي أن ينفجر بكل قيحه وصديده الطائفي حتى يشبع انفجارا. بعدئذ يمكن للتاريخ أن يتنفس الصعداء. هذه هي أول خطوة على طريق الخلاص. لا يمكن معالجة المريض من أوجاعه والجراثيم التي أصابت معدته قبل أن يقذف بكل تراكمات أحشائه الفاسدة. ينبغي أن يتقيأها أولا. بعدئذ يشعر بالارتياح وتصبح المعالجة أمرا سهلا. ولكن ليس قبل ذلك. والآن ماذا يحصل؟ لقد ابتدأ التاريخ العربي الاسلامي يتقيأ كل رواسبه التاريخية المتراكمة فوق بعضها البعض منذ قرون.
ولهذا السبب أقول بأن الوضع الحالي يمثل نقطة تقدمية في المسار العام لحركة التاريخ العربي. لا ريب في أن الثمن المدفوع سيكون باهظا. فالتاريخ يتقيأ أحشاءه عادة (أو قل يصفي حساباته مع نفسه) على هيئة حروب أهلية ومجازر طائفية وآلام بشرية لا توصف. وهذا ما وصلنا اليه الآن. ولكن فلسفة التاريخ تقول لنا بأن هذه العملية اجبارية، وإلا فإن التاريخ العربي لا يمكن أن ينطلق خفيفا قويا، بعد أن كان قد تخلص من أحماله وأثقاله التي كانت ترهق ظهره وتعرقل حركته وانطلاقته.
وهذا ما لم يفهمه التقدميون العرب السطحيون، فكان أن فوجئوا بانفجار القديم الطائفي في وجههم في كل مرة وعرقلته لمخططاتهم التنموية والنهضوية. بالطبع فأنا أنطلق هنا من المنظور الكانتي والهيغلي والتنويري عموما لفلسفة التاريخ. وهو منظور يرفض أن يكون مسار التاريخ اعتباطيا أو عبثيا. إنه منظور متفائل بمستقبل البشرية، ويعتقد بإمكانية تحقيق التقدم وتحسين الوضع البشري.
إنه منظور يعتبر أن التاريخ له معنى ويمشي إلى الأمام على الرغم من كل التراجعات والمظاهر الخادعة التي قد توحي بالعكس. هيغل يقول لنا ما معناه: على الرغم من كل المجازر والكوارث والحروب الأهلية والصراعات الهائجة بين الطوائف والمذاهب، فإن التاريخ يتقدم الى الأمام. التاريخ له هدف وغاية نهائية: ألا وهي تحقيق الحرية والسعادة للبشر على هذه الأرض. هنا يختلف المنظور الفلسفي التنويري الحديث عن المنظور الديني اللاهوتي القديم. فالمنظور الديني الذي ساد العصور الوسطى كلها في العالم الأوروبي المسيحي، ولا يزال يسود العالم العربي والاسلامي حتى الآن، يعتقد بأن التقدم يعني العودة الى الوراء، وليس القفز الى الأمام.
إنه يعني العودة إلى لحظة النبوة وزمن السلف الصالح، أي الى لحظة مثالية نموذجية، لحظة مقدسة تتعالى على كل اللحظات. وبالتالي فالتقدم فكرة لا معنى لها ضمن هذا المنظور: إنه قيمة سلبية لا إيجابية. لماذا؟ لأنه يبعدنا عن زمن السلف الصالح بدلا من أن يقربنا منه أو يعيدنا إليه. فكلما تقدمنا في الزمن إلى الأمام ابتعدنا بالضرورة عن تلك اللحظة المثالية المتعالية في نظر عامة الشعب. ضمن هذا المعنى فإن الفلسفة المثالية الألمانية العظيمة التي أسسها كانت وفيخته وهيغل وسواهم كانت بمثابة علمنة للمسيحية، أو بالأحرى للإصلاح اللوثري بالضبط. لقد أنزلته من علياء السماء إلى واقع الأرض. وعكست منظوره: فبدلا من أن كان تراجعيا أصبح تقدميا بالمعنى الحرفي للكلمة. بدلا من أن كان مشدودا إلى الماضي أصبح مشدودا الى المستقبل. بدلا من أن كانت الصيرورة التاريخية شيئا سلبيا أصبحت شيئا إيجابيا واعدا بالأفضل أكثر فأكثر. وبدلا من أن كانت الحياة الدنيا شيئا عابرا لا قيمة له بالقياس الى الحياة الآخرة، أصبحت شيئا أساسيا ومشروعا.
انظر المجتمعات الأوروبية الحديثة: جنة الله على الأرض. والمدينة الفاضلة حلم كل الفلاسفة على مدار التاريخ منذ أفلاطون وحتى اليوم مرورا بالفارابي.
من الواضح أن الشعب السوري سوف ينال حريته بعد كل هذه التضحيات الجسام التي قدمها حتى الآن. ولن تعود عقارب الساعة الى الوراء بعد كل ما حصل. لا يمكن لنمط الأنظمة الانغلاقية الشمولية الذي سقط في كل أنحاء العالم أن يستمر في سوريا.
سوف يستهل عهد التعددية الحزبية والسياسية والصحفية والانتخابات الحرة التي تقرر مستقبل البلاد. سوف يتنفس الشعب السوري بعد أن دفع ثمن تنفسه غاليا.. ولكن ليس مؤكدا أن النتيجة ستكون كما حصل في مصر: هيمنة مطلقة للاخوان والسلفيين. هذه ليست حتمية اجبارية. أضيف الى ذلك بأن دمشق كانت عاصمة أول امبراطورية عربية – اسلامية في التاريخ هي: الامبراطورية الأموية. وقد حكمت العالم من حدود الهند والسند شرقا وحتى حدود اسبانيا والبرتغال وجنوب ايطاليا غربا. وحتى عندما سقطت السلالة الأموية على يد العباسيين استطاع أحد الناجين منهم – صقر قريش – أن يصنع امبراطورية وحضارة رائعة في اسبانيا: الأندلس!
وبالتالي فالشعب السوري كبير ولا يستهان به على الاطلاق. انه من أعرق الشعوب العربية وأكثرها أهمية على الاطلاق. وربما خرج من محنته الحالية أكثر قوة وتجددا وشبابا. فالمحن تصنع الشعوب كما تصنع الرجال. ولكنه لن يصنع الحضارة مجددا عن طريق اجترار أمجاد الماضي على الطريقة الاخوانية – السلفية وانما عن طريق بعث العصر الذهبي للعلم والفلسفة من جديد. وهنا نجد أن بغداد العباسية وقرطبة الأندلسية تقدمان لنا نموذجا يحتذى من حيث التسامح والانفتاح على الثقافات الأجنبية. وهو مضاد تماما للنموذج الاخواني – السلفي.
نعم لقد كانت الفلسفة التنويرية قفزة هائلة الى الأمام، لأنها حررت الإنسان الأوروبي من أغلال اللاهوت والكهنوت وكل الاستلابات العقلية المرافقة لذلك. هل يعني ذلك أني أدعو إلى حذف الدين كليا من الساحة واعتباره بمثابة العدو الأول؟ أبدا لا. فعلى مدار هذا الكتاب وكل الكتب الأخرى والترجمات حاولت التفريق بين الدين كقيم أخلاقية وروحانية وتنزيهية عالية متعالية، وبين التأويل المشكل عنه في فترة من الفترات. الدين شيء، وتفسير البشر له شيء آخر. إنهما شيئان مختلفان ومتمايزان على عكس ما تظن عامة الناس، بل وحتى العديد من المثقفين السطحيين الذي يدعون الحداثة والحداثة الحقة منهم براء. انظر كيف التحقوا بالحركات الإخوانية وركبوا الموجة ما أن انفجر "الربيع العربي" وشعروا بأن هذه الحركات سوف تقطف ثمرته وتستلم السلطة.
للتراث وجهان لا وجه واحد!
وإذا فلنفرق بين الدين وتأويلاته. ولنلاحظ أن تأويله يكون عادة ظلاميا طائفيا في عصور الانحطاط، ولكنه يصبح مستنيرا عقلانيا في عصور النهوض والانفراج. مشكلتي هي مع الأول لا الثاني. التراث العربي الإسلامي يظل تراثي الأساسي، الذي أسبح فيه كما تسبح السمكة في الماء. ليس لي تراث آخر غيره. ولكن لي حق الاختيار والفرز. لي الحق أن أحب الفارابي وابن سينا وابن عربي والمعري والتوحيدي.
كما أن لي الحق بأن أفضل التيار الإنساني والعقلاني على التيار الإخواني الذي يشتبه بالعقل والفلسفة.
ولي حق النقد والتمحيص والغربلة. فالقشور المتحنطة الميتة ينبغي أن تطرح ولا يبقى إلا جوهر الدين: أي القيم الروحانية والأخلاقية العليا للتراث العربي الإسلامي العريق. ولكن ينبغي أن تضاف إليها قيم الحداثة التحريرية للتنوير الأوروبي وأفضل انجازاته التي لا تقدر بثمن. ويقف في طليعتها دولة الحق والقانون، وكذلك مبدأ حرية الضمير والمعتقد (لا اكراه في الدين)، ثم محاربة كل أنواع التمييز المذهبي أو الطائفي. هذه هي عقيدتي ألخصها بكلمات معدودات منذ البداية.
أخيرا سوف أقول ما يلي:عندما يظهر كتاب واحد جديد في اللغة العربية يعادل كتاب ديكارت "التأملات الميتافيزيقية"، أو كتاب مالبرانش "البحث عن الحقيقة"، أو كتاب سبينوزا "مقالة في اللاهوت السياسي"، أو كتابي فولتير "رسالة في التسامح" و"القاموس الفلسفي"، أو كتابي روسو "اميل" و"العقد الاجتماعي"، أو كتاب كانت "الدين ضمن حدود العقل فقط" الخ فسوف أقول بأن "الربيع العربي" أصبح على الأبواب. أقصد الربيع الفكري الحقيقي الذي يسبق بالضرورة الربيع السياسي ويمهد له الطريق.
بالطبع هذه لائحة مختصرة جدا وناقصة أكثر من اللزوم. ولذلك ينبغي أن نضيف إليها عشرات الكتب الأخرى التي فككت اليقينيات المعصومة للعالم المسيحي القروسطي القديم وفتحت المجال لتدشين عصر الحداثة والحرية.
إلى متى ربيع الفكر العربي؟
في نهاية المطاف ما أقصده من كل ذلك هو أنه لا يكفي قلب الأنظمة الاستبدادية، كما حصل في مصر وتونس وبالأخص ليبيا حيث كان النظام شاذا ومجرما بالفعل، وإنما ينبغي قلب "النظام القديم للفكر" في العالم العربي. ينبغي أن يظهر فكر جديد يهتم بجوهر الدين لا بقشوره. عندئذ نكون أوفياء لرسالة النبي الأعظم الذي جاء نورا للبشرية وهداية ورحمة. التقليد الأعمى المليء بالاجترار والتكرار ليس وفاء له على عكس ما يظن معظم الناس، وانما خيانة لجوهر رسالته القائمة على الحق والعدل ورفض الظلم والقهر والعنف المجاني.
نفس الشيء ينطبق على العالم الإيراني، حيث ننتظر حصول الثورة التنويرية الحقيقية كرد فعل على الثورة الرجعية الخمينية. وهذا ما سيحصل لاحقا حتما. فالشباب الإيراني يغلي غليانا. وهو يريد أن ينتزع حريته من براثن رجال الدين الذين أمسكوا بالسلطة منذ ثلاثين عاما ويرفضون أن يتركوها. وهذا يؤكد على تلك الشبهات القائلة بأن "ديمقراطية" الأصوليين في اتجاه واحد فقط. إنهم يجهلون معنى التناوب على السلطة.
ومعلوم أن الديمقراطية بدون التناوب على الحكم هي عبارة عن خدعة كبرى. أنا شخصيا أنتظر أن تظهر في اللغة العربية أو الفارسية أو التركية أو بقية اللغات الإسلامية كتب تحريرية كبرى كتلك التي ظهرت في أوروبا ومهدت الطريق للثورة الإنجليزية فالأميركية فالفرنسية.
السلفيون يتصدرون المشهد
أنتظر ظهور شخصيات فكرية ضخمة كجون لوك وفرانسيس بيكون وديكارت وسواهم من العظماء الذين نوروا العقول. كتاب واحد قد يشكل حدثا تاريخيا هائلا. عندما ظهر كتاب جون لوك عن التسامح عرف الناس أن فهما آخر للدين أصبح ممكنا. وقل الأمر ذاته عن رسالة التسامح لفولتير أو نظرية روسو عن الدين أو كتاب كانت "الدين ضمن حدود العقل" فقط الخ..
بقي أن أقول ما يلي: أصبح واضحا لكل من يرى ويسمع أن ظاهرة "الربيع العربي" ناتجة – جزئيا على الأقل – عن تفاهم حصل بين الولايات المتحدة والإخوان المسلمين.
وقد ساهم في تسهيل الاتفاق طيب رجب أردوغان زعيم الإخوان المسلمين الاتراك الذي أصبح عرابا للأنظمة الإخوانية الجديدة. يقتضي هذا الاتفاق بأن يقوم الإخوان المسلمون بتحييد الجناح الأكثر تطرفا في الحركة الإسلامية ك"القاعدة" وسواها، مقابل أن تسهل أميركا رحيل الأنظمة كمبارك وبن علي وتسلمهم مفاتيح الحكم. من المعلوم أن الأميركان تسيطر عليهم الفلسفة البراغماتية الذرائعية التي تقول بأن الأفكار ليست صحيحة أو خاطئة، وإنما هي فعالة أو غير فعالة.
وقد اكتشفوا بعد عشر سنوات من الصراع مع الإسلامويين أنه لا يمكن دحرهم إلا عن طريق شقهم طبقا للشعار الشهير: فرق تسد. وهكذا شقوهم إلى نصفين: نصف معتدل ونصف متطرف لا يقبل بأي مساومة مع الغرب كالظواهري وسواه. سوف نرى في نهاية المطاف من هو الرابح ومن هو الخاسر من هذه الصفقة الكبرى. بمعنى آخر: سنعرف من خدع من؟ أومن ضحك على ذقن من؟ ثم سنعرف أيضا: إلى متى سيستمر شهر العسل؟
*من د هشام صالح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.