ليلة القبض على قاتل بلعيد.. وسرّ القبلة التي رصدتها الكاميراقبل مشاهدة الفضائيّات، يُستحسن التوكّل على الله حتّى يرزقنا من بركاتها 'كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا'. القائمة عندي طويلة وهي تضمّ العشرات بعد تصفية أولى من الشوائب والنوائب. والجلوس لمشاهدة بعضها يتطلّب جهدا إضافيّا لاختيار ما يصلح للمتابعة. لذلك أتّخذ من جهاز التحكّم عن بعد ما يماثل العصا التي يهشّ بها الراعي على غنمه. فأهشّ بدوري على القنوات وأسوقها تِباعا بواسطة 'الريموت كونترول' إلى حين العثور على ضالّتي من البرامج التي أنتفع بها ولي فيها مآرب أخرى أبسطها في هذه الزاوية... ولقد أعياني القفز من قناة إلى قناة حتّى ظفرت بوليمة ضاحكة على فضائيّة دبي. إذْ توافق حلولي بها مشاهدا مع بداية برنامجها الترفيهي المكرّر'فاصل ونعود مع داوود'. فشكرا لداوود الذي نجح في إضحاكي... ونحن في تونس لم نضحك منذ زمن بعيد، بعد أن خاضت كلّ البرامج التلفزيونيّة في السياسة وأزلامها، ولم تنج من ذلك الوباء إلاّ النشرة الجويّة... وهكذا تحوّلت سهراتنا إلى همّ وغمّ وكدر وضجر، ما أثّر على معنويّات المواطنين والفنّانين. فمرِض الكوميدي رؤوف بن يغلان وظلّ طريح الفراش طيلة أسابيع، وتوفّي الممثّل الضاحك نصر الدين بن مختار، رحمه الله، بعد إصابته بجلطة دماغيّة... واختفت في قنواتنا كلّ مظاهر الفكاهة، إلاّ إذا استثنينا المضحكات المبكيات التي تأتي من المجلس التأسيسيّ وتتناقلها المواقع الاجتماعيّة، وآخرها غضبة النائبة بن توميّة التي توعّدت من هاجمها على صفحات الفيسبوك برفع الشكاوى إلى القضاء بعد أن طالها التهكّم والاستهزاء على خلفيّة الكلمة التي قرأتها في جلسة سابقة بلغة فرنسيّة قراءة رديئة كثيرة الأخطاء... وكانت حينها تخاطب وزير الداخليّة الفرنسيّ بلغة موليير لتوبيخه على تدخّله في شأننا الخاصّ، فنجحت في الردّ على إساءته بإساءة أفظع منها، إذ هشّمت عظام اللغة الفرنسيّة شماتة في الناطقين بها والمنتصرين لثقافتها... وفي كلمتها الغاضبة من الساخرين، طالبت الحكومةَ بمراقبةٍ أكثر حزما للفيسبوك وفرض إتاوة على دخول صفحاته الفتّاكة. وهي بهذا الطلب الغريب أثارت السخرية مرّة أخرى، ولعلّها ستفهم هذه المرّة ما يحدث من ردود أفعال نتيجة بعض المواقف المتسرّعة قبل أن تخاطب نفسها مستنكرة: 'ويحي ماذا جرى؟'، ولهذه الجملة المأثورة قصّة طريفة فتحت باب الشهرة أمام الفنانة الإماراتيّة رزيقة طارش ضيفة داوود حسين. وقد اكتشفت خفّة ظلّها بفضل تلك المحطّة التي جاءت في وقتها بعد ليلة عصيبة كدنا نتعرّف فيها على قاتل شكري بلعيد. ليلة القبض على قاتل بلعيد في قطيع القنوات التونسيّة التي بحوزتي لديّ 'الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وما أكل السبُعُ' أو السابع من نوفمبر. وكلّها تريد التعافي وتعمل على إدراكه إلاّ قناة نسمة فقد مسّتها جميع العيوب التي ذكرنا، وظلّت على جنابة دائمة بسبب خطّها الذي يُجانب الحقّ والواقع وحتّى التوقّع. في برنامج 'ناس نسمة' الذي تطوّر من (منوّعة ترفيهيّة) إلى (مروّعة سياسيّة)، يسير التحقيق في مقتل المعارض شكري بلعيد بخطى أسرع من تحقيقات القضاء التونسي. والفضل يعود للصحفيّين 'المفتّشين' الذين يقدّمون لنا كلّ ليلة حفنة من المعلومات المؤكّدة التي استقوْها من مصادرهم الخاصّة الموثوق بها كما يقولون. سفيان بن حميدة وسفيان بن فرحات وجمال العرفاوي صحفيّون محقّقون لا يتردّدون في توجيه التهم إلى جهة معلومة لديهم مجهولة لدينا بطريقة قطعيّة لا شكّ فيها... فبعد الحديث عن جهاز أمنيّ مُوازٍ تشرف عليه قيادات من حزب النهضة، خرج علينا العرفاوي ببشرى القبض على قتلة بلعيد إثر إيقاف 'خليّة صغيرة لسلفيّين متطرّفين'... ولكنّ وزارة الداخليّة كانت في كلّ مرّة تكذّب وأحيانا لا تردّ على تلك الأقاويل التي كشفت استثمار 'نسمة' لقضيّة بلعيد منذ اللحظات الأولى لاغتياله.. ولأنّ القناة تبحث ربّما عن سبق صحفيّ، استعانت في 'ناديها' بالمحامي فوزي بن مراد، وهو من هيئة الدفاع عن الفقيد، وله اطلاع على سير الأبحاث. فقال بدوره 'إنّه يعرف الجهة التي ارتكبت جريمة الاغتيال' ولمّا سئل عن هويّتها، (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى)... وأثناء الندوة الصحفيّة ألقى المحامي قنبلته الخطيرة، فذكر الجزائر دون اتهامها صراحة، ودون الإفصاح عن 'الجهة التونسيّة' التي قال إنّها متورّطة بالتخطيط والتنفيذ... وعاد القوم بخفي حنين، لأنّ المحامي 'مُنع بضغوط من زملائه'من التصريح بما يعرفه... وقد نقلت نسمة في أخبارها ما جاء في تلك الندوة، وفشلت مرّة أخرى في الوصول إلى القاتل كما كان يخيّل إليها وإلى أبطالها من المشعوذين. والنصيحة التي تُوجّه إلى القناة قبل أن يَصِيح صاحبها قائلا: 'ويحي ماذا جرى'، هي أن تقرّر عاجلا عودة برنامج 'ناس نسمة' إلى اختصاصه الأوّل باستضافة أهل الغناء والرقص والتمثيل، والابتعاد نهائيّا عن السياسة وهوّاتها من السحرة. (ولا يفلح الساحر حيث أتى). سرّ القبلة في أولى نشرات الأخبار التي أعقبت استقالة الجبالي، تعرّفنا على اللقب الجديد لرئيس الحكومة المؤقّت، فقد ارتقى أو انحدر إلى 'رئيس الحكومة المستقيل'. وهذا يذكّرنا بمشتق سياسيّ لغويّ من الحقل الدلاليّ لحكومة حماس المُقالة ورئيسها إسماعيل هنيّة المُقال. وقد زار تونس قبل أشهر، فقالت نشرة الأخبار على الوطنيّة الأولى ببلاغتها المعهودة وتكرارها المفهوم: 'استقبل رئيس الجمهوريّة المؤقّت ورئيس الحكومة المؤقّتة رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنيّة'... وبين الإقالة والاستقالة حروف الزيادة التي تعبّر عن الطلب. فاستقال الجبالي طلبا للسلم بعد حرب شُنّت على حكومته حتّى قبل تشكيلها وتواصلت عليها دون هوادة إلى أن اعترف بفشله في تعيين حكومة الكفاءات. والتكليف الآن بيد الوزير علي العريّض لذلك يُدعى بالمُكلّف، وقد تدرّب في وزارة الداخليّة على فنون القتال، ويبدو أنّه مُقْدِمٌ على معركة جديدة مع معارضة لا ترحّب به ولن ترحّب بغيره مهما كانت التكاليف... وهي في حيرة من أمرها بعد أن هرولت إلى مباركة الجبالي وبنات أفكاره من التكنوقراط، فاعتبرته رجل الوفاق الذي تحتاجه تونس في الفترة القادمة. وتوقّعت متسرّعة أنّ صاحبها انشقّ عن حزبه وأعلن العصيان في وجه الغنوشي و'الصقور' الذين يحيطون به. ولكنّ قناة تونس الاخباريّة TNN صدمتهم بتقريرها الحصريّ الذي صوّر الجبالي أثناء التحاقه بمجلس الشورى والابتسامة المعهودة تسبقه... فاستُقْبِل بالأحضان استقبال الأبطال قبل أن يصل إلى رئيس الحركة راشد الغنوشي ويثبّت قُبلة ذات معنى على جبينه... وأمام ذلك المشهد الذي أبطل كلّ الحسابات والتوقّعات، يجوز للمعارضة أن تقول: 'ويحي، ماذا جرى'!... ولعلّها تضيف في قرارة نفسها :'فاصل ونعود مع داوود.. والحشود للإطاحة بحكم الإسلاميين إلى أن نقطع دابرهم من هذا الوجود'... وقبل ذلك، يحقّ للتونسيين أن يستمتعوا بهذا الفاصل حيث تستمرّ المفاوضات لتشكيل الحكومة الجديدة. ولكلّ حادثة حديث. كاتب تونسي [email protected]