من جديد عادت الفتنة الطائفية تطل برأسها بقوة في المشهد المصري المتوتر والملتبس بالأساس، وعادت لتطرح نفسها على وقع فشل واضح لنظام حكم جماعة الإخوان المسلمين في إدارة مختلف الملفات، ما يدفع كثيرين إلى عدم انتظار حل للأزمة والخوف في المقابل من صب مزيد من الزيت على نار الفتنة المتأججة بتصرفات وإجراءات يمكن أن تقدم عليها الجماعة الحاكمة، ولعل بدايتها كانت الفشل في وقف التصدي الأمني العنيف لأحداث الفتنة، حتى وصل الأمر إلى تسجيل سابقة باسم حكم الجماعة، تتمثل في توجيه سلاح الدولة وللمرة الأولى في تاريخها صوب الكاتدرائية، وهي الرمز الديني الأكبر ليس لأقباط مصر وحدهم لكن للمسيحيين في مختلف أنحاء العالم . من منطقة "الخصوص" التي تنتمي إدارياً لمحافظة القليوبية وتقع جغرافياً على أطراف مدينة القاهرة، وهي منطقة مزدحمة بسكان أغلبيتهم قادمون من أقاليم مصر المختلفة، من هذه المنطقة بدأت شرارة الفتنة بمواجهات بين مسلمين ومسيحيين بعد اتهام صبية مسيحيين برسم شعار الصليب على معهد أزهري بالمنطقة، ليتطور الأمر إلى اقتتال بالسلاح راح ضحيته أربعة من الأقباط وشاب مسلم، وخلال تشييع جثامين الأقباط الأربعة من مقر الكاتدرائية بمنطقة العباسية بوسط القاهرة، ازدادت الشرارة اشتعالاً باندلاع المواجهات من جديد بين الشباب القبطي المشارك في الجنازة الذي هتف فور خروجه من الكنيسة بسقوط حكم الرئيس مرسي ومرشد الإخوان محمد بديع، وبين آخرين وصفوا بأنهم مجهولون، لتتدخل قوات الأمن بحصار الكاتدرائية وتتبادل الاشتباك ومعها عدد من الأهالي مع شباب الأقباط المتواجدين بها، حيث حملت التغطيات الإعلامية صوراً لأفراد من الجانبين يحملون أسلحة نارية ويطلقونها ضد بعضهم . الردود الرسمية تباينت بين وصف الرئيس محمد مرسي في تصريح مقتضب الاعتداء على الكنيسة المرقسية بأنه "اعتداء عليه شخصياً"، وإعلانه أنه أجرى اتصالاً هاتفياً ببطريرك الكرازة المرقسية البابا تواضروس الثاني، ومطالبته جميع المواطنين بعدم الانسياق وراء أمور تضر بسلامة واستقرار البلاد، وتهدد الوحدة الوطنية، وبين إصدار مجلس الوزراء بياناً يدين ما وصفه بالتصرفات الفردية غير المسؤولة التي مورست أمام الكاتدرائية المرقسية بالعباسية من البعض، مؤكداً أن "محاولة تصوير هذه الوقائع على أنها فتنه طائفية لن تنال من وحدة هذا الوطن المتماسك والمتسامح"، معتبراً أن "تواجد مسلمين لمواساة إخوتهم المسيحيين في مصابهم بالكاتدرائية أصدق دليل على روح التعايش والتماسك الذي توصف به مصر"، فيما وعدت الحكومة بتعقب الجناة في تلك الأحداث، ومثيري الفتنة من خلال فتح تحقيق عاجل للتوصل للجناة، وتقديمهم للعدالة على وجه السرعة . وفيما رأت جماعة الإخوان المسلمين أن في الأمر مؤامرة و"أصابع" خارجية تسعى لتفجير المجتمع المصري، فإن القوى الثورية والحركات الثورية حمّلت ما وصفته ب"تحالف الداخلية والإخوان والبلطجية" المسؤولية عن الأحداث وضحاياها، متهمة قوات الأمن بانتهاك حرمة الأديان وانتهاك الحق في الحياة بتعريض حياة الآلاف للخطر داخل الكنيسة، واعتبرت القوى الثورية أن: "انتهاك حرمة المقدسات بات سياسة ممنهجة لدى نظام "محمد مرسي"، بدءاً من اقتحام "الأزهر"، ووصولا إلى اقتحام "الكاتدرائية"، لافتين إلى الحماية التي يحظى بها مقر مكتب إرشاد الجماعة بضاحية بالمقطم . أحداث الفتنة في مصر بدأت في مطلع سبعينات القرن الماضي بالمواجهات في منطقة الخانكة بالقليوبية، وكانت أخطر حلقاتها في مصادمات "الزاوية الحمراء" بالقليوبية عام ،1981 لتشهد العقود التالية حلقات تباينت في خطورتها وأعداد ضحاياها في هذا المسلسل، وكان بينها مصادمات قرية الكشح في سوهاج بصعيد مصر، وحوادث اعتناق سيدات مسيحيات ك"وفاء قسطنطين" الإسلام، وما تردد عن احتجاز الكنيسة لهن لإجبارهن على العودة للمسيحية ما أثار احتجاجات ومصادمات وقتها ليختم النظام السابق عهده بمحاولة لتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، وتتوالى حوادث الفتنة بعد الثورة، خاصة مع الانفلات الأمني والصعود القوي لفصائل التيار الإسلامي وفي القلب منها القوى السلفية التي يتبنى قادتها فتاوى متشددة بشأن التعامل مع الأقباط . العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين من جانب والمؤسسة الكنسية في الجانب الآخر بعيدة تماماً منذ الثورة عن "دبلوماسية" التصريحات المتبادلة بين الطرفين، فالجماعة ترى أن الكنيسة لعبت دوراً في الحشد للتصويت ضد الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس/آذار ،2011 كما لعبت دورا في تأييد مرشحين منافسين لمرشحي الجماعة سواء في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأنها باتت تلعب دورا معارضا لها، وبدا أحد مظاهره في سحب الكنيسة ممثليها من الجمعية التأسيسية لإعداد دستور البلاد الجديد، فضلاً عن اتهام قيادات إخوانية الكنيسة بدعم مظاهرات قصر الاتحادية، والكنيسة في المقابل تنفي أنها تلعب دوراً سياسياً وترفض تصريحات قياداتها في الوقت نفسه انفراد تيار واحد بأمور البلاد، وتفسر سحب ممثليها من تأسيسية الدستور بهيمنة جماعة الإخوان عليه وإقصائها باقي المشاركين من أن يكون لهم دور حقيقي في إعداد مواده، ويقول مثقفون أقباط: إن الجماعة تعاقب شباب الأقباط على مشاركتهم في فعاليات سياسية مناهضة لها، وبالتوازي مع الفشل الإخواني في مواجهة ملفات السياسة والاقتصاد والأمن المتعثرة في البلاد، فإن مراقبين لا يستبعدون أن يكون للجماعة دور في الاستفادة من حوادث الفتنة حتى لو لم يكن لها دور في إشعالها وذلك لشغل الشعب المصري عن الأزمات اليومية التي تواجهه، لافتين إلى أن خطورة مثل هذا التفكير إذا صح أن الجماعة تنفذه على الأرض تتمثل في أن مثل تلك الحوادث لن تكون شاغلا للناس عن أزماتهم وإنما ستكون بمثابة وقود لإشعال صراع جديد لا يعلم أحد مداه، فضلاً عن أنها ستضع الجماعة تحت طائلة ضغوط دولية شديدة وربما فرض حصار عليها ومزيد من التضييق الاقتصادي ما قد تدفع الجماعة نفسها ثمنه غالياً . يرى كثير من الخبراء أن المشكلة الطائفية في مصر في جوهرها ليست دينية، على الرغم من أن الدين يستثمر فيها لأغراض لهذا الطرف أو ذاك . مشيرين إلى أن جوهر القضية في الأساس سياسي، وأن هناك استهدافاً خارجياً طوال الوقت تنفذه أياد داخلية لضرب "الجماعة الوطنية للمصريين"، وذلك إما بهدف تفجير المجتمع المصري من الأساس لدى البعض، أو تطويعه لخدمة جماعة أكبر القومية الإسلامية أو القومية القبطية على سبيل المثال لدي البعض الآخر، وفي كل الأحوال فإنه مع كل واقعة للفتنة يجد المصريون والباحثون أنفسهم يتجهون تلقائياً إلى التذكير بتوصيات وضعتها قبل 41 عاماً ما عرفت بلجنة العطيفي، نسبة إلى الدكتور جمال العطيفي وكيل مجلس الشعب في عام ،1972 وذلك بعد تحقيقاتها في أحداث فتنة الخانكة، حيث تضمنت التوصيات، التي ظلت حبيسة الأدراج منذ إعدادها، ما يعتبره المراقبون صالحاً للتطبيق في أي وقت، ومن ذلك: مطالبتها بإتاحة بناء الكنائس، وضم جميع المساجد للأوقاف لضمان السيطرة عليها، وإتاحة الفرصة للتلاميذ الأقباط لتعلم أحكام دينهم بحصص ثابتة في المدارس، وتأكيد تطبيق مبدأ المواطنة الحقيقية الذي جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، والذي أخذت منه كل الشرائع والقوانين فيما بعد، والدعوة إلى عدم انجراف القساوسة والرهبان خلف الشائعات أو السماح للآخرين باستفزاز، خاصة ما يتعلق بشائعات حول خطف فتيات مسيحيات، فضلا عن نبذ التشدد في التعاليم والتوجيه، والأخذ بجوهر الدين أياً كان والوسطية والاعتدال، والحث على العدالة والديمقراطية وصيانة الحقوق وتأدية الواجبات، وقبول الآخر واستيعاب انتقاداته وأحاديثه، وتأكيد عدم ظلم المسيحيين أو قبول الظلم، خاصة أن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ركزت على احترام أهل الذمة، والعودة لفضيلة الحوار لتهدئة النفوس المحتقنة، بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية في مصر، ومواجهة الكنيسة كل أساليب التطرف أو الغلو في النقد أو توجيه اللوم، وحث شعب الكنيسة على النظر للحقبة الإيجابية من الحضارة الإسلامية التي ارتفعت فيها نبرة حماية حرية العبادات، وبرع فيها مسيحيون بجانب مسلمين . هذه التوصيات وغيرها مما لم يطبق في عهود سابقة كانت الظروف أنسب لتنفيذها يراها مراقبون باتت أكثر بعداً عن التطبيق بعد صعود التيارات السلفية وتنامي الأفكار المتعصبة والمتشددة في الجانبين المسلم والقبطي، فضلاً عن غياب سيطرة الدولة، ما ينذر بخطر شديد، ما لم يعلُ صوت العقل في الجانبين لتجنيب البلاد الدخول في نفق الصدام الطائفي المظلم .