الريف في الوطن العربي رمز لسكونية الحياة ورتابتها وإيقاع الزمن البطيء، وكذلك الانتظار الممل لعطايا السماء من غيث وماء ينعش حياة الأرض ويسقي الحقول اليابسة، وهو تجل رتيب لتوالي الليل والنهار، وبطء الكواكب في حركتها في أعالي السماء . يعيش الريفيون بكل عمق وإخلاص، على إيقاع المكان والزمان وهو إيقاع يأسرهم في حلهم وترحالهم صوب المدينة، وأريافنا ليست المرادف المثالي للطبيعة الخضراء، إلا في أزمان نادرة، وليست الهدوء الأخضر الجميل المفروش بشقائق النعمان، يعيش الإنسان لحظات جميلة عند الغروب وليس موئلاِ للمتعبين من شقاء العيش وسط المدن الصاخبة، وإن من يلجأ إليه وقد اشتعل رأسه شيباً هرباً من صخب المدن، قد يشيب أكثر عندما يصل إلى الريف، وقد وجده يفتقد إلى أبسط مقومات العيش الهادئ والكريم . حيث لا ماء ولا شجر ولا كهرباء وتعوزه أبسط وسائل الاتصال مع العالم الخارجي ويجده محط النفايات محاطاً من حوله وفي قلبه بالممرات والطرقات المحفورة وممتلئاً بالأحجار المتناثرة بلا نظام أو ترتيب . عندما تذهب يوماً إلى بقعه ريفية من أرياف وطننا العربي، سترى ما تراه من حفر ومهابط وأحجار ونتوءات هنا وهناك وأنقاض وركام وخرائب والبيوت المبنية من اللبن والطوب والأحجار المهشمة، ثم تعود بعد طول غياب إلى هذه المواقع الريفية فتجد، كل شيء في موضعه لم تتغير فيه معالم الحياة . أما عن أناس الأرياف فقد نجد بعضهم وقد غادر موقعه صباحاً متوجهاً إلى المدينة ليعود مساء، والبعض الآخر يجلس على قوارع الطرق والأزقة، يعيش زمناً رتيباً يمتد بنظراته الفضولية ليلاحظ الأشياء والأشخاص، وفي المساء يجلس أبناء القرى يتأملون في لحظات رتيبة جمال السماء والغروب والشمس، يعيشون الليالي الساهرة ويتمتعون بالهدوء وصفاء الليل مع معانقة حركة الزمن البطيء بشكل لا يوحي بانجلاء الليل أو انجلاء الصبح ليشرق نهاراً آخر يعيش الرتابة، والزمن الصخري رمز الثبات ومقاومة رياح التغيير العاتية . عالم الريف في وطننا العربي تقليدي في أسلوب التفكير والحياة لا يتفاعل مع الافكار الحديثة، ومستجدات الفكر والوجود، غير معني كثيراً بموجات التقدم والحداثة على صعيد الافكار أو نمط الحياة، وهو أيضاً لا يتوجه نحو "النور" الاجتماعي والسياسي أو الاقتصادي، اي بعبارة أخرى غير مهتم بالدخول في ما يسمى بعصر التنوير . وقد لا يكون هذا الريف من صناعة الريفي بل هو انعكاس لغباء المكان وليس لعبقرية المكان الريفي في ذاته، وهو أيضاً انعكاس للتقهقر الجغرافي والبيئي الذي استغلته وأثمرته الأنظمة السياسية المتعاقبة، التي لم تفكر جدياً في تغيير البيئات الريفية وتحديثها، وبالتالي تحدث نقلات نوعية في نمط الفكر والحياة الريفيين . قد يقول قائل هذه الكلمات كلها ترتد إلى الماضي، فالأرياف اليوم غير أرياف الأمس وكل شيء تغير في هذه الاماكن، ولكن في هذه السطور تريد أن توضح أن أجيال اليوم التي صدرت من هذه المواقع الريفية، وقد هجرتها وهي تعيش اليوم في قلب المدن، ولم تعد تنتمي حياتياً إلى أريافها القديمة، إنها تنتمي في اللاشعور- السيكولوجي والفكري إلى تلك الحقبة العتيقة التي نتحدث عن معالم شقائها وبؤسها، ومعاصرتها لحركة الحياة والزمن البطيء والرفض اللاشعوري للتغيير . وقد يخطر لنا في هذا المجال السؤال التالي: هل أبناء المدن والأرياف هم بالميلاد وبالفطرة، أم بثقافة الريف والمدينة يصبحون على هذا النحو أو ذاك في الأفكار والمسالك؟ أذكر يوماً أني قرأت مقالاً بعنوان لا يخلو من طرافة وهو سفر الخروج، والكاتب يعني، الموجات العظيمة المهاجرة والخارجة من الأرياف نحو المدن بحثاً عن الحياة وسعياً نحو النور، يصلون إلى المدن ويحملون في باطنهم صراعات الزمن في حركته وسكونه، تتصارع في نفوسهم عوامل الثبات والتغير، الموت والحياة، الرتابة والصمت والصخب، النظام، والفوضى . وواقع الأمر أن الأرياف في الوطن العربي أنتجت فئات عاشقة للأرض ويمتد هذا العشق في لحظة الوعي إلى حب الأوطان، يدفعون حياتهم ثمناً لهذا العشق الموروث للأرض الطيبة التي كانت يوماً مصدر حياتهم ومقابل تجار المدن ورجال أعمالها وباعتها وسماسرتها الذين يدركون أن عشقهم الوحيد هو عملهم "بيزنس" وأنهم يهاجرون ومعهم تجارتهم لحظة الضيق والاختناق وهم غير ملتصقين بالأرض . وما حصل، ولايزال يحصل في تاريخ العلاقة بين الأرياف والمدن في وطننا العربي أن بعض الفئات تتاح لها الفرص للوصول إلى سدة السلطة وصناعة القرار، سواء في السياسة أو الاقتصاد، أو الاجتماع أو التربية والثقافة، وبكلمة مختصرة يوكل إلى من يصل منهم إلى موقع القرار ليؤثر في الشأن العام وهنا تظهر بعض العوامل الشخصية، أو تظهر موجودات "اللاشعور" الذي ولدته ظروف الحياة الأولى لتتجلى في المواقع الجديدة التي احتلتها هذه الفئات في المجتمعات من هذه الموجودات اللاشعورية، السيكولوجية، الفكرية . ذلك من قبيل السلطة الأبوية والنظرة التأبيدية للأشياء، أي رفض أفكار التغير أو التمرد أو الثورة وتبسيط وقائع الحياة وتغيراتها والنظرات الضحلة للواقع المتغير لحياة المجتمعات، وتعمل موظفة توظيفاً سيئاً لنظرية القوة، في تثبيت ما يمكن تسميته بالإيديولوجية الريفية . بكل موروثاتها القديمة من نظرات إلى السكون والحركة والزمن البطيء والرهانات الخاسرة على الزمن في تغير الواقع والظروف والأحداث، وغياب دور الإنسان في تغيير مفاهيم الزمن ذاتها ولا تخلو هذه الايديولوجية من نزعات ثأرية تنعكس في إذلال الآخر، ولقد تحولت هذه الفئات المهاجرة لأريافها، رغم معايشة البعض منها مجتمعات حضارية مختلفة، إلا أنها تلبسها المشاعر الأولى القديمة وانعكس في قوى مفترسة، لا نجد فيها مفاهيم الشعب، المساواة، الكرامة، والحرية سوى أساطير الأولين، وتصبح فاقدة لشرعية سلطتها سواء الشرعية المتعلقة بمصائر الأوطان أو بمصائر القطاعات التي تسيطر عليها في حياة البلاد . لقد أخفقت فئات ريفية كثيرة بعد مغادرتها المواقع القديمة ومعايشتها حياة المدن الكبرى، والصغرى وهيمنت على روحهم ثنائية الريف والمدينة بلا جدلية، بل بتضاد وتواطؤ وانعكست هذه الثنائية سلباً يشبه مقاتل العرب القدماء أو ما قبلهم حول ما روى عن: قبيل وهابيل وشعور العداء بينهما وهو ما ألمح إليه "أودونيس" قائلاً في مدارات جريدة الحياة: قابيل الفلاح الأول: كيف حدث أن بدأ حياته بقتل أخيه؟ كيف يمكن أن يكون عاشق الأرض الأول أي عاشق الجرأة الاولى: المجرم الأول؟ أنظمة بناها أبناؤها قدموا من خارج المدن، يجب أن تنتهي، وثورات قائمة منذ فترة بسيطة يجب أن تنتهي، ولكننا نقول من جهتنا إنها ثورات يجب أن تستمر لا أن تنتهي كما يشتهي علي أحمد سعيد . إنها ثنائية لم يعشها أصحابها بعمق ويقين أو بتوتر حاد خصب يتولد عنها نمط ثالث عبر التغير ولم تغمرها قدسية الحياة، بل لقد سادتها الروح الانتحارية والعود الأبدي وللروح التدميرية التي غمرت تاريخ ومدارات الشرق قديماً وحديثاً ومعاصراً . الخلاصة: إن الأغلبية المطلقة من أهل الريف تخضع لمعادلة بسيطة: عدم مغادرة الأرض طواعية، وعندما تصبح السلطة أرضاً جديدة تصبح دونها رقابهم، وتنتقل الشهوة من ميل جارف للتعلق بالأرض إلى ميل مقابل متعلق بالسلطة وهي الأرض الجديدة، وتنتج عن ذلك همجية في السياسة وتصحر في الثقافة والفكر وينقلب الأمر إلى ترييف المدن وسيادة الإيديولوجية الريفية . وبالنسبة لأهل المدن ونخبها، كالتجار، والصناعيين، ورجال الأعمال، والسماسرة، والمقاولين، فهم غير معنيين بالضمير الوطني، بقدر التزامهم بأهداف حياتهم الرامية إلى تحصيل العيش الرخيص ورغده الآني .