الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    صحيفة تكشف حقيقة التغييرات في خارطة الطريق اليمنية.. وتتحدث عن صفقة مباشرة مع ''إسرائيل''    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    العميد باعوم: قوات دفاع شبوة تواصل مهامها العسكرية في الجبهات حماية للمحافظة    وكالة دولية: الزنداني رفض إدانة كل عمل إجرامي قام به تنظيم القاعدة    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    في اليوم 202 لحرب الإبادة على غزة.. 34305 شهيدا 77293 جريحا واستشهاد 141 صحفيا    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    إلا الزنداني!!    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زنجبار .. منازل الموت
نشر في الجمهورية يوم 08 - 12 - 2012

في أي مكان نذهب إليه نبحث عن قصة، ومنذ تحرك الباص الصغير، كانت الوجوه محنطة بالصمت، عدا فتاتين سمراوين وشاب يتلاحق حديثهم الهامس. إيقاع أغنية عراقية فتحها السائق وهو ينتظر امتلاء مركبته بالمسافرين إلى زنجبار، في محطة الهاشمي- عدن. ضجيج ازدحام في نقطة لوجهات مختلفة. أفسح شاب لتجلس عائلة إلى جانب بعضها، شنطة سوداء، وكرتون ملصق، كل أواعيهم. ترتسم على ملامح الذاهبين اشكال بلا تطلع.. وعندما تهتز الرؤوس، لم يكن استدعاء للإيقاع، بل لحركة المركبة. وحدها الفتاة السمراء المنقبة، فرشت ابتسامة على عينيها، فيما النظرات على العيون فارغة، كإيقاع رتيب. وفي زنجبار تكتشف أن القصة اليوم مكتوبة على الصمت: إنه المشهد الاعتيادي أعقاب الحرب، صدى الخوف يتملك المكان بذكرى وحشية، كما شبح الموت يستلقي على ما تبقى من حياة.
لا يستثني الخوف المسلحين التابعين للجان الشعبية، وإن كان بطريقة مختلفة؛ سيارة مفخخة، أو حزام ناسف، إحتمال تعرضهم لهجوم انتحاري، هاجس يحفز تحيطهم واستنفارهم. وعندما لاح زميلي علي سالم يسير اتجاه مسلحين يقفون أمام مبنى المحافظة القديم، اوقفوه وفتشوه مشتبهين به. كنا على بعد أمتار سارعنا، وبدأ محمد النخعي مرافقنا من عدن ينادي لجمال (احد المسلحين). “هذا صاحبنا” قال النخعي. اعتذر جمال الرواعي وتنفس الصعداء بمشاعر محرجة. كان يوم سبت 3 نوفمبر الماضي، في يوم الجمعة 16 نوفمبر، تسلل انتحاري وفجر نفسه هناك حيث تبادلنا معهم بعض الكلمات. وانطفأت حياة جمال ذو السمرة والشعر المجعد، واثنين آخرين. من يدري ماذا تخفي زنجبار له. وذلك ما هيأنا له انفسنا قبل السفر.
أغنية حب وأخرى للموت
عند الالتفافة الأخيرة، بلغنا الشريط الساحلي وبدأ الطريق يتسع على شاطئ أبين الذي يبدأ من عدن، غنى الفنان أحمد قاسم عن ساحل ابين للشاعر لطفي جعفر أمان، عن ذلك الركن الواسع واللانهائي للقاء العشاق. قبل عقود في زحمة اليقين الاشتراكي من كان يتصور، ان يقين آخر ديني سيحل فارضاً عنفه. حل صوت ابوبكر سالم ورافقنا حتى زنجبار. هذا التبدل من الايقاع العراقي إلى اليمني، يعود كلياً لذائقة السائق؛ لم يمنعني من التساؤل، عن بعض الصلات مع الواقع نفسه. المشهد العراقي يطفو على اليمن، بانقساماته الوطنية وسقوطه الأمني، إضافة إلى التدخل الخارجي الواسع، وإن لم يكن في صورة احتلال. يمكن ملاحظة طائرات بدون طيار، بين وقت وآخر تعبر السماء، في طريقها لضرب اهداف. وهذا المشهد، بصورة ما، حلقة مترابطة لحرب اعلنها بوش الابن على الارهاب، استمرار للتداعيات العسكرية في العراق وأفغانستان. مازالت أبين لحظة تراجيدية يحتمل تفاقمها: تموجات رتيبة للكثبان الرملية، فجوة الشمس الهائلة، أنين الماكينة، وقليلاً ما تجتاز سيارة دفع رباعي أو ميكرو باص من نوع “تويوتا” مركبتنا.
كنت أصور جروح المباني في زنجبار، وقال لي رجل اسمر بشعر مستوي مفروق، صور جروح الناس أفضل من الحجارة. تحت شجرة (نيم) يمضغ كرة صغيرة للقات لينسى مصيبته، لكنها طريقة للعيش في تذكرها. إسمه سعيد، هذا ما قاله. في العادة لا يعطيك أحد اسمه الحقيقي. لا تداري عينيه فقط تراجيديا التشرد، بل ذلك المشترك الذي يتقاسمه معظم الناس هنا، فقدان الرغبة بالأمل، إلا إذا كان يتسم بدرجة قصوى من التطرف. ما يجعل العنف الاحتمال الأكثر وفرة. كانوا نازحين، معظمهم في عدن، وبعضهم في مدن ابين الأقل تعرضاً للحرب، ثم عادوا موطنهم كنازحين، بلا بيوت أو أواعي.
الأسامي هي العيون
التقينا رجل يرتدي فوطة هندية وقميص سماوي فاتح، وجد بعض الأجزاء صالحة للسكن في بيته المخرب. حتى تلك الوظائف الاسمية في الحكومة، ضاع روتينها. فقدوا إيقاع الحياة بكل ما فيها من رتابة، وما تبقى ذلك الصدى دون أجراس. يعيشون في الغالب على إعانات المنظمات الدولية. لكن إلى متى ذلك قال الرجل بهدوء فيه مرارة أكثر منه تماسكاً، نريد حياتنا أن تعود، أعمالنا، وأمننا. وعندما كنت معه وحيداً سئلته عن الأوضاع، همس لي: “لا تحمينا اللجان الشعبية من السرقات”.
أضاف الرجل مخفضاً صوته: “بعض المسلحين لصوص وبلاطجة”. حين سألته عن اسمه، “لا داعي للأسماء” قال. قبل بلوغنا زنجبار، عند منطقة الكود، بدأت أشكال الدمار تمر على زجاج المركبة مع أحراش خفيفة لشجيرات السيسبان. التفت نحوي بفضول الرجل الذي بجانبي، كان يأخذ معظم الكرسي الصغير، فيما ياخذ طفله الحافة الملاصقة لكرسيي، يعيش في ريف زنجبار، اجابني عن الأوضاع الامنية بانها جيدة، واضاف ان اللجان الشعبية من تقوم بالجانب الامني. بيد أن توتر مضغ محيط وجهه، اشار إلى قصة أخرى. كانت نظرته تعبر عن التسليم الكامل للخوف: الاحساس بانكماش فرص الحياة لحظة المكاشفة.. كنت وعدت الرجل بعدم ذكر اسمه، وكان إما ان يخبرني عن استياءه من مسلحي اللجان، أو اسمه. كرر بمرارة كأنه اباح بسر خطير: الاسماء لا تهم. وعندما اخبرني شخص باسمه الحقيقي، قال صديقه وهم في حلقة ترتطم احاديثهم بكرات القات، نفس العبارة. وانا استرجع تلك اللقاءات، تذكرت اغنية لفيروز، احببت كلماتها أكثر من لحنها “الاسامي كلام، شو خص الكلام، عينينا هن اسامينا”.
رفض مسلحون للجان الشعبية أخذ صور لهم. ضموا اسلحتهم إلى افخاذهم وجلسوا لتناول الغداء: رز باكياس بلاستيكية ودجاج، هناك من يوزع عليهم الأكل في أماكن حراستهم. “لماذا تقلقون من الصور” سألتهم، ابتسموا. تبادلوا مزحات مع مرافقينا، أراد الشاب محمد الذي التقيناه في سوق زنجبار اقناعهم، “لا تخافوا”. علق شاب صغير وعلى وجهه ابتسامة، بنصف مزحة ونصف جدية: أنا خائف على حياتي. كانوا فعلاً قلقين. لف أحدهم وجهه بغطاء راسه، تحسباً من التقاط صورة، سيكون قد أخفى شخصيته. وتذكرت ظهور صور لزعيم انصار الشريعة في زنجبار وحوله مسلحين ملثمين. كانت القاعدة تسيطر على المشهد، بينما تسيطر عليه اليوم اللجان الشعبية، من يدري ماذا سيحدث بكرة. وظهورهم على صور، سيؤكد أمر، ربما سيحاولون التنكر له في الغد: العيون هي الأسامي. وبعد حادثة علي سالم العرضية، طلبت من المسلحين هناك التقاط صورة لهم، رفض شاب صغير متشنجاً، بينما سلاحه على فخذيه. وحين ناداني سائق دراجة نارية في السوق وطلب مني تصويره، ثم قال انه من مقاتلي اللجان، لم أصدقه، ثم قارنته بتمنع المسلحين.
حدود الموت
بعد عودتهم يحاول مواطني زنجبار، التعايش مع فوضى جديدة. لا وجود للدولة، إلا افتراضياً، وفي رسم الخريطة. بعد خروج القاعدة، ظهر مسلحي اللجان الشعبية كمشكلة جديدة. ميليشيا غير نظامية، تسيطر على الامن الداخلي لمدن ابين. وسيكونوا العائق الأكبر لعودة السلطات. سبق وحدثت اشتباكات بعد خروج انصار الشريعة، بين مسلحي اللجان وقوات الأمن التي فضلت الانسحاب من زنجبار.
يرتفع علم كبير لليمن مؤكداً الوجود الرمزي للوطن في نقطة “الدوفس” العسكرية، قبل المدينة. وقعت هنا معارك ضارية بين الجيش ومقاتلي القاعدة. مازالت دبابتين على كل جانب، تعلنان درجة الاستعداد المبدئي. عند مدخل المدينة كان طابور امام بوابة مبنى المحافظة الجديدة، الذي لم يكتمل، ولم تنج حجارته البيضاء من آثار قذائف. وفي أول يوم دوام بعد العيد، ليس ثمة مرفق حكومي مفتوح. لا توجد أي بنوك تعمل، عند دخول القاعدة هاجم مسلحيها البنك الزراعي (كاك بنك)، ونهبوا حوالي ملياري ريال، معظمها تعزيزات لرواتب موظفي الحكومة. وعند خروجنا في نفس اليوم بعد العصر، كان ازدحام عند مبنى ذو طابق واحد عليه ابواب محلات زرقاء، وعند سقفه تنزل قماشتين إحداها زرقاء كتب عليها شعار “اليونيسيف”، وأخرى بيضاء تعلن عن “جمعية التكافل الانساني بدعم من المفوضية السامية للامم المتحدة”. وتتجمع فرش اسفنجية صغيرة مرصوصة فوق بعضها، كانت توزعها المنظمة للنازحين.
من منا يعرف ماذا سيحدث، الكثبان الرملية والطريق المتاخمة للبحر كانت وجهة الموت الأكيدة، واليوم وجهة محتملة. كنا خارجين وسط زنجبار من حي لوراس المدمر، على شارع 26 سبتمبر، ظهرت كتابة سوداء على جذع مائل لشجرة ازدرخت (مُريمرة) “حدود الموت”. متى كُتبت؟ بعد خروج أنصار الشريعة، أو أثناء تواجدها؟ لا أدري. هل تحكي عن الحي المُدمر، أو عن احتمالات مازالت قائمة؟ عندما تحرك الباص بدأت التجربة، بالنسبة لنا، ومن يدري أين ستنتهي، هل كانت فقط أبين نهاية تلك الرحلة، أو أنها استعداد متقطع لمخاطرة أكبر بكثير. ومع التحذيرات المسبقة لي، بما أن الرحلة تحتمل المخاطر، ولا تأمين على الحياة، فضلت تذوق الأمر كنوع من المغامرة غير المحسوبة العواقب. وجرت رحلتنا بكل يسر، لولا حادثة علي سالم العرضية، عندما طلب منه مسلحوا اللجان التوقف.
رقصة هندية لا تبدأ
نزلنا عند مربع الجرة، في احد الاركان المبنى القديم للمحافظة، مقابله بيت الشيخ طارق الفضلي، سليل سلاطين زنجبار، تطبع آثار الحرب ككل شيء هنا، حجارها الرمادية. قيل لي أنه أحد أكثر الشخصيات المطلوب دمها اليوم في زنجبار، “لقد باعنا” قال شاب صغير يرتدي فانيلة بالوان نادي انتر ميلان الايطالي، وكمعظم الناس الذين نلتقيهم ربما لا يعطيك اسمه الحقيقي، “بندر” ربما كان اسمه. تعود أغنية فيروز: أسامينا شو تعبوا اهالينا تلقوها، شو افتكروا فينا”. وتركنا بندر عند مربع الجرة قبل أن نغادر، فقد كنا نشبه شخصيات قصص الف ليلة وليلة، نلتقي شخصيات ترافقنا وتحكي لنا، ثم نفترق عند نقطة ما لنلتقي بأخرى. وكانت الألغام ترسم للمدينة حدود للموت، كما يرسمها شكل التسلح والصراع.
يستقبلك الدوار، ككل الاشياء بوشم الحرب؛ جزء مقطوع من الرصيف الملون بالاصفر والأسود، قسم من الشبك الحديدي اندفع للداخل تحمله طبقة خرسانية، قضبان حديدية منكشة، وفوق الدائرة المخربة مازالت الجرتين بدون خدوش، تتخذان وضعية راحتين في رقصة هندية تتلامسان في القاع وترتفعان بتنافر. هل كانت تحمل معنى خاص، بأن الحياة مازال يمكن بعثها. كنت عازما ً على الرحيل إلى زنجبار، متى أكد لي المرافق جاهزيته. وفي الساحل الطويل لأبين، لم تكن اغنية احمد قاسم عن العشق ما استحضرته بل ما ترويه نظرات يسكنها الاحباط.
تاريخ مك شوط
لم يكن مجرد مشهد يلتصق على نافذة احداقنا: كثبان رملية، تلألؤ أزرق للبحر. صف شتلات مزروعة على جانبي الطريق لمقاومة التصحر. وفي الرمال الناعمة ثمة تاريخ تم دفنه، لكن إذا ما حفرت لن تجد ما هو مكتوب، وكانت 50 كم تفصلنا عن فصول مأساوية. يستقر مرافقي محمد النخعي ذو الثانية والعشرين من عمره، في عدن مع عائلته بصورة رسمية منذ الحرب، يعمل على سيارة تاكسي صغيرة الحجم، ويمتلك محل لبيع التلفونات المحمولة في زنجبار، افتتحه مجدداً بعد عودة النازحين.
خربت الحرب منزل عائلته ككل حي لوراس المدمر. حتى البيوت التي ظهرت أغلفتها غير مخربة في الحي، من النوافذ المخفية أدرفتها، يمكن ملاحظة التشققات المتعرجة في الداخل. لم يعد يتذكر “تعز” المدينة التي ولد فيها في 1990 - عام الوحدة. هربت عائلة النخعي بعد أحداث يناير 86 الدامية، صراع كان واجهته اليسار، غير أن الوحل القبلي فرض انحيازاته، وهرب الشق المناصر لعلي ناصر محمد بعد هزيمته، خوفاً من التصفيات، وهو الشق الذي ينتمي له الرئيس الحالي عبد ربه منصور. يتقاسم النخعي مع المدينة بعض الثيمات، حين عاد زنجبار عام 1997 في السابعة من عمره، كانت اليمن تعيش سيطرة كاملة لعلي عبدالله صالح. ثم عاد وهرب مع عائلته العام الماضي من الحرب، في وقت لم يعد علي صالح رئيساً.
مثل كثيرين من جيله، لا يعرف الكثير عن المرحلة الاشتراكية. تنتمي ساحة الشهداء، لتلك المرحلة، تم بنائها في ثمانينيات القرن الماضي، ميزهما في السابق، تمثالان بورونزيان أحدهما يمثل جندي وآخر مزارع. رمزية ذات معنى للايقاع الاشتراكي. لكن مع دخول القاعدة اختفى التمثالان من منصتيهما. ومثل التحولات على الواقع، تتغير القيم، فقد فرضت الايقونات الدينية شكلها على المجتمع الجديد، لكنها ايضاً افسحت لنشوء التوجهات الأشد تطرفاً. وهي تقحم نفسها في شطب اجزاء من التاريخ، من اجل اعادة كتابتها.
“لا رحمة لأمريكا”
ذهبنا اتجاه السوق، وكانت كتابة على مبنى، دُمر جزء كبير منه: “هذه جرائم الصوملي”. والمقصود قائد اللواء العسكري المرابط في ابين وقت دخول القاعدة. منذ أشهر، عين الرئيس هادي قائد جديد للواء. لدى مواطني زنجبار، سواء مرافقينا أو من كنا نلقاهم، نفس الانطباع بتورط قيادات نافذة في كل ما حدث. وعلى جدار في مكان آخر، كُتب “لا رحمة لأمريكا والصوملي” بجانبها كتابة “تنظيم القاعدة”، يتعايش الناس مع الحروف السوداء، لكنها تشعرك برعب حقيقي. كأنك تسير بين منازل الأموات. مباني مسلوخة واكوام الدمار تنام كفتافيت ورق بجانبها.
كوة مستطيلة يسدها شبك حديدي اسود، ومن الداخل جدران ملطخة بسواد تِركة حريق التهم كل شيء. كانت ذات يوم مقر البنك الأهلي اليمني في المدينة، مقاتلو القاعدة نهبوا كل ما فيه. كنا ننتظر مرافقنا محمد النخعي وهو يحدث العامل في محله. اجتزنا سوق المدينة، أخبرونا انهم سيأخذونا ناحية النفق، يتحدث الناس هنا ان القاعدة حفرته.
أنت قاعدة
تتداخل أكوام الدمار مع أطفال ينغمسون في لعبة بائسة. طفل يقول لرفيقه: “انت قاعدة”. ترتسم ضحكة صغيرة على وجوههم، براءة اثقلتها رسوم الحرب. رسوم ليست في مشهد تصويري، بل تجاعيد حية على المكان. وكلما التقينا بشخص، يدور في حلقة مفرغة من الأقوال. تتمحور النكتة الأكثر رواجاً، حول اتهام شخص بانتمائه للقاعدة. عند إحدى نقاط المسلحين، وصف مرافقنا محمد أحد المسلحين الشباب، أنه قاعدة، لونت الدعابة وجوه المسلحين بالضحك. لكن “قاعدة” تستحيل تهمة مميتة، يمكن إلصاقها بشخص والتنكيل به، هذا ما يؤكده البعض. كان الاطفال يقفون فوق بيت مهدم.
عند مرورنا من الحي المدمر، نادانا رجل ينتمي للفئات المهمشة، من أجل تصوير بيته المخرب. كان يجمع بعض نفايات (الحرب) على تنكة. واحدة من الاستثناءات في المنطقة، قرار سالمين رئيس الجنوب اليمني في السبعينيات، بدمج المهمشين في المجتمع. وحصلت شريحة كبيرة منهم على التعليم. ينتمي سالمين إلى زنجبار. لكن التقسيمات القبلية أعادت إنتاج نفسها، كما سبق وظهرت في حرب 86.
مازالت كتابة سوداء “إمارة زنجبار الاسلامية”، لم تُمس حتى اليوم على جدار المحافظة القديمة. لا تروي فقط عن سيطرة القاعدة، إنما عن إمكانية عودتهم. يؤكد مسلحي اللجان، أن نادر الشدادي احد زعماء أنصار الشريعة، الذي لقي حتفه اكتوبر الماضي وستة مسلحين بهجوم طيارة بدون طيار، كانوا ضمن مسلحين عازمين على استعادة زنجبار. مع ذلك، لا يمكن التأكيد على تلك الأخبار. ربما كانت مهمتهم مختلفة، الهجوم على مواقع مسلحي اللجان والانسحاب. تستعيد اليوم القاعدة طريقتها الاعتيادية في الحرب، إرسال مفخخين أو انتحاريين. ويبدو أنه من الصعب عليهم استعادة تمركزهم في المدينة وإعلان إمارة إسلامية، في هذا الوقت لكن ليس للأبد. ما لفت نظري أن كتابات القاعدة على الجدران، لا تشبه كتابة البعض ذكريات أسمائهم، أحدهم كتب وسط دمار “ذكريات أبو محمد”. لكنها لا تعني سوى إشارة لأطلال متعاقبة. أما ذاكرة القاعدة على الجدران، فتشير إلى ما يثيروه حتى اليوم من خوف، ربما لهذا السبب لم تُطمس؛ بدت كطلاسم تستدرجك إلى فيلم مرعب.
مقابل فرزة أبين، ونحن نتناول الفطور، سلم مرافقي على رجل خمسيني، ثم همس، إنه صهر للشدادي نادر. كنا ننتظر لنبدأ الرحلة في تراجيديا زنجبار. وعدا سكانها لا أحد يشاركها مأساتها، حتى الجهات الحكومية، تصير بالنسبة لها فاترينة ألم لأجندة دبلوماسية أو أبعاد سياسية. هذا ما يعبروا عنه بطريقة ما، فعندما تسائل أحدهم ما إن كنا نتبع إعادة الاعمار. عقب آخر بتهكم: سنلتحق بالمناطق المنكوبة الأخرى، مرت سنوات ومازالت الحكومة تناقش إعادة اعمارها.
لا تصور للعلم..
كل شيء مدمر، حتى الوجوه فقدت سمات الثقة بموطنها. اقترب مني شخص نحيف يتبعه طفلان متأكداً من هويتي. “لا تصور علم الاحتلال” قال مشيراً للعلم اليمني الذي كان يرفرف على أحد أعمدة الانارة. ربما لفت الرجل انتباهي لعلم وحيد يرفرف فوق أشلاء زنجبار.
اشجار مُريمرة في حوش المحافظة القديم، الجهة المقابلة. على الجدار شعار “لا إله إلا الله مكتوبة بصورة أفقية و”محمد رسول الله” تنحت دائرة سوداء، على هيئة ختم عُرف به الرسول محمد، وكأن انصار الشريعة تؤكد امتلاكه، كوصاية على الدين، وهذا بالضرورة سيخلق نزاعات مع وصايات أخرى. محلات كانت معظمها مغلقة، مازالت الأوضاع راكدة، حتى مع تحسن نسبي في الآونة الأخيرة. شربنا لبن رائب في محل لبيع العصائر، مالكه من تعز. ظل فترة سيطرة القاعدة حتى بدأت الحرب تطفو بجدية، غادر، كما سينزح كل السكان المحليين. ومع عودة النازحين، عاد إلى مكان رزقه. ترتص على الرفوف علب معدنية لمشروب مانجا مركزة. شاب صغير يحمل سيخ لتحريك خبز “الطاوة، يرتدي قميص نادي برشلونة. قال المالك عدنا لنحافظ على ما نملكه. دستين كبيرين، كبينة خشبية حيث يجلس هناك درج الحساب. هكذا الحياة تشدك إلى خيط ضئيل. تاه الرضا من عينيه. لا يدري ماذا يخفي له الآتي، ربما يلملم أغراضه الصغيرة ويهرب، في لحظة طارئة، ويمكن للأسوأ ان يحدث.
تحدث قائد دراجة نارية عن مرض جلدي انتشر بين الأطفال التقيناه عند دخولنا. كان أصر على أخذنا للساحة، وعدناه بأننا سنأتي. “اسئلوا عن أولاد دحباش” قال قبل أن يضغط على المقود اليدوي لدراجته. ودحباش ليس اسم شخصية المسلسل المحلي الذي عُرف بداية التسعينيات، لكنه اسم مواطن من ابين، وهو المصطلح الذي يحب الجنوبيون نعت الشماليين به: دحابشة. تأكد لي معنى النظرات التي كان يتقاسمها المسافرون، المدينة تعاني من انفلات لم تعشه في أي وقت مسبق، هذا ما همس لي به مواطنين محليين. عاد الرجل النحيل، يتبعه الطفلان نفسهما، موجهاً لي خطابة عن الاحتلال والجنوب الحر. كنا خارجين من الكافتيريا الصغيرة، همس لي مرافقنا، انه مجنون.
القاعدة تأتي (جنوباً)
تحدث شخص من جعار عن القاعدة، التقيته في طريق سفري إلى عدن، قبل ذهابي زنجبار، باعتبارها مسرحية النظام لتدمير الجنوب. هناك تبسيط شائع حتى في صنعاء، شخصيات سياسية معروفة ساهمت في خلق فكرة عنها كونها خرافة علي صالح، وكأنهم بذلك كانوا يجردونه من ضرورة وجوده في رأس الحكم، وكأن مسلمات الحكم في اليمن، أولوية أمريكية أولاً.
بما أننا قادمون من الشمال، البعض هنا يعتبر القاعدة مسألة محرجة، اوقعها بهم الشمال نفسه. مع ذلك تؤكد زنجبار وجود لعبة أكثر من مزدوجة. تجاهل محمد سؤالي مرتين اسمه الثاني، واكتفى باسمه الأول، التقينا به عند سوق المدينة، اشترى القات باكراً، وأخفاه تحت قميصه الفضفاض عند البطن. كان يدخن سجائر (بال مال)، لكنه رضخ لإلحاح زميلي الذي قدم له سيجارة مارلبورو، قال “لا يوجد انتحاري جنوبي، كلهم شماليين”. لعبت القاعدة على تلك الحساسيات لتكسب وجود هنا.. بينما كنا جالسين في منزل بالشيخ عثمان في عدن، سمعنا أصوات طلقات نار في الهواء. التفت نحوي الجميع: شوهت عدن. كانت خالية من المظاهر المسلحة. بعد دخول شابان من جعار، أثرتُ الحديث عن القاعدة. وبدت الاشارة إلى حدوث طلقات النار مثل القاعدة، باعتبارها مخلوق شمالي أُنبت في الجنوب من وجهة نظرهم. “عندما وجد النظام أن الحراك ازدادت قوته بدرجة كبيرة، اختلق وجود القاعدة” قال خالد. يبدو الأمر كما لو أنه دفاع عن تهمة أكثر منه اعتراف بواقع. أضاف: سنجد معظم الذين في القاعدة، سواء قادة أو أعضاء؛ شماليين. لكنه بعد ذلك سيشير للبطالة كسبب. منذ سنوات تخرج، ومازال لا يعمل. “ماذا تتوقع من شباب لا يعمل” لم ينضم للقاعدة، لكن أحد أقاربه كان عضواً بارزاً فيها، وقتل بهجوم استهدف مسلحين.
قاتلت مع اللجان..
أكد لي مواطنون أنهم شاهدوا أربع أو خمس سيارات تطوف محملة بمسلحين متشددين، قبل يوم من دخول القاعدة، كان يوم خميس. وفجر الجمعة، صحا السكان على إمارة زنجبار الإسلامية، وكانت الحكاية التي نعرف شكلها الخارجي على الأقل. تحدث محمد بأنه شارك ضمن اللجان الشعبية في المعارك ضد القاعدة. حكى لنا الشاب، الذي رافقنا معظم وقت بقائنا في زنجبار، عن معركة قال إن الطائرات الحكومية قصفت مسلحي اللجان، وكان يفضل أن يكون الأمر مقصوداً وليس خطأ، باعتبار أن الحكومة لم تكن تساندهم كما يجب، وربما تواطأت. في تلك المعركة قُتل كثيرون بينهم عم محمد النخعي.
وسط السوق ناداني شاب يجلس على دراجته النارية، بين عدد آخر من الدراجات، يستأجرها المواطنون لمشاويرهم، وطالما استخدمتها القاعدة كوسيلة قتل. “أنا من مقاتلي اللجان” قال متفاخراً، تحفر العظام حدود وجهه بوضوح. “الناس يشكون منكم” اخبرته. وهو تصريح لم أبحه للمسلحين. امتقع وجهه حين سئلت عن اسمه، صمت لبرهة، واستعار احد الأسماء: صالح. غير ان التصريح بالانتماء لمقاتلي اللجان، لا يشبه طريقة الأهالي الآخرين في إخبار مأساتهم. الفرق بين إدعاء بطولة وسط دمار كامل، وبين الشعور بالالتصاق في مأساة المدينة. وكالعادة فالمنتصر تطغى البطولة على كل تفاصيل مشاعره، حتى خوفه وموته بطولة. لا يعني أن جميع مسلحي اللجان اليوم، شاركوا في المعارك، كثيرون أنضموا بعد خروج القاعدة. أحد مواطني لودر، قال مدافعاً عن اللجان، بأن تلك المشاكل، التي يشكي منها بعض المواطنين همساً، في زنجبار فقط، بسبب انضمام معظمهم بعد الحرب.
كانت الدراجات النارية تكتض بعشوائية مع الباعة الجالسين مقابل عربياتهم الصغيرة، أو بسطاتهم الخشبية. غطاءات بلاستيكية زرقاء، فضلات تطفو بمحاذاة رصيف ترفسه الاقدام. وعدا هذا الركن المكتض، مع الشارع الفرعي الذي يسوق للمطاعم وسوق القات، يشبه التواجد البشري الاعشاب أو الواحات المتباعدة في صحراء.
كانوا لكنهم صاروا....
«1»
همس لي شخص مشترطاً عدم ذكر اسمه: البعض كان يقاتل مع القاعدة، واليوم يرتدي زي اللجان الشعبية. ذلك ما يدور كشائعة. بالطبع مازال بعض المتشددين في المدينة، وربما صادفناهم في السوق أو مكان آخر. ما أن تدخل زنجبار، حتى تتوقف عند نقطتين متتاليتين للمسلحين، قبل مربع الجرة. وجدت رجل بلحية كبيرة. هل كان أحد مقاتلي القاعدة، واليوم ينتمي للجان الشعبية؟ تساءلت. “من كانوا قعدة حلقوا لحاهم” قال أحدهم مبتسماً.
يقول البعض أن زعيم اللجان الشعبية في ابين، عبداللطيف السيد، ارتبط بالقاعدة. تختلف المصادر حول نوع العلاقة. ربما ارتبط بعلاقة شخصية مع قيادات في السابق، أو حتى عمل معهم. لكن هذا لا يشكك من أنه شارك في القتال ضدهم، وتعرض لمحاولات عدة لاغتياله، إحداها في جلسة عزاء عمه، حين وضع أحدهم متفجرات وأدت إلى قتل حوالي 56 شخصاً. نجا السيد لكنه اصيب عندما فجر انتحاري سيارة مفخخة امام سيارته، في خور مكسر- عدن، بينما قتل بعض مرافقيه. ومؤخراً عاد من السعودية، بعد ان تكفلت الرياض بعلاجه، ضمن سياسة تحرص على بناء روابط قوية مع كل بؤر التأثير في اليمن. كانت جعار أول ملاذ حقيقي للقاعدة في ابين. وبعد طرد أنصار الشريعة من زنجبار رفض أهل جعار أن تستميت القاعدة في مدينتهم. أنقذوها من دمار شامل، وكانت زنجبار الضحية. لكن الأخبار تتعدد وتتغير، البعض قال أن السيد أنضم في البدء مع القاعدة، لكنه وجدهم يقتلون مسلمين.
«2»
أكد لي أحد الزنجباريين أن (م. ف) احد قيادات اللجان الشعبية في زنجبار كان قيادي في انصار الشريعة. وإذا كان ذلك صحيحاً، السؤال سبب تحول البعض من المناصرة إلى المواجهة. فالانتحاري الذي فجر نفسه بجانب مبنى المحافظة القديمة في زنجبار، واسقط قتلى وعدداً من الجرحى بين مقاتلي اللجان، ربما كان يتخفى في شكل مألوف. بعد أن فتشوا علي سالم، قال النخعي: هؤلاء من الذين خاضوا المعارك بالفعل، وهم مستهدفين من القاعدة. ومن عدن أخبرني، انه لا يدري كيف غفلوا عن المفخخ رغم حيطتهم. فعندما لاح علي سالم من بعيد ناحيتهم، صرخ أحدهم: إثبت. بظرافة أجابهم، وهو يلوي ذراعه مع ضحكة منفلتة: ليس لدي ألغام. لم يكن يدرك جدية الموقف، أعتقدها مزحة عابرة، وتبين له الخطر، عندما رفع أحد المسلحين سلاحه من بعيد، توقف ورفع يديه، ثم أحاطه مسلحان يفتشانه.
تأخرنا قليلاً نلتقط صور. للوهلة الأولى اعتقدت الأمر دعابة أيضاً، فجأة ظهر لون ابيض من الزرقة القاتمة في ملابسه. اعتذر لنا جمال الراعوي عن ما حدث. “ما قاموا به جزء من عملهم الطبيعي” قال علي سالم متفهماً. بعد وصولنا، أخبرتهم إن كانوا فتشوا في شعره الطويل، ابتسم المسلحان. “بعضهم يتظاهرون بأنهم يصوروا ليقوموا بالتفجير” قال مسلح بجدية، كان يرتدي جاكيت عسكري بينما يسير أمامنا حاملاً شاي بكوب بلاستيكي. يحرصون على ترك مسافة كافية بينهم والمشتبه به. وكان جمال ورفيقه يتوقعان أن ينفجر بهما، لكن سيجنبا بقية رفاقهم الموت. استمر وجوم يرسم وجوههم بغيوم سوداء. كانوا ضمن المسلحين الذين حاصروا الشيخ طارق الفضلي. وبعد انسحاب الفضلي بأيام، تحول انتحاري أشلاء هناك. دخل الفضلي بصحبة عشرات المسلحين، وعززت اللجان بمقاتلين من لودر ومناطق أخرى. ويقول البعض إنها محاولة لاستعادة زنجبار.
«3»
خلال إجازة العيد إحدى نقاط التفتيش، قتل مسلحي اللجان، سائق يافعي، يعمل بين باتيس وعدن. تعطلت مكابح سيارته، وعندما لم يستطع التوقف أمام نقطة تفتيش، قام احد المسلحين بإطلاق النار عليه. أخبرنا محمد هناك عن إشكالية بين اللجان وأبناء يافع، بسبب تلك الحادثة. بعد فترة، أتصل بي أبو شداد، فمع عودة زعيم اللجان الشعبية من السعودية، أراد احتواء الأزمة، عرض على قبيلة المقتول دية كبيرة، لكنهم رفضوا، وطالبوا بالقاتل. “القتل غير مقصود، والسبب تعطل سيارته” قلت. أجاب: لكنهم يعرفونه، فهو يعمل دائماً على الطريق. وقد تكون إحدى مشاكل الجيش الشعبي، نقص الاحترافية، حتى أنه في ظروف طارئة، يمكن لجنود نظاميون التورط في ذلك. مثل تلك الأزمات يمكن لأنصار الشريعة استثمارها ضد اللجان.
انصار الشريعة ليست قاعدة
صحافي يعمل مع رويتر، ينتمي لجنسية عربية، أكد أن القاعدة الحقيقية هي اللجان الشعبية. وأنا لا أريد تبسيط الأمور، بما يحاول البعض تلخيصه كنتائج حتمية في عدة مفردات. لكن تؤكد معلومات، أن اشتباكات حدثت بين المسلحين، في الفترة الأولى من دخول زنجبار. ومؤخراً التقيت برجل تعرفت عليه عبر أصحاب مشتركين، يتعامل مع القاعدة كما بدا لي، إن لم يكن قريب منهم، حتى أني شعرت بخطر قد يحدق بأي منا من شخص قريب. وعندما حدثته عن زيارتي زنجبار، حذرني مناف (وهو اسم مستعار) كشخص يهمه أمري، عدم الإشارة إلى أن أنصار الشريعة قاعدة، لأنه قد يعرض حياتي للخطر. وبدا لي أنه من الممكن تورط بعض القريبين منا مع القاعدة دون معرفتنا وأشار إلى أن الاشتباكات بعد دخول زنجبار، كانت بين القاعدة وأنصار الشريعة.. عندما التقيت برجل من شبوة سمى نفسه “أبو شداد”، قال أن الخلاف بين أنصار الشريعة وبعض قيادات اللجان الشعبية، سببها تقاسم ما (غنموه) من البنوك عند دخولهم. هل يجب ان اتعاطى مع كل ما يقال لي كحقيقة؟ بالطبع لا، لكن تتصادم مجموعة المقولات بتبايناتها والتقاءها لتفسح لرؤانا افق. ذلك يؤكد بالفعل حدوث اشتباكات بين المسلحين، وربما يكون أحد أسبابها تقاسم المال، وربما شيء آخر. وهذا لا يعني بالضرورة دقة ما قاله الصحفي العربي، بل ذلك يقودنا إلى تحالفات صاغها تواجد القاعدة، اللعب على مجموعة احتياجات ورغبات، وحتى على تشوهات. وربما يقودنا إلى تشكل تيارات داخل التنظيم نفسه، يحاول كل طرف تأكيد أنه الإطار الشرعي لتنظيم أسامة بن لادن.
فكما أخبرني الشاب الذي جمد أوصالي إحتمال وجود صلة له معهم حتى بعيدة، أن القاعدة الحقيقية تركز على رؤوس الاستخبارات الامريكية. في الغالب مهمة الصحفي نقل آراء الناس، وأقوالهم. رد جازماً: لديك عقل. أو هذا ما يمكن أن يخبرني به رجال القاعدة الحقيقيون حد تعبيره. وكم يبدو مروعاً أن يفكر المرء، بعدوى زنجبار أن تصيبه، كشظية من بعيد. لكن من يدري ماذا هو الغد؟
أنفاق وألغام
تطفو المدينة فوق مستنقعات متفرقة من الالغام، وهي واحدة من أكثر المخاطر هناك. انتبه رفاقي لمغالاة حذري. آخر اسبوع العيد، انفجر لغم في الجهة اليمنى من سيارة علي ناصر (مواطن من زنجبار) اصيب بينما قتل ابنه. كان اللغم مزروعاً بجانب بيته. وبنصف مزحة، ونصف تحيط، كنت أنبه زميلي من وضع قدمه على الأماكن الترابية. واستمر هاجس الألغام معي، حتى بعد عودتي عدن، تلقائياً كنت أجد نفسي أتجنب الأماكن الترابية.. عند النفق اضطررنا الدخول في منطقة ترابية، “هل هناك الغام” سئلت مجدداً. لكن محمد ضمن لي مبتسماً، ودخل. حرصت على وضع قدمي على أثر خطواته. جزء مردوم، شجيرات السيسبان تبصق فروعها محاذاة للأرض. يؤكد الناس هنا أن النفق موصول باللواء. حفرة تكفي لسقوط جسد، تنتهي إلى سرداب، حسب مرافقنا، أكد أنه بقامة إنسان. شعرت أني سأختنق إذا دخلت. “ما رأيك أن تقفز”. علق محمد ضاحكاً ناحيتي. في الجهة الأخرى من الشارع ظهر أخدود نبشته جرافة، مازال آثار إطارها ينحت التراب. يمتد الأخدود لأمتار، ناحية اللواء. طلب مرافقنا من زميلي عدم التوغل اكثر، خوفاً من الألغام. كان إبقاء الأخدود جزء من تأكيد وجود النفق، في تلك الناحية. عمقه أزيد من مترين، على الجدار الترابي جهة الطريق يسارنا، برز خطاف حديدي سميك. “لا تصوروا في هذا الاتجاه” أشار محمد حيث كان يلوح اللواء. لكن متى بالفعل حفروه أنصار الشريعة؟ المرجح أن يكون بعد سيطرتهم.
فيلم صامت
كنا كما لو نتتبع آثار ماض قريب، أفواج موت لامرئية، ماض مازال حضوره قوياً وغامضاً. ملامح الدمار تتفاوت على المباني، آثار قذيفة على مأذنة مسجد بجانب السوق، في مكان آخر مأذنة سُلخت. على أحد الجوانب عصرت الحرب مجموعة أشجار، سودت جذوعها وفروعها، وتلوت أغصانها بعضها على هيئة حربة شيطانية كما لو سقطت من رسوم قديمة. سقوف أنهارت منحدرة، بعضها تشكلت أجزاء منها كسقوف قرميدية. ونحن ندور وسط ما خلفته الحرب، بدا كما لو أن الاشباح التي قاتلت تجري هنا وهناك، ثكنات افتراضية، أنابيب قتل تلوح من الثقوب. هل كان فيلماً صامتاً، موسيقاه التصويرية اصوات الحياة الخامدة اليوم.
استمر هذا الايقاع المتداخل بين حضورنا الحي، والمشهد الملتهب للحرب الفائتة في ركن مبنى تعرى، عدا جدار مازالت رفوفه محفورة ترتص عليه أدوية صمدت مكانها. جزء من صيدلية كانت قبل الحرب، حولها اشلاء الدمار، بجانبة عمود مائل من الارض مستنداً إلى ظهر المبنى. للحروب طريقتها في الكلام، ذلك الركن المبتور عن بقاياه إيحاء لصوت الحياة التي كانت واجتثها الحرب. فوراء بشاعتها، يمكن لملامح جمالية أن تبقى في شكل الدمار. لا أدري إن كانت ملاحظتي جزء من مازوشية بشرية، ربما قسوة، أو ميل واضح لما هو تراجيدي. تمنيت حينها أن أكون مصوراً محترفاً، أو رساماً. ذات يوم عبر بيكاسو عن بغضه للحرب في طلاسم تكعيبية اسماها “الغرينكا”. فوراء التعاطف يخفي الانسان مقداراً مشابهاً من القسوة.
«بيت الموت الأكيد»
اشار النخعي ناحية مبنى تجمعت طوابقه الثلاثة في الطابق الارضي. حذرنا شابان ونحن نلتف في اتجاه المبنى، كأنهم ادركوا هواجسي: هناك الغام.. غير أنهما سرعان ما أكدا بأنها مزحة. سبقنا محمد إلى السوق مستأجراً دراجة نارية، حتى لا يفوتنا الغداء في المخبازتين الوحيدتين. بوابات لمحلات فارغة، مكتوب على ابوابها “خالي من الالغام”، وفي جدار حوش لمبنى أخضر تحذير بوجود ألغام. كان مبنى حكومي يتبع “الهيئة الوطنية للمرأة” وصار “منزل الموت الأكيد”.
عند دخولنا ناحية المطاعم، نظر لنا رجل يرتدي جاكيت عسكري زيتي، بنظرة ثلجية. قال مرافقنا بينما كنا على الرصيف المرتفع المحاذي للمخبازة. من يرغب منكم شراء رصاص، وأشار ناحية الجنديين. على قسمات الجندي ذو الشارب المنكش، نظرة اعتادت هذا النوع من الإحساس بالخيبة، مادام لم يعثر على من يشتري رصاصاته. ونحن ننتظر بجانب المطعم، “يبدوان كأنهما جاءا من كوكب آخر” أشار علي سالم ضاحكاً نحو شابين، ملابسهما تقتفي آثار موضة، أتبعها شباب مصر الصيف الماضي؛ بنطلون قصير بلون التبغ، مضغوط برابط مطاطي تحت الركبة، حذاء رياضي، وتي شيرت أبيض، كان الآخر يرتدي نفس الآلوان لكن بأطراف طويلة.. بينما اتناول الأكل بيد، أحاول ابعاد الذباب بالأخرى. كنا الأكثر حديثاً، يجلس البعض في المطعم إلى صحون متقشفة، نظر نحونا رجل بعينين جاحظتين ومرهقتين، يأكل بصمت. كانت عيونهم متعبة. ازدادت كثافة شجيرات السيسبان، أخذ الطريق يبتعد عن شاطئ بحر العرب، فجأة بعد منطقة الكود، استلقت حولنا حقول الموز، المرصعة باشجار الباباي “العنب الشام”، كرقاب زرافات، على رؤوسها فوشات افريقية.
حزن حكيمة
بعد الغداء أخذَنا التاكسي ساحة الشهداء. كان مجموعة من المسلحين يتعاطون القات عند المدخل. عدد من العائلات تسكن هنا. استعاضت العائلات مبانيها المهدمة المرافق الحكومية. أبواب تسدها ستائر من الخرق. كل المرافق مسموحة عدا المدارس ومراكز الصحة العامة. وسط الساحة رافقنا بندر، قال ان أباه مات بعد نزوحهم بسبب مرض. لم يخبرنا بوضوح عن المرض، ربما مات لسبب آخر. ظهرت منصتان عليها ملامح الضرب. “أخذوا الذهب حق التماثيل” قال بندر. “تقصد البرونز” صححت له. لا يوجد أي أثر للتمثالين، قامت القاعدة بهدمهما لأنهما شكل وثني كما يعتقدون.. مقابل مبنى متحف زنجبار، تبعنا دحباش يقود دراجة نارية، خلفه ابنتيه الصغيرتين والمصابتين بمرض جلدي. كان هناك مبنى لحزب المؤتمر، أعلاه لوحات (بعضها تفسخت) عليها رمز الحصان، بجانبه مبنى لحزب الاصلاح، تشترك عليهما حروق الحرب. تتمحور قصة بندر التي يريد نقلها لنا، عن جمجمة وجدوها بجانب الجامع. تتوالد قصص الف ليلة وليلة مما يحكيه أشخاص.
هل كان مرض سببه تلوث ما بعد الحرب. بثور قرمزية، وجلد منتفخ بتقيحات بيضاء. البنت الكبيرة ريم في الثامنة من عمرها، كانت آثار البقع في مراحلها شبه الأخيرة. دوائر قرمزية تطفح كجروح (مخلوسة) وآثار تقيح. على جلد البنت الصغرى، كانت التقيحات واضحة، في الساقين، البطن، الظهر.. تنتشر تلك البثور. لن انسى نظرة حكيمة ذات الخمس سنوات ما حييت. عيناها العسليتان تختزنا حزن زنجبار، طفولتها الضائعة. ثبتت نظرة إلينا من وسط مرفقها الذي تعرضه لصورنا، بوجه برونزي. هل رأت فينا خلاص من مرضها، ربما من مرض آخر يسكن مدينتها الصغيرة والمدمرة. كان أطفال يلعبون الكرة، تجمعوا لنصورهم، ولم نسمع صوت حكيمة، كانت تومئ برأسها فقط، جامدة، مشدوهة، وفزعة. ولم نكن نرى النساء، سوى في ذهابنا وعودتنا، منقبات وحائرات. ووراء الخرق التي تغطي المساكن الافتراضية تعيش مأساتهن أيضاً.
جمجمة بجانب جامع
أخذنا بندر عبر بوابة المتحف، الذي اختفت كل محتوياته. بجانب الجامع جمجمة، تظهر شكل القتل الذي تعرض له صاحبها، رصاصة اخترقت سقف رأسه، والأرجح أنه أُعدم. تعود للفترة الأولى من دخول القاعدة. وخزت انفي كهرباء بلا رائحة من الجمجمة، فقط ما تبقى من رائحة ميت. من كان ذلك الرجل؟ لا أحد يعرف هويته. رفع بندر الجمجمة بخشبة من بقايا بناء، ثم أعادها مطرحها بجانب الجامع. قال أن الناس قرروا دفنها، لكن لم يحدث. هناك تُركت كأثر لحياة كانت، وهي ما حكاه بندر لنا، كمشهد قصير. نفذت القاعدة إعدامات لأسباب متعددة، بينها التجسس والشذوذ. واتهموا البعض بإلقاء شرائح تهتدي عليها الصواريخ، وقبل هروبهم من زنجبار بفترة، بلغ ما أعدموه 20 شخص بتهمة التجسس. كانت الساحة ترسمها أخاديد صغير، تم حفرها لسرقة الكابلات الكهربائية.
الملعب في ظهر دراجة
بعد خروجنا من ساحة الشهداء، التقينا قائد الدراجة النارية الذي طلب منا المجيء من اجل المرض الجلدي، كان يشكو من المنظمات التي تقدم المساعدات الإنسانية. يبدو أنه الوحيد الذي أعطانا اسمه الحقيقي، تحدث ناصر: عن سقوط 160 عائلة تقريبا من الإعانات، معظمها تسكن الفلوجة والساحة، وهم في الغالب أرامل. أتهم القائمين من المجلس المحلي بالتلاعب بالقوائم التي قدموها للمنظمات. قال شاب كان بجانبه، بأن البعض سجل أسماء أقارب لهم، ليستفيدوا من الإعانات، رغم عدم تعرضهم لأضرار، بينهم عائلات تعيش خارج ابين. غير أننا كنا بحاجة للقاء تلك العائلات. ثمة محاولات للتلاعب، من اجل الاستفادة من إعانات إضافية. بعضهم تمكن من القيام بذلك، وآخرين لم يتمكنوا. كان مبنى كلية أبين المقابل للساحة ممرغ ببعض ضربات الحرب.. وعلى كرسي الدراجة النارية الواقفة بجانبهم، قطعة خضراء من الملعب الرياضي الذي افتتح لاستضافة خليجي عشرين في ابين. قطعة بلاستيكية بشعيرات لتماثل العشب، تغاضى حينها الاتحاد الخليجي عن عدم اتفاقها والمواصفات، حتى تنظم اليمن البطولة. وانتهت أرضية الملعب هناك في كرسي دراجة نارية وفي أرضيات البيوت، توزعت حسب نزوات الذين اجتثوها من مكانها وتقاسموها. وما فعله سائق الدراجة النارية، استمرار لما فعله المسلحون بالملعب، حد ما أخبرني أحد المواطنين.. قرر محمد تركنا، سينضم لأصدقائه من اجل القات، بعد أن رافقنا ثلاث ساعات. وبعد ذهابه، استمر معنا بندر الذي توقفت دراسته، بسبب نزوحهم وإغلاق المدارس. وعند مربع الجرة، تركنا قبل أن نغادر المدينة، من الصعب المكوث هنا، لا وجود لفنادق. كل شيء هدمته الحرب.
أمير أنصار الشريعة
قبل مغادرتنا أردت رؤية منزل جلال بلعيدي أمير أنصار الشريعة في زنجبار. يؤكدون هنا أنه كان شخصاً يحظى باحترام الناس. لكنه الإطار الخارجي، بينما ظهرت ملامح مخفية لشخصيته. فعدى أنه ورطهم في الحرب كان متورط بتخزين السلاح، أكدت مناف أن علاقته مع القاعدة اقتصرت على ذلك. كما أن البعض يتهمه بالسرقة والقتل. يقع منزل جلال في حي فرحان، وسط زنجبار، طابقين بلون إسمنتي، لم يتعرض لأضرار، بينما مقابلها سيارة تويوتا محروقة لجاره.
أخبرني مرافقي أن جلال كان صديقه. لعب بلعيدي في نادي حسان كحارس مرمى. ثم ترك الكرة، ولفترة طويلة كان إمام أحد الجوامع. يقول مواطني زنجبار، أن الشبهات دارت حول علاقته بالقاعدة في السنوات الأخيرة، لكن لم يستطع أحد الجزم بذلك، وفي تلك الفترة داهمت الشرطة كثيراً منزله. ومع الترجيح بانضمامه للقاعدة عام 2003م، لم يترك حصوله أي آثار لانتمائه، يساعده مظهره الهادئ والمسالم، استمر يعمل بصورة عادية في المدينة، موزع للخبز في الفرن الذي يبعد خطوات عن بيته، ثم عمل في مكتبة. مع ذلك تورط في أعمال قتل، حسب معلومات، مستخدماً دراجته النارية. حتى أن أصدقائه كذبوا الأخبار حول انضمامه إلى القاعدة، بعد اختفائه المفاجئ، ولم يصدقوا إلا بعد عودته كأمير لزنجبار. أما كيف تم تنظيمه، فهذا ما لا يعرفه أحد.
صراع قوي
يقول مناف: أن جلال مرتبط بطارق الفضلي، الذي جند كثير من شباب المدينة أصحاب السوابق لمصلحته. ذلك لا يمنع من وجود علاقة مع القاعدة انتهت إلى خلاف. فهل كانت إمارة زنجبار الإسلامية، توطئة لاستعادة الفضلي سلطنته؟ وهنا نستنتج كثير من التساؤلات، هل اعتمد الفضلي على أدوات التنظيم، من اجل خلق قاعدته الخاصة؟. وما معنى قاعدة حقيقية وأخرى مزيفة. ووراء ذلك المشهد المدمر لزنجبار، نرى وجه مروع لشراهة النفوذ، فربما ما يحدث في زنجبار هو صراع قوى لها جذور على الارض. فالفضلي أكد في لقاء، أن جهاده اقتصر على الشيوعيين ولم يصل مرحلة الجهاد ضد امريكا. وربما قصد هذا النوع الجديد من الجهاديين والانتحاريين الذين تم اختلاقهم. كما أن ذلك سيؤكد مقولات أخرى عن وجود قاعدة اختلقتها مراكز نفوذ كبرى في اليمن. وتلك تكهنات تحتمل الكثير. في طريقنا إلى الساحة، لاحظت شاب يجلس بين مجموعة مسلحين يتعاطون القات في الشارع، مستندين إلى ظهر بيت، كان أحدهم يرتدي جنبية. ومنذ فترة طويلة اختفى هذا الرداء التقليدي من ابين، سئلت عن هويته، كان الشقيق الأصغر لطارق الفضلي.
ليست نفسها قاعدة بن لادن
يوم عودتي التقيت في عدن، قيادي سلفي ينتمي لمحافظة شبوة، حيث ينتشر كثير من أعضاء للقاعدة، الذين يلتقي بهم ويعرف ارتباطهم. “القاعدة اليوم ليست نفسها قاعدة ابن لادن”، قال لي. مشيراً إلى العنف الجنوني، حيث يمكنهم قتل العشرات والمئات من اجل قتل شخص واحد. برأيه بن لادن لم يكن يقتل مسلمين. “هل تبارك قتل الآخرين” سئلته، أشار إلى أنها قصة أخرى. وقال إشكالية القاعدة الكبيرة اليوم أنها لا تمتلك مرجعيات دينية. ذات يوم سئل أحد ناشطي القاعدة في منطقته: اعطوني مرجع ديني لكم. وأضاف أن أهم مرجعية لهم، شخص اسمه ابو علي المصري، أُعتقل في غوانتناموا، وتعلم كل الأدبيات الدينية هناك.
من وجهة نظره، تتشابه أدبياتهم مع الأدبيات السلفية، لكنهم يختلفون في الأدوات: هم يريدون تحكيم شرع الله بالعنف، بينما السلفيين يرونها في الدعوة، كما قال. مع ذلك الجذور الفكرية تساعد على قيام هذه الانشقاقات المغالية. وقال أن تلك الأدبيات موجودة أصلاً في التراث الإسلامي؛ الموروث الفقهي الديني: كتب ابن تيمية، ابن كثير، وكثيرون. لكنها من وجهة نظري لم تكن الأدبيات الوحيدة في هذا التراث. عندما أخبرته أنني عازم على كتابة آراءه، شحبت ملامحه، ومع أنني طمأنته بعدم ذكر اسمه، لم يزاوله القلق.
أفراد من ا لقاع
توظف الجماعات المتشددة، أزمات معظم الشباب الذين تستقطبهم، ربما الجانب المادي يكون أكثر وضوحاً، لكن هناك جوانب أعمق على صعيد شخصياتهم. فغالباً تستقطب افراد من قاع المجتمع، يعانون من الفراغ، أنتج لهم الواقع إحساس فظيع بالضياع، ، تحتويه أفكار توهمه بصورة مثالية تخصه وجماعته دون الآخرين، فيتحول الإحباط نزوعاً للقسوة. تعيد القاعدة إنتاج الشعور بالذنب الهائل؛ تعميق العنف وراء ستارة من الإيمان الهادئ. يقول إميل سيوران أن الإنسان مستعد للموت من أجل الوهم، وهو تصور نيتشوي.
بعض الذين استقطبتهم القاعدة، أو تنظيم أنصار الشريعة، كانوا فنيين تلفونات محمول. ويتم استخدامهم، من اجل توصيل المتفجرات بأجهزة اتصالات كما أظن. وهذا ما أخبرني به أحد أعضاء اللجان الشعبية. ومنهم من عثر في الدين على ستار يتخفى وراءه، حيث جاء البعض من الشوارع الخلفية لزنجبار، وفجأة تحولوا متشددين، تستهدفهم طائرات أمريكية بدون طيار.
قشة بؤس كبيرة
استحالت الحرب زنجبار قشة كبيرة من البؤس، والدمار. عزلتها عن العالم، لا كهرباء. خصوصاً بعد سرقة الكابلات الكهربائية. أما المياه فمتوفرة، كما أخبرونا المواطنون، مع ذلك عدادات المياه لم تنج من السرقات منذ يومين. مسلحي اللجان غير قادرين على منع السرقات كما يتحدث البعض. ودون تدخل الحكومة، تسير المدينة إلى الاضمحلال. مسلحي اللجان هم ايضاً يتحولون إشكالية. ميليشيا غير نظامية، ستكون عبء يقوض أي وجود للحكومة. وربما إخراج زنجبار من محنتها. تخصص وزارة الدفاع موازنة شهرية للجان الشعبية، تسلم عبر قائد اللواء فيصل رجب. ويحصل الشباب الذين انضم بعضهم للجان بعد الحرب، على راتب يبلغ 25 الف ريال يمني، إضافة للتغذية، وتنفق المخصصات بنظر قيادات اللجان. واذا انقطعت عليهم يمكن تحولهم إلى شيء آخر. أما بالنسبة للبائعين، فأهم شيء لديهم أن انصار الشريعة لم تكن تطلب منهم ضرائب.. بالنسبة لكثير من المواطنين الحرب لعبة أرادت منها الحكومة، هدم زنجبار. وعندما أخبرت أحد مواطني أبين أن نتيجة الحروب داخل المدن، يشترك بها المسلحون والجيش. قال مواطن من ابين يعيش في صنعاء، أن الجيش كان يعرف أماكنهم، إنهم أتباع الفضلي..
الخوف مما سنعرفه
استطعت فهم معنى نظرة حكيمة، كانت خائفة مما تريدنا معرفته، وهو ما كانت تنظر إلينا به المدينة، الخوف مما علينا معرفته، لأن جلاد وقاتل يقف وراءها. قال لي، انه لم يجروء على البقاء أكثر من ساعتين في زنجبار، شعر بالنظرات قاسية نحوه. كانت بعض النظرات توخزنا كإبر ثلج، بحب استطلاعها، وما أن نكون بجانب محليين حتى نبدو أكثر ألفة مما لو كنا أغراب بالمطلق. هكذا تكتشف مغزى أن يكون وجود القاعدة بواجهة من أبناء المدينة. وهي الدرجة التي تبدلت بها صرامة المسلحين وهم يفتشون علي سالم، مشتبهين به، إلى نظرة مرحبة بنا حين عرفوا مرافقنا. مخاطر رجوع القاعدة، أو إرسال مفخخ، المصاعب الأمنية، تجعل من كل غريب عرضة للتساؤل والاشتباه. عادت أشجار الباباي تظهر متلوية، وكان في عودتنا تبدل عكسي، من وديان الموز الملتفة بأشجار النيم، وصولاً إلى كثبان رملية، بعضها محددة بأعمدة خفيفة، كإشارة إلى أراضي مملوكة. عدت منهكاً، ولمدة من الزمن وانا اكتب، تتشبث بي، تلك المشاهد، وانا أدور في مدينة، وأحسب اني أغرق في كابوس عبثي..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.