تتميز دول الخليج العربية وبحكم الطفرة المادية فيها بتواجد عدد كبير من الجمعيات الخيرية المتنوعة الأنشطة فهناك في قطر مثلاً عشر جمعيات خيرية وإحدى عشرة جمعية في الإمارات وعدد يصعب حصره من الجمعيات والوقفيات في الكويت. معظم هذه الجمعيات لا تمارس أنشطة تخصصية إنما تقوم بالعمل في مختلف مجالات العمل الخيري. كل الجمعيات تقريباً تعمل في مجال الأيتام ودعم الأسر المتعففة وحفر الآبار وبناء المساجد وطباعة المصاحف، وقلما تجد جمعية تحدد نطاق عملها في إحدى أو بعض هذه المجالات. لعل السبب الرئيسي وراء ذلك هو الوفرة المادية لدى هذه الجمعيات، بعض الجمعيات تدور ما يصل إلى نصف مليار ريال قطري سنوياً، والبعض الآخر يملك أوقافاً ضخمة تدخل عليه الملايين شهرياً، مما يسمح لقيادات هذه الجمعيات أن يتوسعوا في العمل دون خشية من نفاد الموارد، وهذا على عكس الحال في الدول الأقل حظاً، حيث تجد الجمعيات تصارع للبقاء، فتجدها رهينة لنقص التبرعات، وقد تضطر لإيقاف نشاطها نظراً لعدم وجود دعم. التخصصية مفهوم إداري راسخ وأداة من أدوات التميز، وستجد أن معظم المؤسسات المتميزة عالمياً وصلت إلى هذا التميز من خلال تخصصها في مجال محدد وبراعتها فيه خذ الصليب الأحمر على سبيل المثال، منذ نشأته كانت رسالته قائمة على رعاية المتأثرين بالحروب والنزاعات المسلحة، وامتد عملها للكوارث وحتى يومنا هذا كلما نشب نزاع في دولة ما تجد الهلال أو الصليب أو نجمة داوود حاضرة بقوة، سواء كان ذلك في فلسطين أو سوريا أو كمبوديا فالرسالة واحدة «حماية أرواح وكرامة ضحايا النزاعات المسلحة وغيرها من حالات العنف». لكن هل هذه التخصصية تناسبنا في ظل الإمكانات الموجودة والثقافة الإنسانية التي تتميز بها مجتمعاتنا المتدينة؟ فقد يقول قائل: إنه من الإجحاف أن نطلب من مؤسسات ضخمة تتوفر لها إمكانات لا محدودة أن تتقزم إلى مجالات محدودة، فالباب أمامها مفتوح لأن تسهم في إعانة المحتاجين بكل سبيل وطريقة. بينما سيشير آخر إلى أن هذا التنوع في النشاط لم ترافقه جودة في الميدان، فمعظم الجمعيات الخليجية يكاد ينحصر دورها في إيصال المساعدات إلى جمعيات أخرى لتطبق هي البرامج في الدول التي تعمل بها، أما النشاط المحلي فهو يعاني من إشكالات، فمثلاً تجد نفس المستحق يتلقى معونة من أكثر من جمعية. لو عدنا للتاريخ الإسلامي لوجدنا نموذجاً يقدم لنا حلاً لهذه المعضلة ألا وهو المؤسسات الوقفية، الأوقاف في العصور الإسلامية المختلفة كانت تقوم مقام المؤسسات الخيرية اليوم. ولكن كان هناك نموذج مختلف في تلبية الحاجة، فبدلاً من أن يقوم الوقف بجمع التبرعات لصالح توفير الغذاء وغيره للمحتاجين كان الوقف مستقلاً بذاته مالياً، بحيث تكون هناك ديمومة في رعاية المحتاج. كانت هناك أوقاف متخصصة في تقديم الغذاء لمن يحتاجه، وأخرى في توفير العلاج للمرضى حتى المكتبات والمدارس كانت أوقافاً. هذا الاستقلال المادي جعل القائمين على العمل الخيري آنذاك متفرغين للعمل الرئيس بدلاً من أن يكون شغلهم الشاغل هو محاولة تأمين الموارد المالية للمؤسسة. لو تبنت جمعياتنا الخيرية سياسة الوقف بشكل أكبر لأوجدت حلاً لمشكلة التوسع في النشاط، وذلك من خلال إنشاء أوقاف متخصصة في كل مجال، فالجمعية الأم لديها القدرة على جمع الأموال والأوقاف التخصصية تتفرغ للعمل الميداني. وكلما فرغت الجمعية الأم من تأسيس وقف كبير قابل للنمو في مجال معين انصرفت عن هذا المجال تماماً، وتفرغت لصالح وقف جديد، ليكون لديها مع الوقت مجموعة من المؤسسات التخصصية التي لا تحتاج إلى دعم دائم وتبرعات يومية وفي الوقت ذاته متخصصة في مجالها بارعة فيه. قد يبدو ما سبق مبالغاً في بساطته، ولكن الفكرة المركزية هي العودة إلى نموذج الوقف المستقل المتخصص لضمان ديمومة العمل الخيري وتميزه، ولا شك أن بعض جمعياتنا بدأت فعلياً في مشاريع وقفية ضخمة، ولكنها بحاجة إلى أن تحرر هذه الأوقاف على شكل مبادرات مستقلة تخصصية لضمان الجودة وتحقيق الانطلاقة لكل وقف في مجاله. لو بحثنا في التاريخ الإسلامي لوجدنا أوقافاً متخصصة في رعاية الكلاب الضالة واستبدال الآنية المكسورة، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الوقف نما حتى غطى الاحتياجات الرئيسية في المجتمع وأصبح بإمكان الواقف التوسع في المجالات والتنوع في الأنشطة. فهل نعود بالوقف كرافعة اجتماعية؟