هل بدأ المشهد السوري يشهد تغييرات دراماتيكية يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير تلك التي كانت متوقعة من قبل؟ الشاهد أن هناك ملامح كثيرة في أفق الأزمة بدأت تأخذ منحى مغايراً في الأسابيع الأخيرة، تتصل من موسكو إلى واشنطن بشكل خاص، وتتواصل بذات القدر مع دول أوروبية أخرى وجميعها تقودنا إلى استبعاد حل الأزمة عسكرياً في المدى القريب أو المتوسط، حتى إن كانت كل الأطراف لا تملك في الوقت الراهن رؤية ما للأزمة السورية . من أين للمرء أن يبدأ استعراض المعطيات التي تقود إلى النتائج؟ ربما من الموقف الرسمي للأخضر الإبراهيمي المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سوريا، الذي طالب مؤخرا مجلس الأمن بتغيير دوره كوسيط لحل الأزمة في الصراع السوري ليصبح مبعوثاً للأمم المتحدة من دون أي ارتباط رسمي بالجامعة . يتساءل المرء لماذا يريد الإبراهيمي العربي الهوى والهوية أن يغسل يديه من أي ارتباط عربي؟ باختصار غير مخل لأن الرجل مستاء من تحركات الجامعة وإصرارها على الاعتراف بالمعارضة السورية، ومن عرقلتها مبادرته للتوصل لتسوية سلمية، وأخيراً في تقديره لتفضيل أطراف عربية بعينها الحل العسكري الحاسم والحازم والسريع على الحوار مع النظام والخروج من المأزق بأقل الخسائر . . هكذا كان الترويج إعلامياً ودعائياً لموقف الرجل . . هل يتسق هذا الموقف مع التغييرات الأمريكية والروسية والأوروبية معاً؟ يمكن القول من دون تهوين أو تهويل إن زلزالاً ما أصاب الأزمة السورية وتسبب في ارتباك دولي عندما دخل تنظيم القاعدة رسمياً على خط الأزمة، ما جعل جميع الأطراف الدولية تأخذ خطوة أو عدة خطوات إلى الوراء . والزلزال الذي نتحدث عنه بدأت آثاره الكارثية على الأزمة السورية عندما أعلنت "جبهة النصرة" إحدى أقوى الفصائل الساعية للإطاحة بالرئيس بشار الأسد مبايعتها لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في العاشر من إبريل/نيسان الجاري . والثابت أن "جبهة النصرة" لم تقف عند الإعلانات اللفظية فقط، بل إنها أحرزت نجاحات بعينها مع جماعات جهادية أخرى مثل "أحرار الشام" الذين سيطروا معاً على الرقة في شرق سوريا، وفي محافظة درعا جنوبا . ومع تلك "الفتوحات الجهادية" على صعيد القتال الدائر في سوريا بدأت دوائر مهمة ومؤثرة للغاية في واشنطنوموسكو و"تل أبيب" تتساءل: هل الأسد أسوأ من القاعدة؟ وإذا كنا نرغب في إزاحة الأول وتغيير نظامه فهل نكرر ما جرى في ليبيا تحديداً التي تعمل فيها ولا شك خلايا قاعدية كانت مسؤولة عن اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي؟ للمزيد من الفهم يتوجب علينا أن نقرأ وبعناية المشهد الأمريكي وما الذي قدمته للمعارضة السورية حتى الآن فماذا عن ذلك؟ بحساب الأرقام الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية فإن واشنطن قدمت 117 مليون دولار مساعدات "غير قاتلة" للمعارضة السورية، أي أسلحة دفاعية مثل تلك التي تحدث عنها الرئيس أوباما مؤخرا . ولعل اجتماع أصدقاء سوريا في اسطنبول ومن قبله كذلك قد شهد لغة أمريكية مثيرة، فالحديث هنا عما أطلقوا عليه في العاصمة الأمريكية "معارضة معتدلة" أي معارضة علمانية، يسارية، قومية، وبعيداً عن معارضة الجهاديين . . فهل يعني ذلك أن المشهد على الأرض في سوريا ماضٍ إلى تقسيمها في زمن الثورة وربما ما بعد انتهاء الثورة أو سقوط نظام الأسد؟ لعل من اطلع على صحيفة "نيويورك تايمز" الصادرة نهار السبت 20 إبريل/نيسان الجاري، يقرأ أن الرئيس أوباما وضع كذلك شروطاً لتقديم المساعدات "غير القاتلة" ل"المعارضة المعتدلة"، وفي مقدمتها التزام المعارضة السورية ومؤيديها بأن أي حكومة ستحل محل حكومة الأسد ستكون حكومة لكل السوريين وستدافع عن حقوق الأقلية العلوية والطوائف الأخرى من الأقليات السورية . . هل هذه مواقف لدولة كبرى يمكنها إنهاء الأزمة إن أرادت في وقت قصير؟ حكماً إن تصريحات رجل مثل جون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، حول الأوضاع في سوريا، تكشف مكنونات العين الأمريكية، إذ يصرح "أشعر بالقلق حيال تفكك سوريا على هذا النحو، ما يتيح لبعض المجموعات، مثل "جبهة النصرة" أن تزداد قوة، لأنها تملك أجندات داخل سوريا وربما خارجها" . . هل تخضع إدارة أوباما لضغوطات من الداخل الأمريكي تجعلها تتراجع عن فكرة الخلاص من الأسد في الحال دون النظر إلى عواقب الأمر في المستقبل؟ ذلك كذلك بالفعل، وعلى غير المصدق أن يطلع على المقال الذي كتبه أحد أركان اليمين الأمريكي شديدي التطرف في مواقفهم ونعني به "دانيال بايبس" القطب المحافظ الأشهر، على موقع "ذا جوش برس" الإلكتروني اليهودي، وفيه دعا الحكومات الغربية وفي مقدمتها حكومة بلاده إلى دعم الرئيس الأسد في معركته مع الإسلاميين في سوريا . . كيف يكتب بايبس هذا الكلام وهو المعادي لنظام الأسد منذ عقود والذي وصف النظام السوري بأنه "النظام الديكتاتوري الخبيث لبشار الأسد"؟ لا يجهدنا بايبس في البحث عن الجواب، بل يقدمه لنا بقوله: "المنطق الذي دفعني لتقديم هذا الاقتراح النافر هو أن قوى الشر عندما تحارب بعضها بعضاً تصبح أقل خطراً علينا، ما يجعلها أولا تركز على أوضاعها المحلية، ويمنع ثانياً أياً منها من تحقيق انتصار بحيث تشكل خطراً أكبر، كما أن القوى الغربية يجب أن تدفع الأعداء إلى طريق مسدود بينهم من خلال دعم الطرف الخاسر لجعل الصراع بينهم يطول أكثر" . هل سراً أن نقول إن مواقف بايبس وواشنطن تتسق مع رؤية "تل أبيب" حول المخاوف من القاعدة؟ القاعدة ستحكم سوريا . . الأسد أفضل؟ هكذا تحدث العميد احتياط "تسفيكا فوغل" عبر "إسرائيل اليوم" بتاريخ 7-4 الجاري، وعنده أنه "إذا سقط الأسد بقي لنا أن نقرر أيها ستكون أقل سوءاً في الأمد القريب لاسيما أن القاعدة والجهاد العالمي وسائر المجموعات المختلفة قد ثبتت أماكنها في سوريا، وإذا سقط الأسد، فستكون هي التهديد القادم، وأنا شخصياً أفضل الحكم الحالي، لا بسبب حب لا مثيل له، بل لأن قوة الردع "الإسرائيلية" تؤثر فيه وعنده ما يخسره" . هل كانت موسكو في حاجة إلى وازع أو مبرر جديد كي يزداد دعمها للأسد عما هو حادث بالفعل؟ إذا خلينا جانباً العلاقات الإستراتيجية بين دمشقوموسكو، وكيف أن الأولى تقدم للثانية فرصة لتحقيق الحلم بالوصول إلى المياه الدافئة، حلم بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة، في البحر المتوسط فإن هناك بعدين جديدين يضافان إلى دوافع موسكو في مساندتها للأسد، الأول هو الغاز الطبيعي المكتشف في المتوسط، الذي من خلاله تغازل واشنطنموسكو حتى تغض الأخيرة الطرف عن تحركاتها في الباسيفيك لحصار الصين في العقود المقبلة . والثاني يتعلق بالمخاوف الروسية من وصول الراديكاليات الجهادية إليها، فروسيا تخشى حال نجاح القاعدة ونظرائها في سوريا أن تنتقل العدوى إلى القوقاز، والشيشان، وبقية الجمهوريات ذات التعداد السكاني الإسلامي، التي تشكو منها موسكو بالفعل، وهي قضية معقدة ومتشابكة . . من يتبقى في المشهد؟ الأوروبيون ولا شك الذين باتت علامة الاستفهام بالنسبة لهم: ما الذي يريده الجهاديون في سوريا هل إسقاط الأسد أم أن لديهم أهدافاً أبعد تتمثل في إقامة إمارة إسلامية تتسع لتمتد من العراق إلى سوريا اليوم وغدا إلى دول الجوار؟ أضف إلى ذلك أن هاجس "المجاهدين الأوروبيين" الذين ارتحلوا للقتال في سوريا بدأ يلقي بظلال من الخوف الشديد على حكومات أوروبا التي تتذكر تجربة "الأفغان العرب" في ثمانينات القرن المنصرم . هذه المخاوف رصدتها صحيفة "الإندبندنت" وأشارت في تقرير لها إلى أن أكثر من 100 بريطاني ذهبوا إلى سوريا، فيما رصدت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية ذهاب ما بين 50 80 شخصاً من فرنسا، وتحدثت مجلة "دير شبيغل" الألمانية عن عشرات الألمان، وذكرت "يولاندس بوستن" ذهاب 45 دنماركياً، أما هولندا فقد رفعت مستوى التهديد الذي تواجهه من الإرهاب إلى درجة كبيرة، على أساس قيام مخاوف من أن ما يقدر ب1200 فرد يعتقد أنهم سافروا إلى سوريا، قد يعود بعضهم إلى هولندا وينخرط في هجمات إرهابية . هل خدمت سياقات الأحداث نظام الأسد بعد ذاك الذي جرى في بوسطن الأمريكية؟ القضية يطول شرحها، لكنها أحيت ولا شك عند القوى الدولية المخاوف من الجماعات الجهادية الإسلامية المتطرفة، وأغلب الظن أنها وإن لم تكن تدعم الأسد بعدما نفدت فرص صلاحيته، فإنها تدفع المجتمع الدولي لخليفة من خلفية علمانية مدنية، ولحكومة ذات توجهات أيديولوجية منافية ومجافية للدوغمائيات الجهادية، وربما يطول الانتظار لحين الوصول إلى هذا الشخص وذلك النظام، لتظل المأساة السورية جرحا في الجسد الإنساني قبل العربي، وهذه هي أبعاد التغيرات الدراماتيكية في الأزمة السورية .