يثير قانون السلطة القضائية الجديد الذي يبحثه مجلس الشورى المصري، مخاوف العديد من القوى السياسية في مصر، من أن يكون اعتماد مثل هذا القانون، هو البداية لمذبحة كبرى في السلطة القضائية، التي تعد واحدة من أبرز المؤسسات المصرية التي لاتزال عصية على الاختراق من قبل جماعة الإخوان . ويرى كثير من المراقبين أن نجاح الجماعة في تمرير القانون الجديد، الذي يقضي بتخفيض سن إحالة القضاة للتقاعد إلى ستين عاماً، بدلاً من سبعين حسب اللوائح السارية في هذا المجال، من شأنه أن يمهد الطريق أمام الجماعة لإحكام قبضتها على السلطة القضائية، عبر الدفع بآلاف من منتسبيها إلى تلك المؤسسة الأهم في البلاد، لسد ما سوف يخلفه خروج ما يزيد على ثلاثة آلاف قاضٍ إلى التقاعد بعد تطبيق قانون السلطة القضائية الجديد، الذي سوف تطول نصوصه معظم قضاة المحكمة الدستورية العليا، التي لا تزال الجماعة تنظر إليها باعتبارها حجر عثرة كبير في طريق خطتها للتمكن من مفاصل الدولة المصرية . يخطئ كثير من المراقبين في مصر عندما يقارنون بين ما تشهده السلطة القضائية خلال الشهور الأخيرة من تضييق من قبل النظام الحاكم، وبين ما تعرض له القضاة في ستينات القرن الماضي، واصطلح على تسميته "مذبحة القضاة" في العهد الناصري، وربما تكفي مقارنة بسيطة بين الحالتين لتبيان ذلك البون الشاسع بين ما جرى في بواكير ثورة يوليو، وما يجرى حالياً على يد نظام جماعة الإخوان، إذ إن إجمالي من قام النظام الناصري بعزلهم حينذاك لم يزد على 40 قاضياً، كانوا في حقيقة الأمر من أبناء كبار الإقطاعيين، وعلى خلفية أحكام كانوا يبيتون النية عليها، تتعلق بإعادة الأراضي التي قام النظام الناصري بنزع ملكياتها من كبار الإقطاعيين في البلاد، وتوزيعها على صغار الفلاحين، فيما عرف بمشروع الإصلاح الزراعي، وما كان يعنيه ذلك من طرد هؤلاء الفلاحين من الأراضي التي وزعتها الثورة عليهم . كانت أزمة القضاة مع النظام الناصري في حقيقتها أحد أبرز تجليات الصراع بين ثورة يوليو والقوى المنتسبة للنظام الملكي السابق عليها، وقد لعبت هذه القوى دوراً كبيراً في إفساد العلاقة في مرحلة من المراحل بين عبد الرزاق السنهوري باشا، أحد أكبر أعلام الفقه والقانون في مصر والوطن العربي، وبين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لتدخل العلاقة في مراحلها الأخيرة إلى ساحة صراع بين القانوني والثوري، قبل أن ينجح الأخير في حسمه لمصلحته بإبعاد الأول عن الساحة القضائية . بلغت الأزمة بين الطرفين ذروتها في العام 1969 في أعقاب ما تردد حول سعي النظام حينذاك إلى تشكيل ما وصف ب"تنظيم سري" بين القضاة، وضم هذا التنظيم إلى عضوية الاتحاد الاشتراكي، وقد أدت تلك الشائعات إلى انفجار موجة غضب بين القضاة، الذين رفعوا شكوكهم إلى وزير العدل في ذلك الوقت عصام الدين حسونة، وقد قام الأخير بنقل هذه التخوفات إلى الرئيس جمال عبد الناصر، لكن ذلك لم يمنع فوز تيار الاستقلال برئاسة نادي القضاة، ممثلاً في المستشار ممتاز نصار، وقد كان واحداً من كبار قادة هذا التيار الذي تبنى موقف الدفاع بقوة عن العدالة والقضاء، واستقلاله في مواجهة السلطة التي كانت في حقيقة الأمر تستند إلى الشرعية الثورية في العديد من قراراتها التي كانت تستهدف تحقيق مبادئ ثورة يوليو . على امتداد فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، دخل قضاة مصر معارك جديدة مع النظام الحاكم، الذي سعى في بداية حكمه إلى فتح جسور من الثقة، تمثلت في إعادة المفصولين، وإن غلبت على العلاقة بين السلطة والقضاة السياسة الانتقائية في تنفيذ الأحكام، وهي السياسة التي بلغت ذروتها مع بدايات عصر "الانفتاح الاقتصادي"، حيث دأب النظام على التخلص من مناوئيه، ب"الانتداب" خارج البلاد، بخاصة في عدد من دول الخليج العربية، على ما يعنيه ذلك من امتيازات مادية مغرية، وإن ظلت مثل هذه الانتدابات في النهاية تتم من دون معايير موضوعية في حقيقة الأمر . على أن العلاقة بين السادات والقضاة في مصر، سرعان ما تحولت إلى صدام واضح، في أعقاب محاولة النظام، تقييد استقلال القضاء بإنشاء عدد من المحاكم الاستثنائية، مثل "محكمة القيم" و"محكمة العيب"، وهي المحاكم التي اعتبرها جمهور غفير من القضاة تهدد استقلال المؤسسة القضائية في البلاد . منذ وصولها إلى الحكم في مصر، وجماعة الإخوان لا تخفي خلافها الواضح مع السلطة القضائية في البلاد، وقد تجلى ذلك الخلاف في أكثر من صورة، ربما كان من أشهرها ذلك الحصار الذي تعرضت له المحكمة الدستورية العليا في العام الماضي، والذي استهدف منع المحكمة من إصدار حكمها في مدى دستورية تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، وهو في حقيقته كان حدثاً غير مسبوق في التاريخ، أن تحاصر أعلى سلطة قضائية في البلاد، وأن يمنع قضاتها من الاجتماع للنظر في واحدة من أهم وأخطر القضايا التي تعيشها مصر بعد ثورة يناير . لعبت تصريحات أطلقها المرشد العام السابق للجماعة مهدي عاكف قبل أسابيع في إشعال الأزمة القائمة بين القضاة والجماعة، عندما تحدث عن إحالة أكثر من ثلاثة آلاف قاضٍ للتقاعد، بعد إقرار قانون السلطة القضائية الجديد، وهو ما أكد في يقين أن الجماعة في طريقها لتنفيذ مخطط واضح للهيمنة على السلطة القضائية، وقد تجلى ذلك في حجم العناد الذي قابلت به الجماعة أزمة النائب العام، وضربت عرض الحائط بمطالب القضاة الذين أعلنوا في غير مناسبة عدم اعترافهم به، باعتباره جاء خلفاً للنائب العام السابق المستشار عبد المجيد محمود، الذي تمت إطاحته بطريقة مخالفة للدستور والقانون . على مدار عقود، ظلت العلاقة بين القضاة والحكام في مصر تراوح مكانها، ما بين شد وجذب، لكنها لم تفقد في يوم، احترام السلطة أو أي نظام حاكم، لما يعرف ب"ديباجة احترام القضاء" وإعلاء سلطانه على أي سلطان، قبل أن تأخذ العلاقة بين الطرفين ذلك المنحى الخطر في عهد جماعة الإخوان، التي تسعى عن طريق استغلال حالة الغضب الشعبي الناتج عن أحكام البراءات التي حصل عليها رموز عصر مبارك، في الهيمنة على السلطة القضائية، عبر رفع شعارات التطهير . لقد كانت جماعة الإخوان نفسها هي أول من عارض مطالب الثورة في بواكيرها بضرورة صدور تشريع يتعلق بالعدالة الانتقالية، يمكن من خلاله إجراء محاكمات حقيقية وجادة لمبارك ورموز نظامه، على ما ارتكبوه من جرائم في حق الوطن، ويمكن للشعب من خلاله القصاص لدماء الشهداء، لكن الجماعة اعتبرت صدور مثل هذه التشريعات من شأنه أن يفتح الطريق أمام محاكم استثنائية، حتى إذا وصلت إلى السلطة سارعت إلى استخدام الأسلوب نفسه، ليس بهدف تحقيق أهداف الثورة، وإنما للتمكين لنفسها في السيطرة على مفاصل الدولة المصرية . ينظر كثير من المصريين اليوم بريبة شديدة إلى الدعوات التي تطلقها جماعة الإخوان في غير مناسبة، لتطهير القضاء، إذ يكاد الجميع يتفق على أن الهدف الحقيقي من ورائها، هو تنفيذ مذبحة كبرى للقضاء، وهي الريبة التي عبر عنها قبل أيام نادي قضاة مجلس الدولة في بيان حمل هجوماً عنيفاً على مظاهرات الجماعة فيما عرف ب"جمعة التطهير"، التي لم تخل من إرهاب وتجريح وإهانة القضاء والقضاة، محذراً في الوقت ذاته من إقرار قانون السلطة القضائية الذي تقدم به حزب الوسط على صورته الحالية، ومؤكداً أن خفض سن التقاعد للقضاة بهذه الصورة، يكشف عن عدوان صريح ضد المؤسسة القضائية في البلاد، لأنه في حقيقته يهدف إلى تحقيق مصلحة شخصية وحزبية . ربما لم يبدأ رئيس صدامه المبكر مع القضاة مثلما فعل الرئيس مرسي، بدءاً من قراره بإعادة مجلس الشعب "البرلمان"، متحدياً قرار المحكمة الدستورية العليا بحله، قبل أن يسقط حكم قضائي جديد قراره الرئاسي، مروراً بقرار استبعاد النائب العام السابق المستشار عبد المجيد محمود، على نحو أغضب جموع القضاة، الذين اعتبروه تدخلاً من السلطة التنفيذية في قانون السلطة القضائية، الذي يمنع الرئيس من عزل النائب العام إلا بطلب منه شخصياً، أو بلوغه سن المعاش، وليس انتهاءً بصدور الإعلان الدستوري في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، الذي تضمن تحصينا لقراراته الرئاسية وتحصيناً لمجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور من الحل، في مواجهة أحكام قضائية كان من المؤكد صدورها، قبل أن تدفع الجماعة بمشروع تعديل قانون السلطة القضائية، عبر حليفها حزب الوسط إلى مجلس الشورى، في خطوة تستهدف إنهاء الصراع بالضربة القاضية . لا يخفى على أحد في مصر أن مشروع القانون الجديد تم إعداده بالتنسيق بين وزارة العدل ومكتب إرشاد الجماعة، مثلما لا يخفى على أحد أيضاً تلك القوائم التي انتهى من إعدادها وزير العدل، والتي تتضمن أسماء من سيتم استبعادهم من القضاة فور إقرار القانون الجديد، وفى مقدمتهم عشرات من شيوخ القضاة، هؤلاء الذين فشلت الجماعة ومن خلفها السلطة الحاكمة في السيطرة عليهم وترويضهم لمصلحتها، لكن هل يصمت 13 ألف قاضٍ في مصر ينتشرون في نحو 2000 دائرة جزئية وابتدائية واستئنافية ونقض، من بينهم أربعة آلاف في النيابة العامة؟