انهمكتُ في التهام طبق السلطة المشتهر به المقهى الذي أرتاده، حتى كدت أنسى رفيق الذي فرغ لتوّه من قطعة جاتوه، واعتدل في مقعده قائلًا: لعلّنا أحبطنا تطلعاتك إلى فترة تقاعد هادئة، فإذا بك تأتينا ونحن في خضم تحولات استثنائية صاخبة.. توقفتُ عن الأكل للحظة كي أجيب: لستُ عنيدًا إلا في أمر واحد، الإصرار على إيقاع بطيء لحياتي، بصرف النظر عن سرعة إيقاع العالم الخارجي، لي قدرة أعلمها على تقرير إيقاعي الداخلي، لا تقلق لشأني.. كذلك أصحح لك، قد يكون ما نشهده استثنائيًا، وربما أدى إلى نتائج تاريخية، لكنه ليس بالصخب الذي يترجم نفسه إلى اضطراب، السمات التقليدية لمصر الثبات والاستمرار والمواصلة، هذا لا يعني أنها لا تتغير، إنما يعني أن تغيراتها مهما كانت هائلة تجري بانسيابية هادئة، على مدى تاريخها الطويل تقع نقطتان زمنيتان فقط لا غير شهدتا تحولًا دراميًا بفعل سياسي بالغ الأثر وذا بعد حضاري، واحدة على عهد مينا والثانية على عهد محمد علي، تفصلهما 5 آلاف سنة!، كلا التحوّلان رغم عمق نتائجه أنجز بيسر وبلا مشقة، حتى ان معاصريه لم ينتبها إلى أن شيئًا ما غير عادي تاريخي العمق يجري أمامهم، ولا خال لأي من الرجلين أن ما يفعله له تلك القيمة، فقط فيما بعد وعن طريق عمل المؤرخين عرفت قيمة ما وقع وجرت أسطرة الرجلين، أي جعل كل منهما أسطورة، رغم أن دوافعهما عادية إنسانية لا تخلو من الأنانية، طبيعة مصر أن تجري أحداثها بلا زلازل أو براكين، وأكاد أقول بلا مشقة!. تستطيع ملاحظة هذه الروح في نثر نجيب محفوظ وأزجال بيرم التونسي ونغم سيد مكاوي وترتيل الشيخ محمد رفعت، كل الآثار التي خلفتها حضارتها القديمة عبرت عن هاجس واحد، الصمود للزمن. عدت إلى ما تبقى في طبق السلطة فقال هو: أرجو ألا نسترسل في طول البال، فالوقت لا ينتظر.. نحيت الطبق الفارغ وقلت: هذا هو القلق الطارئ الذي حدّثتك عنه من قبل، وأفصحت انتفاضة يناير عنه، الراجع إلى اليأس من انتظار ما يجب أن يحدث.. تساءل مبديًا رغبة في الاستماع: وما الذي يجب أن يحدث؟.. تلقى مني إجابة مباشرة: نظام لا يعيق تطورات التحديث، ولولا أني أعرف الواقع كما أعرف ماضيه لقلت نظاما يسرّع التحديث، أما واني أعرف الاثنين فلا أطمح لأكثر من نظام لا يعيق، فعلى مدى أكثر من 90 عامًا تعرّضت قاطرة التحديث لكل ما يخطر على بال من إعاقة، بقصد أحيانًا وبلا قصد أحيانًا أخرى لعرقلة التطور الطبيعي للأحداث، التطور الطبيعي هو الذي يتوالى بتلقائية بدون افتعال وحسب ترتيب منطقي، لا يحتاج الأمر لأكثر من إزالة المتاريس، في ذلك النظام المأمول لا الأسماء ولا اللافتات أو الأيديولوجيات ذات أهمية، لتكن ما تكون، المهم أن يتجاوب بأمانة مع اليوم ولا يعيق الغد، التحول هذه المرة الثالثة لو حدث صدقني سيكون أهم وأعظم مما جرى على زمني مينا ومحمد علي، أحد أسرار عظمته أنه لن يرتبط بشخصية تاريخية ليجري تحت مظلتها، فقد بلغت مصر طورًا من النضج لم تعد الاستجابة لحركة التاريخ فيها بحاجة لأساطير، سأقول ما قد يقرب إليك تصور معنى حركة التاريخ، لو ظهر مينا أو محمد علي قبل زمنه بمائة عام لما استطاع عمل شيء، كل منهما استطاع لأنه ظهر في الوقت المناسب بالمكان المهيأ، محاطًا بظروف مهيئة. للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (32) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain