ذات يوم، ولج الرجل المحل التجاري الكبير وأنشأ يتجول في أنحائه بلا هدف واضح . قادته خطواته إلى طابق النساء وتاه في متاهة الملابس النسائية . دار رأسه وبحث يائساً عن المخرج قبل أن يلمح، فجأة، وعلى بعد خطوات منه، امرأة تبتسم له . كانت ذات جمال خارق، حتى أنه لم ير قبلاً امرأة في إشراقها . تبتسم باحتشام، بشيء من الخفر، كأنها لا تجسر على الاقتراب منه، أو كأنها تسأله إن كان طيباً الاقتراب منه . رجلنا، الذي لم ير هذه المرأة من قبل، قال في نفسه إن البسمة غير موجهة له وإن الإشارة التي قامت بها بيدها في خجل موسومة إلى آخر . التفت إلى الخلف: لم يكن في هذا الركن من الطابق سواه . كانت البسمة والإشارة إليه، بلا أدنى شك . تقدم في خطوه . غير أنه لما اقترب منها، وفي اللحظة التي مد يده فيها، توقف من فوره خجلاً . لا تنظر المرأة إليه، لا تنظر إلى أحد، فضلاً عن ذلك، لا تستطيع أن تنظر إلى أحد، رغماً عن عينيها الواسعتين الزرقاوين المفتوحتين . كانت "مانيكانا" . بوضوح أعمى: خلال ثانية، استسلم الرجل للجاذبية المصنوعة، وفي دقائق تخلى عن يقظته و- فاقداً صوابه - وقع في حب الشكل الجامد، الجثة المتصلبة التي امتلكت، فجأة، الحركة، مظهر الحياة، الروح السامية . حينما أدرك ضلاله، تعجل أن يغادر الأمكنة (لم يكن بعيداً عن المخرج)، كلص . شعر بأنه سوف يكون الرجل الأول لمغامرة قادمة . لا يعرف أن شخصية من الليالي حيت، بصوت عال وواضح، ملكة ميتة، محنطة، تتبدى حية . ويجهل أن القدماء قلعوا الأعين، وانتزعوا الأعضاء أو انقطعوا عن الناس لئلا يستسلموا لإغواء الجسد، والجسد إغواء الصور . منعه وضعه الثقافي، وإلا تحرر من شعوره بالإثم، على الأقل تخفف منه وتماثل معه . بالنسبة له، أصبحت المرأة - "المانيكان" ذاتاً رهيبةً، من الضروري أن يتحاشى النظر إليها، تحت طائلة الاستسلام من جديد لجاذبيتها المكتسحة . لم تكن امرأة بسيطة، ولا "مانيكانا" في آن . خشي أن يراها تتحرك ثانية و- من دون أن تكون فرحة بالابتسام له والترحيب به - تتقدم نحوه وتتكلم إليه . لكن ماذا يفعل في قسم النساء؟ لماذا اتجه إلى هذا المكان المحرم حيث لا يجازف رجل بولوجه، على الأقل اللص فقط أو رجل تصاحبه امرأة؟ كان تناقش مع خطيبته عن عيد ميلادها، الذي يحل موعده في الغد . كأنه سألها - برعونة، في الحقيقة - عن الهدية التي تثير إعجابها . . . هذا الوضوح ضايقه، ولم يزل متضايقاً مع خروجه من المحل التجاري . شعر بأن أحداً يتابعه، ولكن من؟ كعوب ترن خلفه ولما يلتفت لا يرى أحداً . أخذت المرأة - "المانيكان" تتابعه في كل مكان، يشعر بها خلفه، لا مرئية وحاضرة . في الغد، رجع إلى المحل التجاري . قرر أن يبتاع ثوباً لخطيبته، غير أنه، ربما، قرر أن يطلب من المرأة - "المانيكان" أن تكف عن ملاحقته، أن تتركه وشأنه، ربما رغب، ببساطة، أن يراها ثانية، أو تمنى شيئا آخر . . . على أي حال، أخذت الأحداث وضعاً لا يمكن التكهن به، ولكنه يتمناه من دون شك، ومن دون أن يتجاسر على الاعتراف به . ارتقى الدرج وبوصوله إلى الطابق الثاني، شعر بأنها تنتظره . نظر إليها، غير أن نظرته ثبتت على المعطف، يعرف أنه إذا نظر إلى وجهها، وبالأخص إلى عينيها، سوف يتلاشى . "كل هذا، كما قال في نفسه، سخيف . لقد قدمت لكي أبتاع ثوباً، وليس لأسدد حساباً مع طيف" . أمامه بسطت بائعة أثواباً، أثواباً، أثواباً دوماً . لم يقرر بعد، وأصابه الدوار من جديد . في الحقيقة، اختار، لكنه قاوم، وبحث عن كسب مزيد من الوقت . أراد أن يبتاع ثوباً مثل الذي ترتديه المرأة - "المانيكان"، لكن البائعة أشارت إلى أنه لا يوجد سواه في المحل التجاري . كان الأمر مزعجاً ومخففاً للضيق في آن . أصر، لم يكن أمامه سوى أن يحني رأسه ويغادر المكان . للأسف، ترك هذه الكلمات تنفلت منه: "لخطيبتي نفس قوام المانيكان" . لم تخف البائعة، وقد فهمت ما يود قوله، استياءها: "سأجري عملية جراحية، ممنوع علي أن أرفع شيئاً وليس هنا من يساعدني" . همهم: "سوف أعاونك" . عارضت البائعة، ولكنها لم تتجاسر على قول لا . اقترب من المرأة - "المانيكان"، محولاً عينيه عنها، كانت ثقيلة، ثقيلة للغاية: "ضعها على هذه المنصة!"، أمرت البائعة، حيث تلاشى الحرج مع الرجل . وبدأ خلع الملابس عن المرأة - "المانيكان" . هنا، يجب أن أفتح قوساً لكي أقول إن، في المخيلة الذكورية، "امرأة - مانيكانا" موضوع اغتباطي . غطاء رقيق يغطيها، وبحركة بسيطة تصبح عارية . بين الرغبة وتحقيقها، لم تكن هناك سوى حركة بسيطة، وغطاء رقيق . على الأقل، هذا ما فكر فيه رجلنا، غير أنه أخطأ . كشف تعري المانيكان عن مشروع متكلف، صعب، مذل . لم تصل البائعة إلى خلع الثوب عنها، كررت من بين أسنانها: "لم أفعل هذا من قبل ولذا قلت إنني أجري عملية، إنني أخرج من مشفى! بقصد الاعتذار، انحنى الرجل لكي يساعدها، ولكنها ضربته بكفها على يده وشهقت . ومع ذلك، هدأت سريعاً وانكبت على عملها . رفضت المرأة - "المانيكان" أن تتركها تخلع الثوب عنها . أخيراً، صاحت: "سأنزع جلدك" . لم يكن حاضراً سوى الرجل الذي يشهد بمفرده المشهد . اقترب بعض العجائز وحركن رؤوسهن وعلى سماتهن مظهر لوام . وجه عامل يرتدي "العفريتة"، كأنه شخص خرافي، نظر إلى المرأة نظرة متواطئة . بواسطة قوى معتمة غامضة، نجح في خلع الثوب: "هو ذا، كما قالت البائعة، الخزانة في آخر القاعة" . لقد انتصرت . لما وجد نفسه في الشارع، شعر بأن حالته تحسنت . لم تعد "المرأة - المانيكان" تلاحقه، زفر وأقسم ألا يعود ثانية إلى المحل التجاري، ألا يرى ثانية التمثال النحس الذي ينتصب من دون شك في مستودع ما، وسط "المانيكانات" الأخرى، جثة وسط الجثث . واتته رغبة مجنونة في أن يرى خطيبته ثانية . احتاج، بعد ما جرى، إلى حماية، إلى ملاذ . فجأة، أصبحت خطيبته فريدة، لا غنى عنها . حزمته تحت ذراعه، دق على بابه . انفتح بعد فترة، وقد نفد صبره، وأخيراً تفاجأ . لم تكن خطيبته الواقفة أمامه وإنما الأخرى . كانت ترتدي منشفة، إذ خرجت من حمامها ولم يزل شعرها مبللاً . مسمراً في مكانه، جذبته إلى داخل الشقة وأغلقت الباب خلفهما . آنذاك، عرف الرجل بصورة مؤكدة، أن هذا الباب سينغلق عليه أبداً . (*) عبد الفتاح كيليطو . . . ناقد وروائي مغربي يكتب بالعربية والفرنسية . ولد في الرباط عام 1945 . حاضر في جامعة باريس (3)، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، والكوليج دو فرانس، وجامعة برنستون، وجامعة هارفارد، وجامعة بوردو (3) . حاز جائزتي المغرب الكبرى (1989) والأطلس الكبير (1996) . من كتبه النقدية: "الأدب والغربة"، "الغائب"، "الحكاية والتأويل"، "العين والإبرة"، "لسان آدم" .