دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    صواريخ الحوثي تُبحِر نحو المجهول: ماذا تخفي طموحات زعيم الحوثيين؟...صحفي يجيب    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    انهيار حوثي جديد: 5 من كبار الضباط يسقطون في ميدان المعركة    نائب رئيس نادي الطليعة يوضح الملصق الدعائي بباص النادي تم باتفاق مع الادارة    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    كان طفلا يرعى الغنم فانفجر به لغم حوثي.. شاهد البطل الذي رفع العلم وصور الرئيس العليمي بيديه المبتورتين يروي قصته    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    غارسيا يتحدث عن مستقبله    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشحر والبحر والأسطورة
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 04 - 2013

تبوأت الشحر الضاربة جذورها في أعماق الزمان مكانة كبيرة ومهمة في عقل وقلب التاريخ الحضرمي. وتسابق الشعراء والأدباء في مدحها ووصفها بأجمل العبارات وأعذبها . كانت ولاتزال لؤلؤة ثمينة في جيد تاريخ حضرموت بصفة خاصة .ولقد أجمعت كتب التاريخ أن الشحر كانت في القرن العاشر الهجري ( القرن السادس عشر الميلادي ) موئلا ومركزا للعلماء والفقهاء. ومن تحت معطفها تخرج الكثير والكثير من طلاب العلوم والمعارف المختلفة وصاروا كواكباً دُرية في سماء الفكر اليمني . وكلما أوغلنا في أعماق تراثها وتاريخها الطويل ، كلما ازداد بهاؤها وعظمتها ومجدها التليد الرائع .الشحر والبرتغاليون
وتروي الروايات التاريخية أنّ الشحر إلى جانب كعبها العالي في الحياة الثقافية والفكرية . كانت أيضا تحتل مكانة خطيرة على مسرح اليمن السياسي . فالأحداث السياسية المهمة التي وقعت على الساحة الحضرمي في القرن ( 16م ) تدل بوضوح على مدى صلابتها وعزيمتها وإرادتها التي لا تلين أمام الخطوب والأزمات السياسية التي أنشبت مخالبها القاسية على حضرموت وعلى وجه التحديد على سواحلها من قبل الغزاة البرتغاليين الذين نزلوا بغطرسة وقوة في البحر العربي والهندي بهدف إغلاق منافذ البحر الأحمر الجنوبي للقضاء على الدولة المملوكية المصرية .
فعملت على حصار سواحل اليمن بغية القضاء على اقتصادها ومن ثم ترجعيها سياسيًا وإزاء ذلك استعملوا الشدة والعنف الكبيرين مع السفن التي تحاول الوصول إلى سواحل اليمن و موانئ السواحل العربية الجنوبية كجدة ومسقط وغيرهما ، وكانت تهدف البرتغال من وراء ذلك السيطرة الكاملة على منابع ومصادر التجارة الشرقية ( تجارة البهارات ) في الهند، وجزر الشرق الأقصى .
وتذكر المصادر أنّ الشحر تعرضت إلى هجوم البرتغاليين مرتين الأولى في عام 929ه / 1523م , والأخرى عام 942ه / 1536م ، استعمل فيها الأسطول البرتغالي المدافع الثقيلة والأسلحة النارية الفتاكة في تلك الحملتين لدك حصونها وقلاعها بل أن الفرنجة البرتغاليين لم يكتفوا بذلك فنزلت قواتهم على ساحل الشحر في الحملة الأولى ، ونهبوا وسلبوا وقتلوا ، وأحرقوا الأخضر واليابس . ولكن أهل الشحر لم يقفوا مكتوفي الأيدي . فقاوموا الإفرنج البرتغاليين الذين أذهلتهم مقاومتهم الشرسة. وتشير المراجع التراثية إلى أنّ البرتغاليين ظنوا في بداية الأمر أنّ السيطرة على الشحر ستكون نزهة لهم ولكنهم وجدوا مقاومة أهلها العنيفة والصلبة ودليل ذلك أنهم تركوا وراءهم أثناء انسحابهم من المدينة عددا من قتلاهم ووقع عدد من أسراهم في أيدي المقاومين من أهل الشحر بالإضافة إلى استيلائهم على عددٍ غير قليل من سفن البرتغاليين .
الملاحم البطولية
وسطرت الملاحم الشعبية الأحداث التاريخية التي أظهرت بطولات أهل الشحر في التصدي للغزاة . ويصور العلامة الشاطري أحداث تلك الحملتين البرتغاليتين على الشحر , قائلا : " وقد دحر البرتغال في عدة مواقع من حضرموت أهمها موقعة 5 رمضان سنة 942ه ( 1523م ) إذ هجموا على الشحر وهو بها ( أي السلطان بدر أبو طويرق ) ونزلوا إلى البر ودارت معركتان برية وبحرية وفي كلتيهما انتصر السلطان وأسر منهم نحوا ً من سبعين رجلا ً واستولى على سفنهم وعددها أربع عشرة سفينة أو أكثر , وأرسل بعض الأسرى إلى الدولة العلية الإسلامية (الخلافة العثمانية )...". ويمضي الشاطري في وصف أحداث الحملة الأولى , فيقول: " ومن المعارك الشهيرة قبلها بين البرتغاليين والحضارمة في عهد أبي طويرق موقعة فجر الجمعة 9 4 سنة 929ه ( 1529م ) . فقد أرست 14 سفينة برتغالية في ميناء الشحر ونزل منها الجيش البرتغالي وعاث في الشحر فسادا بالنهب والسلب والحرب ، وقد قاتلهم السكان واستشهد منهم الشيخ العلامة أحمد الشهيد بافضل وكثيرون من أعيان وجمهور الشحر وبعد يومين اقلعوا إلى سواحل الهند ". وهذا الوصف كما قلنا سابقا ً يدل على مدى مقاومة أبناء الشحر للغزاة البرتغاليين التي كانت لهم إمبراطورية بحرية واسعة حينئذ امتدت من سواحل الخليج العربي ، والبحر العربي ، والمحيط الهندي . فقد وقفت لهم الشحر وقفة رجل واحد كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ً ، وتمكنت بفضل إرادتها وقوتها وشجاعتها أنّ تدحر البرتغاليين بصورة تدعو إلى الإعجاب الكبير على حد تعبير المؤرخين والقدامى والمحدثين .
الشحر والعثمانيون
والحقيقة أن الشحر أدركت تمام الإدراك واقع الأمور التي تغيرت على مسرح اليمن السياسي بصفة خاصة والوطن العربي والإسلامي بصفة عامة وهي بزوغ نجم الدولة العلية العثمانية في سمائها وأدرك سلطانها بدر أبو طويرق بخبرته الواسعة في ميدان السياسة أن العثمانيين هم القوة الوحيدة القادرة على التصدي للبرتغاليين والعمل على تأمين السواحل اليمنية ومن بينها الشحر وهذا ما دفع ببدر الطويرق المتوفى ( 977ه / 1596م ) أن يسارع إلى تقديم الطاعة والولاء والخضوع للدولة العثمانية . و يروي لنا الدكتور سيد مصطفى سالم صورة الاحتفال والاحتفاء الكبير بالوفد العثماني عند وصوله إلى الشحر في 18 ربيع أول سنة 944 ه الموافق 25 أغسطس 1537م كدليل على دخول الشحر تحت لواء الخلافة العثمانية التي اتجهت شرقا ً أي إلى الوطن العربي ابتداءًا من سنة ( 923ه / 1517م ) بعد القضاء على دولة المماليك المصرية في عصر السلطان سليم الأول ( 1512 1520م ) ، فيقول : " ... فأمر ( أي السلطان بدر الطويرق ) بعقد اجتماع كبير في المسجد الجامع (( بالشحر ))، وأمر أحد الفقهاء بقراءة رسالتي سليمان باشا قائد الحملة العثمانية إلى الهند في هذا المسجد بينما وقف هو وجميع من معه تعبيرا عن احترامهم للأوامر الواردة إليهم، ثم ألبس الحاضرون السلطان بدر خلعتي سليمان باشا أثناء قراءة المرسومين . وبالإضافة إلى ذلك فقد أمر السلطان بدر بأن يخطب في المساجد باسم سليمان القانوني، كما أغرق الرسول بالهدايا، وأرسل معه الهدايا الثمينة إلى سليمان باشا الخادم ". ويضيف قائلا : " وقد ظل سلاطين (( الشحر )) يعترفون بالسيطرة العثمانية عليهم طوال وجود العثمانيين في اليمن ".
اسمها ؟
والحقيقة أنه على الرغم من شهرة الشحر في تاريخ اليمن ، فإن المعاجم أو المراجع التراثية لا تسعفنا بمعلومات واضحة ودقيقة تحدد معنى اسمها . ونرى أنّ الروايات التاريخية تضطرب اضطرابا شديدا في تعريف اسمها .. وهذا العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد الحجري في مؤلفه (( مجموع بلدان اليمن وقبائلها )) ينقل عن معجم البلدان لياقوت الحموي عن معنى الشحر بحذافيرها دون الوقوف عند تعريفها أو بعبارة أخرى يتلقى هذا التعريف كما هو دون أن يقف عليه هل هو صحيح أم غير صحيح ؟ . فهو يقول نقلا عن ياقوت الحموي : " الشحرة الشط الضيق وهو صقع على ساحل بحر الهند في ناحية اليمن والكلام مازال للعلامة القاضي الحجري : " قال الأصمعي هو بين عدن وعمان قد نسب إليه بعض الرواة وإليه ينسب العنبر الشحري لأنه يوجد في سواحله ، وهناك عدة مدن يتناولها هذا الأسم ، قال : وينسب إلى الشحر جماعة منهم ابن خوي بن معاذ الشحري اليماني " .
وينقل كذلك عن المؤرخ بامخرمة المتوفى سنة ( 947ه / 1540م ) بأن الشحر سميت بسبب أن سكانها كانوا جيلا من المهرة يسمون الشحراء . وقيل سميت بالشحر لكثرة الأشجار والنخيل والآبار . كل تلك التعريفات تدل بوضح على مدى الاضطراب والتخبط اللذين يعرفان معنى اسم الشحر . وكيفما كان الأمر ، أن العديد من المدن اليمنية الساحلية التي طبقت شهرتها الآفاق في التاريخ مازالت تعريف أسماءها كمدينة عدن يشوبها الكثير من الغموض وإن لم يخلوا من الغرابة والطرافة معًا .
متى ظهرت ؟
أثار المؤرخ صالح الحامد في مؤلفه الذي يحمل عنوان (( تاريخ حضرموت)) سؤالاً مهمًا وهو من أسس مدينة الشحر وأظهرها على سطح الحياة ؟ . وقد بذل صالح الحامد مجهودًا كبيرًا في ذلك الموضوع من خلال تقصيه للمصادر التراثية المتنوعة ولكن نلاحظ أنه لم يصل إلى شاطئ الإجابة الحقيقية بسبب أن تلك المصادر لم تتكلم عن من أسس الشحر بمعطيات واضحة وموضوعية أو قل إذا شئت احتواها الكثير من الضبابية وعدم الرؤية التاريخية العميقة لها .
فهو يقول إن الشحر مدينة موغلة في القدم . وأنه في نفس تلك المدينة القديمة بنا الملك المظفر الرسولي المتوفي عام ( 694ه / 1295م ) مؤسس الدولة الرسولية مدينة أخرى . والأجدى والأجدر به أنّ يقول إن السلطان الملك المظفر قد قام بتوسعة المدينة القديمة أي أنّ عمرانها اتسعت عمّا سبقت عليه فمن المحتمل أنّ مدينة الشحر القديمة ، قد طمست ملامحها أو اضمحلت بسبب توسع العمران فيها كما قلنا سابقا ً . وهذا في رأينا الأقرب إلى الحقيقة . وأمّا المدينة الجديدة الذي بناها المظفر الرسولي من المحتل أنّ تكون مدينة أخرى . وهذا ما أكده صالح الحامد بقوله : " وهي بلا ريب مدينة جديدة لا ذكر لها في المدن القديمة " .
الشحر والدولة الرسولية
ويذكر صالح الحامد أن حضرموت وخصوصا الشحر في عهد الدولة الرسولية التي بلغت من العمر عتيا في تاريخ اليمن أكثر من مائتي عام ( 626 855ه / 1228 1454م ) لم تظفر بعنايتها أو بعبارة أخرى لم تلقِ أية اهتمام من سلاطين وملوك بني رسول . وفي هذا الصدد ، يقول : " ومما ينبغي ملاحظته أيضا أن استيلاء بني رسول على حضرموت لم يفده أية فائدة ... وبالرغم من عظمة دولة بني رسول وطول عهدها فقد تقلص ظل المملكة ( هكذا ) الرسولية عن حضرموت ، غير مسفر عن أي أثر ، إذ لم يترك الرسوليون وراءهم بها معهدا ولا معبدا ولا مدرسة أو أي شيء يذكر مما يحفظ لهم جميل الذكر وحسن الأحدوثة. وقد دامت سلطتهم عليها ولا سيما الشحر أكثر من مائة وخمسين عاما ". ويفهم من ذلك أن الشحر انسلخت عن الدولة الرسولية قبل غروب شمسها بأكثر من سبعين عاما ً .
الشِحر وتراثها الشعبي
والحقيقة أن البعض من الباحثين الحاليين عندما يدرس تاريخ مدينة ساحلية يمنية يدرسها من وجهة نظرية تاريخية بحتة حيث يبرز جوانب أحداثها ووقائعها السياسية فحسب ولا يبتعد أكثر من ذلك. وكان حريا به أن يلقي الأضواء على الظواهر الاجتماعية المتمثلة بالعادات والتقاليد والأعراف أو بمعنى أوسع الغوص في أعماق المجتمع وهو ما يعرف بالتاريخ الاجتماعي والذي صار شيئا مهمًا في كتابة التاريخ بصورة دقيقة وعميقة . وكان المؤرخون القدامى في الأزمنة الماضية يدونون تاريخ الملوك والحكام ، والأمراء، والقادة بصورة مفصلة ولا يلتفتون إلى الناس وحياتهم اليومية . ولهذا سبب كان الناس البسطاء يغرمون بالسير والحكايات الشعبية وهي الموروث الشعبي التي تصور وتجسد آلامهم وأمانيهم وطموحاتهم ووقائع حياتهم اليومية خير تصوير. و هذا أكده الدكتور قاسم عبده ، فيقول : " والموروث الشعبي يتسم بالتلقائية والبساطة من ناحية . كما أنه يدور حول أمور تتعلق بثقافة المجتمع ، وتقاليده وعاداته وأخلاقه من ناحية أخرى . كما أن هذا الموروث الشعبي عادة ما يحمل (( نواة تاريخية)) ؛ إذ أنه يحمل تفسيرات لأحداث (( تاريخية )) ويحكي عن أبطال تاريخيين ويتم ذلك كله بأسلوب مثقل بالخيال والرموز الشعبية التي تخدم الأغراض والغايات الاجتماعية " . ويمضي في حديثه: " ومن ثم فإننا يمكن أن نصف الموروث الشعبي بأنه نوع من (( القراءة الشعبية للتاريخ )) ... وإذا كان التاريخ قد اعتبر زمنا طويلا بمثابة المرادف لسير الحكام والقادة وأنباء السياسة والحرب ، فإن التطورات التي أدت إلى الاعتراف بحق الشعوب في إدارة شئونها قد أدت إلى الاهتمام بالجوانب المختلفة من نشاط الشعوب وكان للتاريخ نصيبه من هذا الاهتمام ". وبناءً على ما تقدم فإنه على الباحثين الحاليين والمؤرخين المحدثين أنّ يعتنوا بتاريخ الشحر الاجتماعي من خلال الموروث الشعبي المتمثل كما مر بنا سابقا بالسير والحكايات الشعبية وغيرها المرتبطة بحياة الناس . والحقيقة أن صورة تاريخ الشحر لن تكتمل أو تأخذ شكلها الحقيقي والأصيل إلا من خلال دراسة متعمقة لتراثها الشعبي الضارب في جذور تربة الزمان .
الجغرافية وطبائع الناس
وفي الواقع أن الجغرافية أو الطبيعة أو البيئة تلقي بظلالها على حياة الناس ، فتأثر تأثيرا عميقا ً على طبائعهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم أي على موررثهم أو تراثهم الشعبي . وعندما ندرس تاريخ الشحر يجب أن ندرس الجانب الجغرافي و البيئة وأثرهما على حياة أهلها أي أنه لا انفصام بين التاريخ والجغرافية .
وبمعنى أوسع أن العامل الجغرافي له بصمة واضحة وعميقة في سلوكيات و طبائع السكان والمجتمع . وهو ما أكده الدكتور سيد سالم مصطفى بأن الاختلافات الطبيعية لها أثرها الواضح في تشكيل سلوكيات السكان وحياتهم ، فالمجتمع الذي يعيش في المناطق الجبلية تتسم صفاته " بالنحافة وكثرة الحركة ، وشدة الحيوية ، كما يتصف بالذكاء والحذر من الغرباء والشك فيهم ، وذلك على عكس السهلي الذي يميل إلى البدانة والاسترخاء والركون إلى الراحة والسلام ، كما يشتهر بلين العريكة ".
والمجتمع الذي يسكن على البحر فإنه تتسم صفاته بأنه يعشق المغامرة ومن ناحية أخرى قدرته الواسعة على استيعاب التيارات الثقافية والعقلية المختلفة القادمة من بعيد أو من الخارج ونقصد بها الموروث الشعبي الآخر القادم من وراء البحار الذي امتزج بتراثه الأصيل.
البحر والأغاني الشعبية
وتترامى إلى إسماعنا أغاني شعبية غاية في الجمال والعذوبة تهز مشاعرنا ، وتدغدغ أحاسيسنا وذلك عندما يعود البحار أو البحارة إلى أهليهم ، وذويهم ، وأحبابهم من جوف البحر العميق إلى شاطئ السلامة بعد غياب طويل .
فتغني النساء على لسان الشاعر الشعبي المجهول اللواتي ينتظرن رجالهن على الشاطئ ، وفي عيونهن يطل القلق ، ويخفق القلب من الخوف . وعندما تظهر في الأفق المراكب الشراعية التي على متنها البحارة شيئا ً فشيئا ً ، فيزغردن ويغنين . وقد رفرفت الابتسامة على وجوههن ، فينشدن:
(( يا قريب الفرج يا قريب
يا الله مع الصابرين يا قريب ))
وفي موضع آخر ينشدن مرحبات بأزواجهن، وآبائهن، وأقاربهن: (( حيا ومرحبا بالهادف ومن هو حضر
رجال مثل النمارة ما تهاب الخطر)) .
جسر الأمل
والحقيقة لقد مر بنا سابقا أن أغاني البحارة تمثل جسر الأمل الذي يربط بينهم وهم في عرض البحر وبين ذويهم وأحبابهم الذين يعيشون في البر الآخر . فالبحارة يبددون خوفهم وقلقهم من عذابات الرحلة ، وأهوال البحر وأمواجه الهائلة من خلال الأهازيج التي ينشدونها على متن المراكب الشراعية .
وينقل الأديب حسين سالم باصديق عن المستشرق الإنجليزي روبرت سارجنت في كتابه (( شعر ونثر من حضرموت )) عن أهمية الغناء لدى البحارة ، قائلا : " إن لكل مركب شراعي ضاربا على الطبل أثناء مختلف الأعمال في البحر ، وهو رجل من الأهمية بمكان بحيث يأتي في الترتيب الثالث بين أصحابه الملاحين بعد القبطان ونائبه ". وهذا إنّ دل على شيء فإنه يدل على مدى أهمية الأغنية لدى البحارة على متن السفن .
أغنية العمل
ويذكر الكاتب والقاص حسين سالم باصديق عن الأغاني التي ينشدها البحارة في المناسبات المختلفة ، فيقسمها إلى ثلاثة أنواع ، فيقول : " إن أغاني البحارة هي ذات أنواع ثلاثة وكل نوع مختلف عن الآخر من حيث النغم والمضمون ومن حيث الهدف أيضا، فالنوع الأول هو أغاني العمل أي الاستعداد بشباك الاصطياد ولوازمه أو الاستعداد بلوازم (( سواعي )) زوارق صغيرة لنقل البضائع والتوغل بها إلى أعماق البحر". ويواصل باصديق حديثه ، : " وهذا النوع يهدف إلى شد نشاط البحار نحو عمله في رتق الشباك وإصلاحها , وأعدادها وتكون الأغنية ( فردانية ) إذا كان يعمل في البحر وحده . وقد تكون جماعية عندما يكون عددهم كبيرا، ويشتركون معا في إعداد شباك كبيرة ولوازمها ". : " ومضمون هذا النوع من الأغاني هو نفس مضمون أغاني العمل الشعبية... فقد تكون عن السمك أو الإنتاج العام في البحر أو عن حياة البحر أو عن حياة البحارة أنفسهم أو أفراحهم أو أحزانهم وآلامهم. وفي ذلك يشكو للبحر همه وينفث ما في جوفه ويداه تتحركان في العمل ".
أغنية الحنين
ويصف الكاتب والقاص حسين باصديق النوع الثاني من أغنية البحارة، بأنه يردد أغاني البحر على ظهر المركب الشراعي في جوف البحر ، وأمواجه العاتية كالجبال الراسيات تقذف به يمنة ويسرة أشبه بريشة في مهب الريح وفي تلك الظروف الصعبة تلمح فيها أي الأغنية الحنين الجارف , والعواطف الملتهبة واللوعة على فراق الأحباب ، فتنبعث أنيناً وأسى من صوت المغني .
" جيتك من أرض اليمن "
وأما النوع الأخير من أغاني البحارة والصيادين فمصبوغة بألوان الطيف الزاهية الألوان ونقصدها بها أغاني الأعراس , والمناسبات السعيدة الأخر مثل حصولهم على رزق وفير من الأسماك . ويرددها البحارة تلك الأغاني البهيجة عندما يستدل الليل أستاره ، وترصع النجوم قبة السماء ، ويغمر نور القمر الفضي وجه مياه البحر الزرقاء ، فيتجمع الصيادون وينشدون بصوت وإيقاع واحد متناغم ، فيقولون :
" الشوحطة قد قال عبد الله لها بحر ثاني
ما تحتجي في المغن
صوتك يماني ، وانته ياذا المخمس يماني
جيتك من أرض اليمن "
ومن الأغاني التي توضح عشق البحار الولهان المغرم , والمتيم بمعشوقته الجميلة فيبث همه وعواطفه الحارة إلى نجمة الصبح الساكنة في قبة السماء لتبلغ محبوبته كيف ينكوي ويتألم لعذاب فراقها , فيقول الشاعر على لسانه :
" يا نجمة الصبح طلي وارجعي وروحي
وسلمي لي على من عندهم روحي
بحق من أنزل القرآن في اللوح
عندي دوا الناس ما عندي دوا روحي " .
ومثلما يتسامر البحارة في شاطئ البحر عندما يسدل الليل ستاره الداكن , ويغزل نور القمر خيوطه الفضية صفحة مياه البحر ، فإن البحارة في هذا الوقت يتسامرون على متن المركب الشراعي . وتصدح كلمات أغانيهم بالغزل العفيف نحو الحبيبة والتي شبهوها بالغزال , فتقول :
" يا مهري المشدود ومن خيالك *** يرعاك زهر المقطوف
دائم على حالك
حيا زمن يومنا حبك تشعلك *** واليوم شوفي مكلوف
باهب لي من قبالك "
مشاعر مشتركة
وفي الحقيقة أنه من الصعوبة بمكان أن نفرق بين أغاني البحارة والصيادين سواء في الشحر أوعدن ، أوالمكلا ،أوالحديدة أوالمخا أو غيرها من سواحل اليمن ، فالمشاعر والأحاسيس مشتركة وواحدة بينهم تعبر عما يجيش في صدور هؤلاء البحارة الذي يمخرون عباب البحر وراء الرزق الأهوال تحيط بهم من كل مكان .
والحقيقة أن أغاني البحارة ما هي في حقيقة أمرها إلا موروث شعبي قديم يصف حالة البحارة القدامى مع البحر, فيرددها جيل بعد جيل من البحارة سواء في الشحر أو غيرها من المدن الساحلية الأخرى.
الشحر والأسطورة
وكيف كان الأمر ، فإنّ الكثير والكثير جدًا من المعلومات يشوبها الغموض والاضطراب الشديد في نصوص تاريخ الشحر الموغل في القدم وخصوصًا فيما يختص حول تسميتها ، وكيف ظهرت على وجه الحياة ؟ . وهذا كتاب ( معجم بلدان حضرموت ) للعلامة المؤرخ السيد عبدالرحمن عبيد الله السقاف ) ويعد من المؤلفات المتخصصة في جغرافية حضرموت لا يعطينا صورة واضحة عن تاريخ الشحر ، بل أنّ نصوصه عن الشحر مضطربة ، ومهزوزة . وهذا دليل بأنّ المراجع التاريخية لا تسعفنا بمدنا بمعلومات واضحة الملامح بينة المعالم عن تراثها و تاريخها . فعلينا أن نتوجه صوب الأسطورة لعلها لتمدنا بمعلومات قيمة عن تاريخها الغابر. فإن تلك الأسطورة أو الأساطير قد تقودنا إلى حقيقة تاريخية وجديدة لكونها تسد الفراغ الذي لم يكتب في النص المكتوب .
وكان الأعم والأغلب من الناس يظنون أن الأسطورة وخصوصا الباحثين الناشئين أنها محض خيال أو خرافة لا تمت للحقيقة بصلة . وفي واقع إن التاريخ ولد من بطن الأسطورة وتربى في حجرها أو بعبارة أخرى التاريخ نشأ من ضلع الأسطورة على حسب تعبير الدكتور قاسم عبده في كتابه (( بين التاريخ والفلكلور )) .
الهوامش :
العلامة : محمد بن أحمد الشاطري ؛ أدوار التاريخ الحضرمي ، الجزء الأول ، الطبعة الثالثة 1415 ه / 1994 م ، دار المهاجر للنشر والتوزيع . توزيع مكتبة تريم الحديثة .
صالح الحامد ؛ تاريخ حضرموت ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية 1423 ه/ 2003 م ، مكتبة الإرشاد صنعاء الجمهورية اليمنية توزيع مكتبة تريم الحديثة حضرموت.
القاضي : محمد بن محمد الحجري ؛ بلدان اليمن وقبائلها ، تحقيق وتصحيح ومراجعة : القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الجزء الثالث، الطبعة الأولى 1404 ه / 1984 م ، منشورات وزارة الإعلام والثقافة صنعاء .
الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 1635 م ، سنة الطباعة 1969 م ، معهد البحوث والدراسات العربية جامعة الدول العربية .
الدكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ، الطبعة الثانية 2001م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ج . م . ع .
حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414ه /1993م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني (صنعاء) .
عبد الله بن عبيد الله السقاف : تحقيق : إبراهيم أحمد المقحفي ؛ معجم بلدان حضرموت ، الطبعة الأولى 1433ه / 2002م ، مكتبة الإرشاد الجمهورية اليمنية (صنعاء) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.