د. وائل مرزا في عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرارٍ أن يتبدل إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك. ولكن من الممكن أيضًا حصول كل ما نتصور أنه مستحيل حين تغيب تلك المصلحة، أو حين يكون في حصوله شبهة مصلحة، بناءً على حساباتٍ خاطئة أو مغلوطة. لم يكن الشعب السوري بحاجةٍ ل(مهزلة الضربة)، وهما كلمتان تكفيان للتعبير عن كل الدلالات المتعلقة بالموضوع، لكي تتأكد قناعتهُ بكل ما آمن به من قبل فيما يتعلق بموقف النظام الدولي الحقيقي منه ومن ثورته. وهو في جميع الأحوال يبدو سائرًا في طريق الآلام لتحقيق هدفٍ واحد لم تعد، منذ زمن، ثمة إمكانية ليكون له بديل. وقد يكون عدم حصول الضربة سببًا لاستعادته زمام المبادرة. لكن مسرحية (الضربة) بكل تطوراتها ونتائجها ومآلاتها البعيدة تفرض على القوى الإقليمية ذات العلاقة أن تُعيد قراءة المشهد، وأن تبني حساباتها على المعطيات الجديدة التي أفرزتها، وهي مُعطياتٌ في غاية الحساسية والخطورة، وتُرسل رسائل تتعلق بمصير المنطقة بأسرها على مستوى إعادة رسم الخرائط. فبغضِّ النظر عن كل الكلام المُنمّق والشعارات النظرية عن التحالف الاستراتيجي والشراكات طويلة المدى والصداقات التاريخية، تُظهر التطورات أن أمريكا وأوروبا على استعداد كامل لإهدار المصالح الاستراتيجية لبعض القوى الأساسية في المنطقة، بوقاحةٍ تكاد لا تعرف الحدود، حتى لو كانت هذه المصالح تصل إلى أن تتعلق أحيانًا بالوجود نفسه، وليس أقل من ذلك. وفي هذا الإطار، يتم تجاهلُ كل الالتزامات، بل والتضحيات، السياسية والاقتصادية التي قدّمتها هذه الدول على مدى عقود. وقد قدّمتها انسجامًا أولًا مع أعراف العلاقات الدولية التي تَحكمُ منظومة المصالح المُشتركة للدول، ثم انطلاقًا من الحرص على القيام بما يمكن لتأكيد مقومات السلم والاستقرار في المنطقة. من المُعيب ابتداءً ادّعاءُ التجاهل لما بات يعرفه الصغير والكبير في منطقتنا عن معاني ودلالات الدخول مع النظام السوري في نفق المناورات الطويل المتعلق بالأسلحة الكيميائية. وبإشرافٍ وتنسيق روسي إيراني. لا نتحدث هنا عن المعاني الأخلاقية التي ربما يكون خيرُ من وصفها، وبعاميةٍ مُعبّرة، مثقفٌ سوريٌ قد يكون اليوم أكثرَ من يمكن توصيفه بأنه ليبرالي ومُعتدل وعقلاني، من أهل سوريا، هو ياسين الحاج صالح حين قال: «في شي حقير جدا بهالعالم الوسخ. صارت كل القصة قصة سلاح ما، مو قصة مجرم يستخدم هالسلاح وغيرو. كل الحكي صار عالساطور، مو عالمجرم الحامل الساطور، ولا عالدم اللي عالساطور، ولا عالناس اللي قتلهم المجرم بالساطور، ولا عالعدد الأكبر اللي قتلهم بالمسدس والمدفع... وصار مصير الساطور هو موضوع البحث العالمي، مو مصير المقتولين ولا مصير القاتل. عالم مفلوج بضميرو». لا. لا نتحدثُ عن معاني ما جرى من حيث انهيار المنظومة الأخلاقية الدولية التي تسمح باستمرار أبشع مجزرةٍ في العصر الحديث أمام بصر العالم بأسره، شعوبًا وحكومات. فهذا حديثٌ لم يعد من ورائه طائل، وإن كنا نؤمن بأن تلك الممارسة سترتدُّ على كثيرين في العالم المذكور لعنةً بشكلٍ من الأشكال، تبعًا لقوانين وسُنن الاجتماع البشري، وبعيدًا عن التفكير الرغائبي. لكن لهذا الحديث مقامًا آخر. وإنما الحديثُ هنا عن حساباتٍ سياسيةٍ تسمح بحدوث خلخلةٍ كُبرى في موازين القوى الإقليمية، اختصرها الناشط السوري نجاتي طيارة حين قال إنها تعني: «ببساطة، انفلات حلف النظام الإيراني الروسي من أي عقال، واستشراسه لا في سوريا وحسب، فلم يعد هناك أفظع مما ارتكبه فيها حتى اليوم، بل انفلاته في المنطقة العربية والعالم أيضًا، وهذا هو السبب الحقيقي لمشروع الضربة. إنه يعني موت القانون الدولي وخطوطه الحمراء كلها، ليس على استخدام السلاح الكيماوي فقط، بل على كل تدخل وانفلات آخر، لتجارة السلاح الروسية وعملائها، ولدولة ولي الفقيه وتعصبها الشيعي الفارسي أولًا وأخيرًا أيضًا». ليس مهمًا في هذا الإطار أن تكون تلك الحسابات مقصودةً أو نتيجة غباءٍ في الرؤية دفعت المنطقةُ، ومعها العالم، ثمنهُ أكثر من مرة في العقود الأخيرة. فالنتيجة في نهاية المطاف واحدة، ولايمكن للدول صاحبة العلاقة أن تقف أمام هذا الموضوع موقف المُتفرج، لأنه أصبح موضوع مصيرٍ ووجود، وليس هزةً سياسيةً عابرة. «لسان الحال أبلغُ من لسان المقال» كما قالت العربُ دومًا. والرسائل التي تُطلقها المهزلة الأخيرة في المشهد السوري تقول لكل أصحاب العلاقة: «ما حكَّ جِلدكَ مثل ظفرك فتولَّ أنت جميع أمرك» أي «اقلعوا أشواككم بأظافركم». لا يُقالُ هذا للسوريين فقط، وإنما أيضًا لقوىً إقليمية يُعرف أنها ستتضرر من تلك المهزلة بشكلٍ استثنائي. وحين يصبح الأمر أمرَ وجودٍ وبقاء يُصبح ممكنًا، بل مطلوبًا، تأجيلُ البحث في كل شيءٍ آخر في هذه المرحلة، والاتفاق جديًا على اقتلاع الشوك بقوة، مرةً واحدة وإلى الأبد. لكن الموضوع قد يحمل في طياته (مناورةً) ربما يجب الانتباهُ إليها، وتتمثل في أن صانع القرار في أوروبا وأمريكا يُدرك تمامًا مصالحه الاستراتيجية مع القوى ذات العلاقة في المنطقة، لكنه يُمارس ما يُشبه لعبة (البوكر) سياسيًا حين يُحاول الضغط عليها من خلال (الإيحاء) بإمكانية استغنائه عنها، وباستخدام مثل هذه الصفقات المحسوبة. ومفصلُ الطريق في المسألة يكمن في أن تُسارع هذه القوى تحديدًا إلى إظهار جديتها في الدفاع عن مصالحها بكل ما فيها من حسمٍ ووضوحٍ وقوة، وبعيدًا عن أي تردد، حفاظًا أولًا على (هيبةٍ) لا يمكن التفريط بها والتقليل من أهميتها البالغة في جملة الحسابات السياسية، ثم تأكيدًا لجاهزيتها العملية في التعامل مع مدخل (كسر العظم) الذي تحاول إيران خصوصًا التركيز عليه. وفي مثل هذه الحالة فقط، تعود أوروبا وأمريكا للاعتراف، ليس فقط بمصالحها الاستراتيجية الحقيقية في المنطقة، بل وبضرورة العمل بمقتضيات مصالحها المشتركة مع دولها، بعيدًا عن منطق المناورات. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain