د. عبدالإله محمد جدع غالبية الناس على علم بفضل هذه الأيام المباركات العشر من ذي الحجة، التي أقسم الله العلي القدير بها (والفجر وليال عشر)، والتي ورد فيها عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا جهاد في سبيل الله؟ قال: ولا جهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).. رواه البخاري.. وكل الدعاة والمحدّثين يذكّرون الناس في هذه الأيام وقبلها بأهمية العمل الصالح فيها، والتقرّب إلى الله، غير أننا نحتاج إلى وقفات تأملية في فلسفات العبادات ومواسم الخير والبركات، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ضعيفًا، وأراد تهذيب نفسه وتطويعها، ومقاومة إغرائها، فجعل الأحكام والتوجيهات القرآنية، وما جاء على حديث حبيبه سيد الخلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كلها قواعد ما بين الترغيب والترهيب؛ حتى يقوّم المرء اعوجاج نفسه الضعيفة الأمّارة بالسوء.. ولذلك جعل مواسم الخير تترى من رمضان، إلى الست من شوال، ثم العشرة من ذي الحجة، ويوم عرفة على رأسها، فعاشوراء.. غير أننا لا بد أن نسترعي الانتباه إلى ما يلي: أنه في كل موسم للخير، وفرصة للتقرب إلى الله يغفل عن الكثيرين أمر التوبة النصوحة، ومن شروطها الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، وتطهير النفس بالندم عليه، والاستغفار منه (وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون).. والتوبة أمر جدير بالتأمل العاقل، إذ إنها أقسام، فما بين العبد وربّه، وما ارتكبه من محرمات يتضرع بعد التوبة منه إلى المولى الغفور الرحيم الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن الكثير، ولكن على المرء أن يتوب ويتوجه مخلصًا لله، ويعمل الصالحات (إن الحسنات يذهبن السيئات).. وقال تعالى في شروط ذلك: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). غير أن القسم الآخر من التوبة يخص الذنوب التي بينه وبين العباد، وعلى رأسها أكل الحقوق، واغتصاب الأموال، وملكية ما لا يملك زورًا، والبهتان والافتراء على الناس والنيل من سمعتهم، والغيبة في حقهم، وملاحقتهم بالباطل، فهذه أجمع الفقهاء على أن شرطها الأساس في إرجاع حقوق الناس والتحلل منهم قبل فوات الأوان، وهناك أناس جبلوا على ذلك واستمرأوا أكل الحقوق بعضهم بعضًا، ثم غيرهم من الناس، ويخدعهم إمهال الله لهم حتى يأخذهم بغتة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لذلك كان لزامًا على من يبتغى وجه الله، والتقرب إليه في المواسم، والتزوّد من التقوى، وتكفير الذنوب، أن يحقق شروط التوبة على أصولها، فهو أكثر قربة لله من التطوع بالصوم والصدقات، فثمة أناس تراهم يرتادون المساجد، ويحضرون الندوات، ويتصدقون أمام الناس، وهم في الخفاء يُمارسون ما يُغضب الله من أكل الحقوق، واغتصاب الأموال، والغيبة، والنميمة، والسحر، والشعوذة، والحسد، والغلّ... وغيرها من الموبقات.. كالذي وصفه الحديث: (المفلس)، الذي يأتي بحسنات يوم القيامة، وقد أكل حق هذا، وسرق مال هذا، وسبّ هذا، وقذفه، وافترى عليه، فيأخذ هذا وذاك من حسناته، حتى لا يبقى منها شيء، فيُطرح في النار -والعياذ بالله- فإذا كانت ذنوب اللسان -وما أكثرها غيبة وافتراء وكذبًا على الناس- تورد المرء المهالك في النار، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكبّ الناس على وجوههم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم).. فكيف بالموبقات؟! كيف يستهين الإنسان بذلك، ولا يتحلل من الناس، وأصحاب الحقوق، ومن اعتدى عليهم أو اتّهمهم بالباطل والافتراء قبل فوات الأوان، قال تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون* لعلي أعمل صالحًا فيما تركت كلّا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون).. وقال تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون).. ونريد أن نعيد قراءة هذه الآيات بقلوبنا ونتفكر فيها، ونستلهم خطورة الموقف الذي يصوّره النص القرآني كمشهد الفيلم وقصة الواقع. وأقول للمظلوم الذي أُكلت حقوقه، واغتُصب ملكه، وطُعن زورًا وبهتانًا في سمعته، وتمَّ التعدّي والكذب عليه، لا تخف فوالله الذي لا إله إلاّ هو لينصرنك الله ولو بعد حين، فهو قسم لله جلّ في علاه.. ويا حظ من اقتص منه الله في الدنيا، ولم يستدرجه ويتركه للآخرة.. ولكن يا ليت قومي يعلمون!! [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (45) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain