إبراهيم اليوسف بعيداً عن تفاصيل الخط البياني لسيرة نيلسون مانديلا (1908-2013) التي كتب عنها نحو خمسمئة كتاب، وكانت مدعاة نيله نحو ثلاثمئة جائزة عالمية، من بينها جائزة نوبل في العام ،1993 وهي جديرة بأن تستمر الكتابة عنها، لاسيما أن كل ما كتب إنما يعتمد على ملامح محددة من سيرة هذا القائد الجنوب إفريقي الاستثنائي في تاريخ البشرية، وهناك جوانب كثيرة من حياته من الممكن أن يكتب عنها، من بينها أن كل ثانية واحدة، بحسب تواقيت ساعتنا المتفق عليها، من عشرة آلاف يوم أمضاها في سجون نظام الفصل العنصري الرهيب، يمكن أن تكون مدار كتابات لاتنتهي، لأنها تجسد أعظم معاني المواجهة، والصمود، في سبيل حرية شعبه الذي كان يتجرع أشد مرارات العذاب، والظلم، والإذلال، والجوع، تحت نير أحد أسوأ أنظمة الاستبداد الوحشي منطلقاً بذلك من حالة إيمانية رؤيوية جبارة، هي أنه في ثنائية القمع والحرية لابد من أن تنتصر الأخيرة، وذلك وفق قانون دورة حركة الزمن، والتراث العظيم لكفاح الإنسان منذ فجر البشرية وصولاً إلى اللحظة المعاشة . استطاع مانديلا، منذ بداية تبلور وعيه، أن يكون وفياً إلى قناعاته، من خلال ربط الكلمة بالفعل، ومحو أية هوة تظهر بينهما، وهي مسألة مهمة بالنسبة إلى الكائن البشري، بل تبدو أكثر أهمية بالنسبة إلى من يتنطع لحمل رسالة شعبه، وقضيته، ويغدو الأمر لا غنى عنه عندما يكون المرء قائداً، لأن أي تباين بين النظرية والتطبيق، لدى الفرد، أو المؤسسة، إنما يعني انعدام مصداقيتها، وهنا -تحديداً- يكمن سرّ عظمة من يترجم طوال شريط حياته، رؤاه، وقناعاته، التي يخدم خلالها من حوله، وبات مانديلا رمزاً أسطورياً، يعرفه ثوار العالم، كما يعرفه الطغاة . بيد أن هذا الرجل البسيط الذي مارس أصعب الأعمال -ومن بينها الرعي- في حياته، وعانى الجوع، والعيش لسنوات طويلة في زنزانة لا تتجاوز حجم جسده، إلا قليلاً، استطاع أن يكون مواطناً كونياً، نتابع أخباره، ويومياته، ومواقفه، في مشارق الأرض ومغاربها، حيث تتداخل الأسطورة والواقع، كي يكونا هذا الشخص الذي قال وهو في سجنه مامعناه "لا أمثل إلا نفسي، وكل صفقة مع السجين باطلة"، ليقطع بذلك الباب أمام من يروم منه التنازل، وهو السر في أنه انتخب رئيساً، عندما كان على أبواب إكمال ثلاثة عقود من التغييب القسري بحقه، بيدأن مأثرته العظمى كمنت في أنه لم يرشح نفسه لدورة رئاسية جديدة، وهو ممتلك كل مفاتيح الديمومة، من خلال رصيده الثوري النضالي . مانديلا، لم يحتج إلى فنان كوني خارق كي يؤسطر شخصيته، ولم يحتج إلى روائي، أو شاعر، أو موسيقي، أو مؤرخ، كي يجعل من حياته ملحمة، يوصل بالخيال إلى مرتبة ما هو مرئي ملموس، بل فعل كل ذلك برباطة جأش، ويقين، كي يجعلنا أينما كنا نحس أننا نكبنا به، في بيوتنا، كأحد رموز الكفاح التي سيستلهم منها كل حالم بالحرية دروسه . [email protected]