عمّار علي حسن «حكم مدني أم حكومة مدنية؟» هذا سؤال يشغل بال النخبة السياسية والثقافية في مصر حالياً، اتكاء على أن تغييراً ما قد طرأ على مسودة الدستور في اللحظات الأخيرة، فعدل في ديباجتها من «مصر دولة ديمقراطية حديثة حكمها مدني» إلى «حكومتها مدنية». ويثور جدل كبير عما إذا كان هذا التعديل قد انحرف بصيغة الحكم عن تلك التي ارتضتها الأغلبية الكاسحة من أعضاء لجنة الخمسين التي وضعت الدستور من عدمه. وفي تصوري فإن هذا قد يكون من قبيل المماحكات أو الهواجس التي سكنت الجميع إثر التجربة المريرة التي مرت بها مصر مع حكم «الإخوان»، وقد يكون عند البعض مسألة مبدأ، أو مكسب، كان لا بد من الحفاظ عليه. وحتى نفهم طبيعة هذه المسألة سنكون بحاجة إلى اتباع الخطوات التالية: 1 -رغم عدم وجود اصطلاح «دولة مدنية» في قواميس ومعاجم العلوم السياسية الغربية، فإن الجماعة الوطنية والفكرية المصرية صكته وقامت بالتنظير له رداً على التحديات التي شكلتها التنظيمات والجماعات السياسية التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها أو توظفه في الدعاية السياسية، وتسعى إلى تفكيك الدولة الوطنية واتباعها في مشروع أممي يتحدث عن «أستاذية العالم» أو الشكل القديم من نظام الحكم الذي كان سائداً أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين. على التوازي رسخت اصطلاحات في تصورنا الاجتماعي الراهن منها «مجتمع مدني» و«ثقافة مدنية» و«علاقات مدنية». 2 لن يقوم الحكم الديني إلا إذا ادعى من يحكم أن مصدر سلطته مستمد من السماء وليس من الشعب، أو حَوَّل الدين إلى أيديولوجية سياسية بحتة، أو زعم أن ما عليه هو أو الجماعة التي ينتمي إليها هو الطريق الوحيد للإسلام. 3 - الثقافة المدنية لا تحتاج إلى نص يحميها، بقدر ما تحتاج إلى رعاية من قبل القائمين على التعليم والتثقيف. والجماعة الوطنية في بلدنا، وإن كانت متدينة بطبعها، فإنها غير مستعدة للتنازل عن الطقوس والعادات والتجارب والأفكار التي صنعتها الطبقات الحضارية المتتالية للمجتمع المصري، والتي تخلق ما يمكن أن نسميها «الدولة العريقة»، وهي لديها قدرة فائقة على الصد والرد وحماية نفسها من أي رؤية تريد إزاحتها أو تقويضها، بل الثابت أن مصر أعطت الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام، من روحها، وطبعتها بطبعها، وحافظت معها على التقاليد والطقوس المحمودة المتوارثة. 4 - لم يكن أي من الدساتير السابقة التي عرفتها مصر ينص على «مدنية الحكم» ومع هذا سار الحكم في شكله العام مدنياً، رغم تعاقب عسكريين على رئاسة البلاد منذ ثورة 1952 بعد أن حكمتها أسرة محمد علي وأحزاب سياسية مدنية. فالعبرة هي ب«قواعد الحكم» و«الإطار الدستوري» الذي يصنعه. والدستور الحالي، في بابي نظام الحكم وهوية الدولة، يضمن المدنية، حتى لو جاء على رأس الدولة رجل من خلفية عسكرية أو دينية، وإن كان الأفضل أن يكون ذا خلفية مدنية شرط أن يكون كفؤاً للمنصب. وكما نقول إن أغلب سكان مصر كانوا مسلمين قبل وضع المادة الثانية في دستور 1971 بل قبل كل الدساتير التي نصت على «دين الدولة»، فإن الأغلبية الكاسحة منهم مدنيون بغض النظر عن ذكر هذا في الدستور من عدمه. فالتيار المدني المصري، النازع إلى الحرية والحداثة والاستنارة، لم يولد في ركاب ثورة 25 يناير ولا حتى قبلها بعقود قليلة، إنما يضرب جذوراً عميقة في التربة الاجتماعية لأقدم دولة في تاريخ الإنسانية، ويسير طيلة حياته في تعاريج تأخذه صعوداً وهبوطاً، وبروزاً وخفوتاً، وهو يدخل في دهاليز الدولة، ويلامس أروقة الحكم أو يجلس فيها قليلاً قبل أن يغادرها إلى الظل، سواء في شكل «استراحة محارب» أم على هيئة «بيات شتوي». ففي وقت مبكر جداً، تحديداً في نهاية القرن التاسع عشر، جاد الزمان على الأزهر برجل دين مؤمن بالتجديد والاجتهاد هو الشيخ حسن العطار الذي أخذت صرخته تجد طريقها إلى التحقق النسبي في ظل دولة محمد علي التي أعقبت انهيار السلطة التقليدية المتكلسة ممثلة في المماليك بعد أن أضعفتها الحملة الفرنسية التي احتلت مصر ثلاث سنوات أطلقت فيها أسئلة تحدي كانت تحتاج إلى استجابة بانت في جهد رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده الذي كان أستاذاً لسعد زغلول وقاسم أمين، جنباً إلى جنب مع ما تلقوه وحصلوه من علوم حديثة في أروقة الجامعة، وبالتالي فإن المشروع «أدلجة الدين» لجماعة الإخوان، كانت الطبقة السياسية والفكرية المصرية تواجهه بمشروع مدني طيلة الوقت، قائماً على اجتهاد جديد في الدين واستفادة مما لدى الغرب من طروحات سياسية واجتماعية. وفي الوقت الذي تجسد فيه هذا التيار تنظيمياً في حزب «الوفد» وبعض الأحزاب الأخرى التي تمسكت بالليبرالية في مجالي الفكر والسياسة فإن تواجده ورسوخه تراجع في المؤسسة الدينية. فمحمد عبده لم يترك خلفه تنظيماً يحمل ويحمي أفكاره، إنما تلاميذ متعاقبون في تقطع وتفكك كالشيخ المراغي والدكتور مصطفى عبد الرازق. في الحقيقة فليس لدي أدنى خوف على مدنية الثقافة في هذا البلد العريق، فروحه الوثابة العميقة العريقة تميل إلى الوسطية والتحضر وتجفل من الفظاظة والغلظة والتشدد والتزمت والتخلف، وأهله في الغالب الأعم يتصرفون طيلة الوقت وفق ما يقتضيه عصر العلم المتجدد، ويجفلون من أي رؤى أو تصورات دينية جامدة تجافي هذا، ويرفضون أي رؤى فقهية وفكرية مغلوطة تخاصم المعرفة والتقدم، وهم إن كانوا حريصين على دور الدين في الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والنفع العام فإنهم لا يقبلون تحويله إلى أيديولوجيا سياسية تحمل كل ما في السياسة من عوج وتلاعب ومخاتلة وعوار وتناقض، وهذا ما لم يفهمه الإخوان والسلفيون حين ظنوا أن التصويت لهم في الانتخابات البرلمانية احتفاء واحتفال بمشروعهم السياسي واحتضان شعبي جارف لمسلكهم ومنظورهم، وليس مجرد الاطمئنان إلى قوة سياسية منظمة يمكن أن تسهم في حل مشكلات الناس الحياتية، وتخرج البلاد من حالة الارتباك، وتكون أمينة على المال العام.