صبحي غندور المقصود هنا بالنموذج «الإبراهيمي» هو الإشارة إلى النبي إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) الذي يعتبره أتباع كل الرسالات السماوية بأنه «جد» الرسل موسى وعيسى ومحمد، عليهم السلام أجمعين، ولا يختلفون عليه أو ينكرون ما توارد في الكتب المقدسة عن سيرة إيمانه وحياته، فهو عمليا الجامع المشترك بينهم، وجميعهم يقر بالخصوصية التي منحها الله تعالى لهذا النبي الكريم. ولقد جرى في أمكنة وأزمنة عديدة «توظيف» الحديث عن النبي إبراهيم لصالح «أجندات» مختلفة بعضها حسن النية والمقاصد بهدف التقارب بين كل المؤمنين بالله، وبعضها الآخر سعى لإضفاء «الشرعية الدينية» على اتفاقات ومعاهدات سياسية جرت بين أطراف عربية وإسرائيل برعاية أميركية، كالتي حصلت مع مصر ثم مع «منظمة التحرير الفلسطينية»، حيث كثرت آنذاك الاستشهادات بالنبي إبراهيم والأحاديث عن أهمية «السلام» بين جهات تنتمي دينيا إلى اليهودية والمسيحية والإسلام. لكن «النموذج الإبراهيمي» الذي أريد التأكيد عليه هنا لا يتصل أبدا فيما سبق ذكره من «توظيف» قام ويقوم به (عن حسن نية) من يريد الوئام والتآلف والتقارب بين الأديان السماوية، أو من يسعى (عن سوء نية) لاستغلال الدين في أمور سياسية، ولتبرير معاهدات تتعامل أصلا مع قضايا إنسانية ترتبط بعدم شرعية الاحتلال وبحقوق الشعوب المظلومة. في نهاية عقد التسعينات، كنت بصحبة عدد من الأصدقاء الفاعلين في «مركز الحوار العربي»، نزور الدكتور طه جابر العلواني في منزله بمنطقة العاصمة الأميركية، وكان الدكتور العلواني آنذاك رئيسا لمجلس الفقه الإسلامي في أميركا الشمالية وناشطا مهما في أمور أكاديمية تهتم بالتشجيع على المعرفة السليمة بالإسلام، حيث اقترحت عليه حينها رعاية مدرسة فكرية إسلامية جديدة يمكن وصفها ب«المدرسة الإبراهيمية». وكانت دواعي الاقتراح آنذاك هي أقل شأنا مما هو حاصل اليوم بين المسلمين، فكرا وممارسة، من انقسامات ومن ابتعاد عن جوهر الدين الإسلامي وقيمه ومفاهيمه الصحيحة. الآن أجد الحاجة قصوى لهذا «النموذج الإبراهيمي» الذي هو مطلوب في ما حض عليه القرآن الكريم من استخدام العقل في فهم الأمور وفي عدم الارتكان فقط إلى ما كان عليه الآباء والأولون. ألم يختلف النبي إيراهيم مع أبيه حول عدم جواز عبادة الأصنام بعدما آمن النبي نفسه حصيلة منهج عقلاني بدأ في رفض عبادة أصنام صنعها أهل عشيرته، ثم في تساؤله المنطقي عن الشمس والقمر والكواكب التي أدرك النبي إبراهيم أنها أيضا رغم عظمتها لا يجوز عبادتها: [وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79) سورة الأنعام]. «النموذج الإبراهيمي» هو مطلوب أيضا في استخدام الحجة المنطقية لتأكيد صوابية ما نؤمن به، وليس من خلال أسلوب التكفير والعنف. فقد دعا النبي إبراهيم (ص) أهله وأبناء عشيرته الكفار إلى التخلي عن عبادة الأصنام من خلال أسلوب الحجة المنطقية حينما حطم ليلا كل أصنامهم ماعدا كبيرهم لكي يؤكد لهم بطلان ما يعبدون: [قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون(63) سورة الأنبياء]. [ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258) سورة البقرة]. «النموذج الإبراهيمي» هو مطلوب في كيفية عدم جعل الاختلاف بطرق العبادات سببا للتباعد بين المؤمنين بالله أو للأساءة لبعضهم البعض. فنحن لا نعرف كيف ومتى كان النبي إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) يصلي ويصوم، وهو الذي جاء قبل ظهور التوارة والإنجيل والقرآن، وقبل تعصب المسلمين لمذاهب واجتهادات فقهية حصلت بعد بدء الدعوة الإسلامية. فالنبي إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا سنيا ولا شيعيا، بل كان مسلما حنيفا بالمعنى الشمولي لكلمة «الإسلام» التي تشمل كل من آمن بالله الخالق عز وجل: [ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) سورة النساء]. [يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) سورة آل عمران] [ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) سورة آل عمران]. *** وينطبق الآن على حال الأوطان العربية والإسلامية وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التدين» واهتمام الناس بكيفية تفاصيل «العبادات الدينية» وفق اجتهادات فقهية محددة، لكن مع ابتعاد كبير لهولاء الأفراد ولهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيمه وفروضه الاجتماعية. إن المسلمين عموما، والعرب خصوصا، بحكم دور لغتهم بنشر الدعوة الإسلامية، وبسبب احتضان أرضهم للمقدسات الدينية، ولكونها أيضا مهبط الرسل والرسالات، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل في شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة المنصوص عليها في كل الكتب السماوية من قيم ومبادئ. فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين القيم الدينية الشاملة لمسائل العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة الوطنية في هذه المجتمعات، وأينها بين كل المؤمنين بالله وأينها بين الطوائف والمذاهب المختلفة؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء ومرجعية العقل في مواجهة الجهل وظواهر الجاهلية المتجددة حاليا في الأفكار والممارسات؟ أين رفض التعصب والتمييز؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم، وأين العرب من كونهم «خير أمة أخرجت للناس» بعدما حملت رسالة تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرق بينهم، وتؤكد على وحدة الإنسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟! وهل ينسى المسلمون موقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين دعاه راعي كنيسة القيامة إلى الصلاة فيها، فرفض ذلك الخليفة عمر، حتى لا يأتي يوما أحد فيقول: هنا صلى عمر، ويدعو إلى تحويل الكنيسة إلى مسجد. فقد جرت في المنطقة العربية، على امتداد تاريخها العربي الإسلامي، المحافظة على الكنائس المسيحية ورعايتها. والإسلام، كما عرفه وعاشه العرب المسلمون والمسيحيون واليهود، هو إسلام المحبة والتعايش الديني الذي حافظ على التعددية في المجتمع الواحد، خاصة في ظل القيادة العربية لحقب التاريخ الإسلامي. عسى أيضا أن يكون «النموذج الإبراهيمي» حاضرا في سلوك المسلمين حينما يفقهون معنى الحج إلى مقام النبي إبراهيم في مكةالمكرمة. ففي الحج يلتقي، من بقاع الأرض قاطبة، ملايين من البشر. ويتساوى على أرض مكة وفي مناسك الحج: الغني والفقير، الأبيض والأسود والأسمر، الرجال والنساء، والحاكم والمحكوم. وفي الحج أيضا تظهر وحدة الجنس البشري ووحدة الدين الإسلامي، فلا تمييز في الحج ومناسكه بين عربي وأعجمي، ولا بين مسلم من هذا المذهب أو ذاك. فالحجاج يعودون إلى أوطانهم في هذا العصر ليجدوا في معظمها هذا الانقسام الاجتماعي الحاد بين الغني والفقير، وبين الحاكم والمواطن، وبين المحروم والمالك، بينما الدعاء في الحج «له الملك وحده، لا شريك له»!. ويعود الحجاج إلى حياتهم العادية ليلمسوا فيها وفي مجتمعهم هذا التمايز الكبير بين الرجل والمرأة، ولمفاهيم وممارسات مناقضة لما عاشوه في الحج من مساواة بين الرجل والمرأة في كل المناسك، فالاختلاط بين الرجال والنساء حلال في الحج، وحرام في غيره! فحبذا لو تنشأ فعلا «مدرسة إبراهيمية» يعود فيها المؤمنون بالله والمسلمون عموما إلى «أصولية» الفهم الصحيح للدين وللمعنى الشمولي للمسلم الحنيف. حبذا لو كل مؤمن بالله يقول الآن: «أنا مسلم إبراهيمي». ايلاف