الشارقة - محمد ولد محمدسالم: لم يلتقط المشاهدون أنفاسهم وهم يتابعون لوحات الأداء المتناغمة بين مرعي الحليان وسميرة الوهيبي، ولحظات البوح المتنقلة بين الحاضر والماضي والمستقبل، في أداء تمثيلي يأخذ المشاهد إلى أعماق الحالة الإنسانية خلال عرض مسرحية "الحصالة" لمسرح بني ياس، المسرحية من تأليف وإخراج محمد صالح، وقدمت مساء أمس الأول ضمن عروض المهرجان على مسرح جمعية المسرحيين الإماراتيين في الشارقة . يحكي العرض عن ابنة وحيدة تعيش مع أبيها الهرم الذي حرمها من الزواج من طالبي يدها الذين ظلوا يترددون على البيت، وهو يصدهم حتى فاتها القطار، وتشكو من معاملته لها كالخادمة، وتحرم مما تتمتع به بقية البنات من حياة كريمة ورفاه، وما يحصلن عليه من أمان في كنف زوج ومع أولاد، ولا يقابل الأب شكوى البنت إلا بالسب والضرب، وأكثر من ذلك يعيرها بأنها مثل أمها التي تخلت عنها طمعاً في المال . وتستعيد المسرحية ذكريات الأب مع زوجته التي كانت تريد منه أن يبيع المنزل الطيني المتهالك الذي يسكنونه، ويخرج من ذلك الحي إلى منزل حديث يحتوى على خدمات الحياة المعاصرة، ويرفض الزوج أن يبيع المنزل متحججاً بأنه عاش فيه كل حياته مع أبويه، وأن روحهما ترفرفان حوله في ذلك المكان، ولا يستطيع أن يتركه، وتضعه الزوجة أمام خيار إما أن يطلقها أو أن يبيع المنزل، فيطلقها وتغادر البيت تاركة ابنتها الوحيدة وراءها . وتعود المواجهة بين الأب والبنت التي تحاول الدفاع عن أمها معتبرة أنها كانت تريد إنقاذ نفسها من الخراب الذي يعيش فيه ذلك الأب، وأمام تصاعد شكوى البنت واحتجاجها على حرمانها، يفتح لها الأب صندوقاً (حصالة) كان يخبئ فيها حلياً وزينة لابنته، فتبتهج البنت بالحلي، وتتناوب هي والأب على دورة من البوح الفرح الممزوج بالحلم في أن تلك الزينة ستجعل منها قمراً يتبعه الرجال في الشارع ويصطفون عند باب البيت للفوز بالزواج منه، لكن الحلم لا يطول حتى تفيق البنت على الواقع القاسي، فتثور من جديد وتأخذ في الاحتجاج، وتعمد إلى إخراج أثوابها استعدادًا لترك المنزل، وأمام قرارها يتلاشى قناع الصرامة والقسوة الذي كان يتقمصه الأب، فينهار ويتوسل إليها باكياً ألا تتركه وحيداً في ذلك العمر، ويفتح لها الصندوق لينهمر كنز المال الذي ظل يجمعه طوال العمر، فتتلقف الكنز مبهورة به، وتعود إلى الأحلام من جديد، وتطرح خططاً للمستقبل من ضمنها بيع المنزل وبناء منزل جديد، وشراء زوج، وشراء أنواع الألبسة والأسورة والحلي، وغير ذلك، وفي لحظة تتذكر أن خططها ستقضي على كل ما تشبث به أبوها، فتتراجع عنها، وتقرر أن كل ما يهمها هو أن تبقى إلى جانب أبيها، وترعاه في ذلك المكان الذي ظل يتشبث به . اختار المخرج أن يجرد الخشبة من أي ديكورات يمكن أن تعيق حركة الممثليْن، ولم يترك لهما سوى مكعب تناوبا على الجلوس عليه في حالات البوح، ونقلاه معهما من مكان لآخر، وعلق في وسط سقف الخشبة صندوقاً هو الحصالة التي خزن فيها الأب المال، وكان لباس الممثلين متطابقاً تماماً، ليشير ربما إلى التماثل في المعاناة، أو إلى مفهوم الاستمرارية الذي هو أحد ملامح الطرح الدرامي في المسرحية، وكان ذكياً في استخدام الإضاءة، الموضعية التي تسلط الضوء على الممثل أو الممثلة لحظة البوح، كما عبرت الإضاءة عن الحالات الشعورية بألوان الفرح والحزن والأمل واليأس، وشكل اتخاذ ستارة سوداء تغطي كامل جدران قاعة العرض إضافة ذكية توحي بظلام المنزل الطيني المتهالك وسوداوية الحياة التي تعيش فيها تلك الأسرة . رغم النجاحات الكثيرة في العرض وتحقيقه التفاعل المنشود من طرف الجمهور، إلا أنه عانى إشكالية على مستوى الطرح الفكري، فهل كانت الزوجة ظالمة معتدية طامعة في المال حين تخلت عن زوجها . وهل كان الزوج على حق حين تشبث بذلك المكان المتهالك الخانق كما تصوره المسرحية لمجرد أنه عاش فيه مع أبويه وورثه عنهما، وهل كانت البنت ظالمة في طموحها؟ وهل كان الأب عادلاً حين أراد بقاءها معه في ذلك الخراب؟ وجمع لها كنزاً سترثه بعد أن يموت هو وتشيخ هي ويذهب ماء شبابها، وتنتهي رغبتها في الحياة، وهل كانت نهاية المسرحية تراجعاً عن خيار الحياة الطبيعية أم انحيازاً للأصل والتاريخ وتشبثا به؟ هذه الأسئلة لم تجب عنها المسرحية، فوضعتنا في حيرة فكرية وغموض، لم نعرف معه مع أي صف نصطف، فكل خطوة في المسرحية يمكن أن تفسر على الاتجاهين، اتجاه تقدمي تحرري واتجاه رجعي، اتجاه الخير واتجاه الشر . الخليج الامارتية