هأنا أعود لأطلّ من نافذة صحيفة المدينة، ذات النافذة التي احتضنت قلمي قبل ما يربو عن عشرين عامًا.. حين كنتُ طالبة بالمرحلة المتوسطة، كنتُ حينها أشعر بأنّي مُختلفة.. مُختلفة عن الجميع، انكفأتُ على نفسي، وطدتُ علاقتي بالقلم، بالكلمة، كتبتُ عن معلمتي التي رحلت، وعن الأمّ حين تموت، وعن المساء حين يُباغت أمني، وعن شجرة الخوخ، وعن التعدد، وعن عجوز قريتي، و...، و...، وعن صوت فيروز حين يحلّ الحزن..!! وأخيرًا كتبتُ عن (الحبّ).. ورفضت صديقتي العتيقة التي كانت تحمل بريدي بعيدًا عن أعين أهلي إلى جريدة المدينة أن تحمل (ورقة الحبّ) هذه المرّة، ونهرتني بنبرة قاسية قائلة (الحبّ حرام)، حاولت أن أُفهِمها أنّ الحب ليس كما تظنّ، الحبّ ليس علاقة مُحرّمة بين رجل وامرأة، الحبّ يا صديقتي هو علاقة تربطني بشجرة الخوخ، وبالنمل الذي يملأ تربتها، فمنذُ رحيل أمّي وأنا أقضي مع الشجرة والنمل جُلّ وقتي، حتى أن النوم يغلبني أحايين كثيرة تحت أوراقها، وعلى تربتها، لكنّها رفضت.. وقالت (أكتبي غيرها، أو ابحثي عن غيري)! شعرتُ حينها بأنّها تُمعن في إذلالي.. في ألمي، تركت جريدة المدينة وانتقلتُ للمنتديات كعابرة بلا سبيل! في عالم النت كانت المساحة أرحب، والكتابة أكثر حرية، ومضينا مع العابرين، الذين ملأوا دواخلنا ضجيجًا، نكتب النصوص، كتبنا عن فلسطين، وعن العراق، والشيشان، وعن دار فور، وحين أُنُهكنا انتقلنا لحديقة الحبّ.. الأب حين يحنو على طفله، وعن صدر الأمّ، وحضن الأخ، وعن قلبين التقيا فجأة فتبادلا النبض، هناك في العالم الافتراضي لا يوجد رقيب إلاّ ضميرك، ولا يردعك إلاّ شعورك بالله ينظر إليك، ولست بحاجة لساعي بريد يحمل رسائلك، ويُذّلك، لكنّي بقيت رغم ذلك أمسك القلم، أحتضن الورقة، أمارس بعض خربشاتي عليها، ولازلتُ أمارس الكتابة بشكل شبه يومي، ربما هروب، فأنا حين (أتعب) أنكفئ على ذاتي، وأمارس التفريغ من خلال ورقتي، لكنّهم حين يتعبون لا يطرقون إلاّ قلبي حدّ أن قلوبهم أصبحت تخفق في صدري! الكتابة ممارسة لذيذة تُغنيك عن الكثير، وبدلاً من أن تُحدث أحدهم فأنت تُحدّث المئات، وتقرأ وجهك في تفاصيل حروفك، وستدمن أرصفة الكتابة كونه الرصيف الذي يحترمك ويسمعك دون أن يُصيبه الملل يومًا من حكايات الحزن والحبّ والإحباط الذي يُهاجمك أحيانًا..! اقرأوا جيدًا، وهاجروا بأرواحكم إلى أرواحكم، وحلّقوا بها في سماء العزلة، ثمّ تأمّلوا كثيرًا، وأنصتوا لصوت الأمل حين يُحدّثكم، ثمّ تناولوا القلم وأكتبوا: إن الكتابة ليست بوح ألم، أو تخليد فرح، وحسب.. إنّها رسالة إنسانية، وخدمة اجتماعية.. أنا أكتب لأكون، لأجد مَن يستمع لحرفي، ويقرأ مشكلتي، أنا أكتب من أجلي، من أجلك.. من أجل الجميع.. فكل الشكر، وأوفر الامتنان لمَن كان له الفضل -بعد الله- في وجودي في بيتي الأول من جديد. فاطمة آل مرطان - المدينةالمنورة صحيفة المدينة