جرح عاصمة الشمال اللبناني "ختم على زغل"، ما هدأت هناك على المستوى الأمني حتى اشتعلت أخيراً في العاصمة بيروت على المستوى السياسي، لا سيما أن كوة الضوء الوحيدة التي برزت في جدار الأزمة السياسية السميك، وبعثت بعض الأمل في أماكن التحاور بين فريقي الأزمة المتمسك كل منهما بمواقفه، ما لبثت أن أوصدت مجدداً مع اخفاق الاجتماع الثاني الذي انعقد في الأسبوع الماضي بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ووفد نواب 14 آذار . ورغم عودة الحياة إلى طبيعتها في طرابلس في الأيام القليلة الماضية ورغم اختفاء مظاهر العنف على أشكالها والعناصر المسلحة، ورغم إمساك وحدات الجيش اللبناني للوضع خصوصاً في خطوط التماس ومناطق التوتر فإن ذلك على أهميته لم يحل دون سريان مظاهر الخشية من تجدد جولات العنف في المدينة الجريحة والمنكوبة بين لحظة وأخرى . لعل أبرز الذين اطلقوا ناقوس التحذير من هذا الأمر المرعب هو أحد وزراء المدينة وأحد أبناء بيوتها السياسة العريقه وزير الشباب والرياضة فيصل عمر كرامي . فالرجل الذي عُرِفَ هُدُوءه واتزانه، وعرف بموقع بيته السياسي المخضرم في معادلة الزعامة في عاصمة الشمال، لم يطلق العنان لهذه المخاوف عن عبث أو من قبيل التهويل، بل لأنه يقيم على معطيات ووقائع توفرت له من خلال إقامته في المدينة وتواصله اليومي مع فاعلياتها ونبض الشارع فيها . إذا إن هذه الهواجس والمخاوف التي عبر عنها الوزير كرامي لها ما يعززها في الأوساط السياسية في بيروت التي تكاد تتفق كلها على أن الاتفاق والتفاهم الذي وضع حداً لجولة العنف الأخيرة التي حملت الرقم 14 منذ اندلاع كرة النار في الساحة السورية المجاورة، لم يكن اتفاقاً سياسياً يؤمن شبكة الأمان لحال الاستقرار التي ظهرت بقدر ما كان اتفاقاً أو تفاهماً أمنياً فرضه استنفاد المقاتلين والمسلحين على الأرض لذخيرتهم وللأغراص التي من أجلها أطلقوا الطلقة الأولى وفتحوا أبواب الجحيم على المدينة والذي استمر أكثر من أي وقت مضى، إذ دام أكثر من أسبوع وحصد أعلى رقم ممكن من الضحايا (19 قتيلاً وأكثر من 150 جريحاً) فضلاً عن كثافة النيران التي ظهرت إبان جولات العنف والمعارك . وفي كل الأحوال عادت طرابلس من رحلة العنف والموت التي عاشتها قسراً وأكثر ما صار يعرف بكمين تلكلخ الذي سقط فيه ما لا يقل عن 17 قتيلاً من شبان المدينة كانوا في طريقهم إلى الداخل السوري لمساندة المسلحين المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد . ومما زاد في منسوب الاحتقان في داخل المدينة والشمال عموماً عدة مظاهر ووقائع أبرزها: أن السلطات السورية الرسمية بثت عبر التلفزيون الرسمي مشاهد مؤذية لجثامين القتلى، وهم في العراء . شيوع معلومات في الأوساط الشمالية تقول إن جثث القتلى قد نكل بها، وأن ثمة آخرين أحياء ما زالوا أسرى بيد الجيش السوري النظامي . أن السلطة السورية رفضت مطلب أهالي الضحايا بتسليم جثامين الضحايا دفعة واحدة بغية إجراء جنازة واحدة لهم، وقد سلمت السلطات السورية كدفعة أولى أربعة جثامين فقط، من دون أن تحدد موعداً محدداً لتسليم بقية الجثامين في حين أعلنت هذه السلطات أنها ليست في وارد تسليم لبنان المعتقلين الثلاثة لدى السلطات السورية . طرابلس صندوق بريد وما رفع من منسوب الاحتقان أيضاً انتقال مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار إلى إحدى العواصم الأوروبية بعد تهديدات بالقتل، نقلت إليه عبر أجهزة رسمية وقيادات سياسية وحيال الغموض والإبهام الذي أحاط عملية تسليم بقيمة جثامين القتلى كان لذوي الضحايا تحرك في الشارع نهار الجمعة الماضي لوحوا من خلاله بتصعيد عالٍ إذا لم تستجب السلطات السورية لمطلب تسليم الجثامين دفعة واحدة في أسرع وقت ممكن . مهما يكن من أمر فثمة شبه يقين في أوساط بيروت السياسية أن الوضع الأمني في طرابلس يبقى على درجة من الهشاشة يمكن معه أن يعود إلى قبضة الفلتان بين لحظة وأخرى وأن لا ضمانات سياسية أو غير سياسية تحول دون ذلك . إضافة إلى ذلك فإن ثمة قناعة لدى الأوساط السياسية على اختلاف ميولها بأن طرابلس ومحاور الاقتتال المعروفة دائماً (محور جبل محسن باب التبانة وما يتبعه) صارت كسندوقة البريد لتبادل الرسائل فضلاً عن كونها منفذاً لتنفيس الاحتقان، خصوصاً أن كل المعطيات تؤكد أن حسم الصراع في الساحة السورية جديد، وأن حسمه ونهايته ليس وشيكاً فضلاً عن أن الكل في لبنان بات أسير نتائج هذا الصراع الذي يبنى عليه الآمال، والتوقعات والرهانات، إضافة إلى ذلك فإن اعتقاداً بات راسخاً لدى الشريحة الواسعة عموماً فحواه أن النظام في دمشق يتعامل معهم على أساس أن له معهم حساب وعملية ثأر طويلة تنطلق من موقفهم المنحاز تماماً إلى جانب مناهضي هذا النظام . ومن البديهي الإشارة إلى أن نتائج جولة العنف الأخيرة في طرابلس وما رافقها من ملابسات زادت من منسوب السجال والخلاف السياسي بين فريق 14 ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي . فالمعلوم أن ميقاتي الذي قطع زيارة كان يقوم بها لبعض العواصم الأوروبية إثر توسع الاشتباكات في مدينته طرابلس وعاد ليتابع الوضع هناك عن كثب، أطلق كلاماً للمرة الأولى من نوعه يتصل بالوضع في الشمال إذ أعلن أن الجهود التي نبذلها لضبط الوضع في المدينة والحيلولة دون تفاقمه قد ادى إلى منع إقامة إمارة كان يعد لها في عاصمة الشمال، وهذا الكلام استدعى رداً من رئيس كتلة المستقبل النيابية وأحد أبرز وجوه تيار المستقبل الرئيس فؤاد السنيورة رفض فيه هذا الكلام وانتقد مطلقه . بري و14 آذار وفيما كان الوضع في طرابلس يزيد من حال التوتر والاحتقان في البلاد، كانت العلاقة بين الأكثرية والمعارضة مستمرة على حالها من التوتر، مع انسداد الأفق أمام محطة حوارية بينها كان بعض المراقبين يبنيِ عليها الكثير من الآمال لإعادة الأوضاع السياسية إلى هدوئها وإمرار استحقاق الانتخابات النيابية في موعدها المقرر مبدئياً بهدوء . فخلال الأسبوع الماضي انعقد اللقاء الثاني بين الرئيس بري ووفد من نواب قوى 14 آذار وذلك لمتابعة البحث في سبل عودة نواب المعارضة إلى لجان مجلس النواب المولجة مسألة البحث في إقرار قانون انتخاب جديد، حيث إن المعارضة ومن جملة "حرب المقاطعة" التي أعلنتها سابقاً ضد حكومة ميقاتي بادرت إلى الامتناع عن المشاركة في اجتماعات وأنشطة اللجان النيابية على أنواعها بما فيها لجنة التواصل التشاورية التي كلفت التواصل إلى صيغة توافقية حول مسألة قانون انتخاب جديد . الاجتماع الثاني انعقد في عين التينة مقر الرئاسة الثانية في بيروت لم يسفر حسب أجواء ومصادر كلا الطرفين عن نتائج ملموسة إذ اتضح أن نواب المعارضة ليسوا في وارد العودة إلى اجتماعات اللجنة النيابية تحت ذريعة الهاجس الأمني على أن تعقد الاجتماعات بعيداً عن مقر المجلس النيابي، الأمر الذي قرأت فيه أوساط قيادية في قوى الأكثرية محاولة واضحة من جانب المعارضة بغية كسب المزيد من الوقت وتقطيع المرحلة لقطع الطريق على بلورة قانون انتخاب جديد يكون بديلاً عن القانون المعروف بقانون الستين الذي تعلن قوى الأكثرية وبالتحديد قوى 8 آذار معارضتها المطلقة للعودة اليه . وحيال ذلك لم يبدِ الرئيس بري حماسة لنتائج اللقاء بينه وبين الوفد النيابي المعارض، خصوصاً أنه بعدما تبلغ من الوفد ان قوى 14 آذار لم تتخذ قراراً نهائياً في ما يخص استئناف المشاركة في لجنة التواصل النيابية وقال بري حسبما نقل عنه إلى الوفد احسموا أمركم إخوان وهاتوا النتيجة وأبلغوني قراركم . وفي المقابل فإن أوساط المعارضة قالت إن الكرة باتت في مرمى الرئيس بري فنحن من حيث المبدأ مع العودة إلى المشاركة في اجتماعات اللجنة ولكن المكان هو العقدة حتى الآن، فنحن لا تستطيع أن نذهب إلى مكاتب نواب 8 آذار للاجتماع فهل هم يأتون إلى مكاتبنا هذا السؤال ما زلنا نبحث عن الاجابة عنه" . ومع ذلك فإن مصادر نواب المعارضة كشفت لاحقاً أن وفد نواب المعارضة سيعود للاجتماع للمرة الثالثة بالرئيس بري في الأسبوع الجاري . وسواء تم هذا اللقاء أم لم يتم وحسب المعطيات المتوافرة في أوساط بيروت السياسية فإنه ثمة وقائع يجب التعاطي معها جدياً حيال هذا الموضوع وأبرزها: أنه لا الرئيس بري ولا فريق الأكثرية يريدون قطع التواصل ولو على هذا المستوى بينهما . ولا سيما بعد ما سدت أبواب الحوار الأخرى بين الأفرقاء ومنها باب طاولة الحوار التي من المعتاد أن تنعقد في قصر بعبدا برئاسة رئس الجمهورية العماد ميشال سليمان خصوصاً أن فريق 14 آذار أعلن عزوفه عن المشاركة في اجتماعاتها تحت مبررات متعددة . أن المعارضة لا يمكن لها الاستمرار في مقاطعة كل أشكال التلاقي مع الفريق الآخر، خصوصاً في مجلس النواب، لا سيما أن شعار إسقاط حكومة ميقاتي وترحيلها طوعاً أو قسراً ليس قابلاً للتنفيذ في المدى المعلوم، فكل المحاولات الرامية إلى تحقيق هذا الطلب الذي رفع شعاره فريق المعارضة سقطت، وبدا شعارا غير قابل للتحقق . وفي المقابل فإن من مصلحة الرئيس بري أن يستمر في فتح أبوابه أمام الفريق الآخر من موقعه الرسمي، كرئيس للسلطة التشريعية في البلاد والحزبي كرئيس لحركة "أمل" . إضافة إلى ذلك فإن بري ما برح يعمل بوحي من أمر أساسي لديه وهو أنه قادر، كما عشية انتخابات عامي 2005 و،2009 على الوصول إلى تسوية سياسية في اللحظة الأخيرة يقبل بها كل الأطراف، ومن شأنه التوافق على قانون انتخاب جديد تجري على أساسه الانتخابات المقبلة انطلاقاً من مقولة صارت قاعدة راسخة في الحياة السياسية اللبنانية فحواها أن لبنان بلد التسويات السياسية وأنه لا يمكن له الاستمرار من دون هذه التسويات في ظل مقولة إنه ما من طرف بامكانه الغاء الطرف الآخر . ولقد كان لافتاً خلال الأسبوع الماضي موقف متجدد أطلقته الكنيسة المارونية من خلال الاجتماع الشهري لمجلس المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك بشارة الراعي إذا طالبت في رسالة غير مباشرة قوى 14 آذار بوجوب وقف مقاطعة أعمال مجلس النواب عبر تأكيدها أن فصل الأزمة السياسية القائمة في البلاد عن سير المؤسسات الدستورية هو أمر واجب وأكدت الكنيسة أن لبنان يقف أمام استحقاقات تحتاج إلى تشريع قانون جديد للانتخابات على أن تتألف حكومة جديدة، تشرف على الانتخابات النيابية المقبلة وكل ذلك لا يكون من دون نقاش تحت القبة البرلمانية، لأنه كلما ابتعد اللبنانيون عن نقاش قضاياهم تحت قبة البرلمان ازداد خطر التوتر في الشارع . وفي الأسبوع الماضي وفي إطار الصراع المتأجج بين تيار المستقبل والنظام في سوريا، سرت في الأوساط السياسية في بيروت معلومات فحواها أن القضاء السوري بعث بمذكرات توقيف إلى الانتربول الدولي بحق رئيس الوزراء السابق سعد الحريري والنائب عقاب صقر وشخص سوري معارض بناء على الأشرطة والتسجيلات التي بثت عن مكالمات جرت بين صقر واركان في المعارضة السورية تكشف أن مهمة صقر هي تزويد مسلحي المعارضة بأسلحة وأعتدة وذخائر . وقد عدت هذه المذكرات رداً على قرار للقضاء اللبناني باستدعاء المسؤول في المخابرات السورية اللواء علي مملوك وآخرين بتهم مشاركة النائب والوزير السابق الموقوف ميشال سماحة في التآمر والتمهيد للقيام بأعمال تخريبية في لبنان عبر تهريب متفجرات إلى بيروت تمهيداً لاستخدامها لاحقاً . وفيما نأت قوى 8 آذار والحكومة بنفسها عن هذه المذكرات وهذه الحرب القضائية بين دمشق وتيار المستقبل فإن هذه الحرب زادت من منسوب الاحتقان السياسي في البلاد . وفي الأسبوع الماضي أيضاً حدثان مهمان الأول تجلى في رفض مجلس الوزراء بشبه إجماع طلب الأجهزة الأمنية الرسمية ومنها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي تزويدها ب"داتا" الرسائل النصية عبر الهاتف الخليوي على خلفية متابعة التحقيق في قضية اغتيال اللواء وسام الحسن . وقد تذرعت الحكومة في رفضها لهذا الطلب بأنه لا قانونية ولا شرعية لهذا الطلب فضلاً عن أنه ضد الحريات الشخصية ويشكل انتهاكاً لحريات الناس . والثاني استمرار تحرك العاملين في القطاع العام في الشارع إصراراً منهم على إقرار سلسلة الرتب والرواتب وهو مطلب سبق وتعهد الرئيس ميقاتي بتلبيته، ولكن تبين للحكومة لاحقاً وبناء على رأي خبراء اقتصاديين ورأي حاكم المصرف المركزي في لبنان رياض سلامة أن إقرار هذه السلسلة وفق ما يطالب به العاملون في القطاع العام ينطوي على مخاطر اقتصادية ومالية واجتماعية تهدد التوازن المالي العام في البلاد . ومن يومها وحكومة ميقاتي تؤجل إقرار السلسلة تحت ذريعة البحث عن مصادر تمويل لها ولا تؤدي إلى توتر اقتصادي ومالي .