انشغل لبنان بحكومته وقواه السياسية خلال الأسبوع الماضي بموجة المهجرين الفلسطينيين والسوريين الذين تدفقوا على لبنان بعد اندلاع موجة العنف في مخيم اليرموك بالقرب من دمشق، وكادت القضية تتحول إلى أزمة سياسية داخلية تزيد في وتيرة الانقسامات والصراعات اللبنانية لولا أن هدأت الأوضاع في المخيم إثر اتفاق بين الأطراف المعنية قضى بتحييده عن الصراع المحتدم بشراسة في محيط دمشق وريفها . في مقابل هذا المناخ الباعث على التشاؤم برز تطور عزز الانطباعات الإيجابية يتمحور في عرض جديد قدمه رئيس مجلس النواب نبيه بري فجأة إلى قوى المعارضة لتعاود مشاركتها في اجتماعات اللجنة النيابية المكلفة إيجاد آلية للتفاهم حول قانون الانتخاب الجديد، يقطع الطريق على القانون النافذ حالياً وهو معروف بقانون الستين الذي ترفضه الأكثرية رفضاً قاطعاً وتلوح بأنها ستعرقل إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر سلفاً في شهر حزيران/يونيو المقبل إذا لم يتم استبداله بقانون انتخابي جديد . كما هي العادة وأمام أي عنصر سياسي أو أمني وجد اللبنانيون أنفسهم أمام مشكلة جديدة اسمها مشكلة المهجرين الفلسطينيين والسوريين الجدد إلى مناطق شتى من لبنان إثر احتلال مجموعات المعارضة مخيم اليرموك بالقرب من دمشق ومحاصرة قوات النظام له تمهيداً لإعادة السيطرة عليه . المشكلة كان لها أوجه عدة أبرزها: عدم قدرة السلطات اللبنانية على استيعاب هذا العدد الجديد النازح بحثاً عن مساحة أمان واستقرار، خصوصاً أن أعداد النازحين الجدد قد تضاربت إذ تراوحت بين ال 2500 إلى 7500 نازح ما يلقي أعباء كبرى على الحكومة اللبنانية تتمثل في توفير الإغاثة لهم فضلاً عن الإيواء والتطبيب . وبالطبع بادرت الحكومة اللبنانية والجهات المختصة في لبنان إلى إطلاق جرس الإنذار والتحذير وسارعت إلى التواصل مع الجهات الدولية المانحة . وفي الوقت عينه بدأت السلطات اللبنانية تعرب عن خشيتها صراحة من الأعباء الأمنية التي سيخلفها هؤلاء الوافدون الجدد الذين سيضافون إلى أكثر من 160 ألف نازح سوري وفلسطيني سبقوهم إلى الأراضي اللبنانية منذ اندلاع كرة النار في الساحة السورية قبل أكثر من 21 شهراً . فضلاً عن ذلك عادت لغة الخوف السياسي من النازحين إلى الارتفاع لدرجة أن ثمة وزراء وخصوصاً من المنتمين إلى التيار الوطني الحر قدموا اقتراحاً بإقفال الحدود اللبنانية أمام الوافدين، وهو أمر أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي رفض التجاوب معه مطلقاً . وأكثر من ذلك خصصت الحكومة اجتماعاً لبحث موضوع النازحين وسبل استيعابهم وذلك في مطلع السنة المقبلة لاسيما أن الكل أقر بأن ملف النازحين من سوريا إلى لبنان بات أكبر من قدرات لبنان وإمكاناته على تحمله وصار أشبه بكرة ثلج تتدحرج وتكبر وهي مرشحة للمزيد من التضخم مع امتداد الأزمة في الساحة السورية المجاورة . ومما فاقم الأزمة المستجدة أن ثمة دولاً وجهات دولية وعدت لبنان بالدعم والإسناد لمواجهة هذا الأمر الطارئ ولكن الوعود إما تبخرت أو تأخر الوفاء بها . وفي كل الأحوال أحست السلطات اللبنانية بوطأة هذه المشكلة أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي بدأت استنفاراً واسع النطاق للتصدي للأمر وعلى أكثر من صعيد بغية استيعاب المشكلات التي يمكن أن تطرأ . وحسب التقديرات الرسمية فإن عدد النازحين من سوريا إلى لبنان بلغ ما يزيد عن ال 165 ألف نازح سوري أضيف إليهم ما يزيد عن ستة آلاف لاجئ فلسطيني نزحوا من مخيم اليرموك خلال الأيام القليلة الماضية وقبلها بطبيعة الحال . وقد أعلن رئيس الحكومة رداً على الضجة التي رافقت الموضوع من أساسه "لا نستطيع أن نقفل الحدود أمام إخواننا النازحين لكننا نتخذ كل التدابير والإجراءات الأمنية لضبط الحدود، ونحن لدينا قدرات محدودة لمعالجة مشكلات العدد الكبير من النازحين، لذلك لجأنا إلى الأممالمتحدة والدول المانحة والدول الصديقة لمساعدتنا على تخطي هذه المشكلات" . واللافت أن القيادة الفلسطينية في لبنان بادرت إلى الدخول على خط الأزمة بعد تفاقم مسألة النازحين من مخيم اليرموك، وهي وضعت الموضوع في إطار المؤقت وإن عودة الهدوء والاستقرار إلى مخيم اليرموك سيدفع النازحين فوراً إلى العودة إلى منازلهم لأنهم لا يفكرون إطلاقاً بالبقاء في أماكن نزوحهم في لبنان . كذلك اتفقت هذه القيادة مع المسؤولين اللبنانيين أن تبادر منظمة التحرير الفلسطينية إلى المساهمة مالياً لاستيعاب النازحين . وأمام الهواجس التي انطلقت من عقالها بادر السفير الفلسطيني في لبنان اشرف دبور إلى التقليل أولاً من أعداد النازحين الفلسطينيين من دمشق ملاحظاً أن هناك تضخيماً للأعداد . كذلك أكد أن الفلسطينيين لا يريدون إحراج السلطات اللبنانية أو بث الذعر السياسي . وقد كان وزير الخارجية اللبنانية عدنان منصور أكثر المعبرين عن مخاوف جزء كبير من السلطات اللبنانية من مخاطر كامنة للنزوح الفلسطيني الحالي أو ذلك المرتقب، إذ قال إن نسبة عدد الفلسطينيين من سكان لبنان هي 12 بالمئة والآن زاد عليهم 4 في المئة من النازحين السوريين عدا الفلسطينيين فهل يحتمل لبنان زيادة سكانية بنسبة 16 في المئة وهي مرشحة للزيادة بصورة سريعة . وقال: لبنان أصبح المنفذ الوحيد للنازحين وقدراتنا لا تحتمل، إذ إن النازحين بحاجة إلى كل الخدمات الصحية والغذائية والتربوية وسواها، خصوصاً أن الهيئات الدولية لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها وهي لم تقدم للفلسطينيين منذ عام 1948 الا الفتات . وفي كل الأحوال كان مقدراً على لبنان أن يواجه في الآونة الأخيرة أعباء وتداعيات موجات النزوح المتعاقبة المتعاظمة من سوريا بعدما عانى خلال الأشهر القليلة الماضية من انقسامات وصراعات سياسية عسكرية على خلفية الانقسام الحاصل بشكل عمودي منذ زمن بين الموالين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد وبين المؤيدين للمعارضين له والعاملين بقوة السلاح على إسقاطه . ولقد كانت آخر جولات المواجهة بين الطرفين قبل أسابيع قليلة في طرابلس، ولم تتوقف إلا بعد جهد جهيد بذلته السلطة والجيش . واللافت في الأمر أن موضوع النازحين من سوريا سواء السوريين أو الفلسطينيين أخرج إلى العلن وللمرة الأولى تصريحات رسمية تنبئ بازدهار مواسم العنصرية اللبنانية، ما أعاد إلى الأذهان الخطابات التي سادت إبان سنوات الحرب الأهلية اللبنانية خصوصاً ضد الوجود الفلسطيني . وفيما تنتظر السلطات اللبنانية على أحر من الجمر يد العون الخارجية لمساعدتها على ايجاد آلية عملية بغية استيعاب موجات النزوح السابقة والمرتقبة والحد من تأثيراتها السلبية فإن الوسط السياسي اللبناني كان خلال الأسبوع الماضي أمام حدث عده البعض مفاجأة من شأنها أن تفتح كوة في جدار الأزمة السياسية السميك . مبادرة بري بعدما انتهى اللقاء الثاني الذي انعقد بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ووفد نواب قوى 14 آذار بغية إيجاد صيغة لمعاودة مشاركة المعارضة في اجتماعات اللجنة النيابية المولجة وضع قانون انتخاب جديد، إلى إخفاق، وفق مناخات الطرفين، وبعدما عاد التصعيد السياسي ليصير سيد الموقف لاسيما بعدما لوحت قوى 8 آذار بأنها لن تسير إلى الانتخابات النيابية ولن تسمح بإجرائها ما لم يوضع قانون جديد لها . بعد ذلك الجو المتشائم بادر الرئيس بري إلى إطلاق بادرة جديدة تعيد وصل ما انقطع بين طرفي الأزمة وتعيد إحياء الآمال بإمكان التواصل إلى قانون انتخاب جديد يؤدي إلى حل المشكلات والتناقضات، وفحوى مبادرة بري أنه مستعد لتأمين فندق في وسط بيروت على بعد خطوات من مقر مجلس النواب يقيم فيه نواب المعارضة الخائفون على حياتهم وأمنهم الشخصي بحماية القوى الأمنية ليسقط ذلك حجة المحتجين بالوضع الأمني وبالهواجس الأمنية، فيعودون إلى المشاركة في اجتماعات اللجنة المكلفة مناقشة قانون انتخاب جديد، ولإسقاط حجة الطرف الآخر القائلة بأن فريق المعارضة يتهرب من الاستحقاق . لم يبادر نواب 14 آذار إلى إعطاء جواب فوري إذ طلبوا مهلة لدرس الاقتراح والرد عليه لن يكون إلا مع مطلع السنة المقبلة . المبادرة الجديدة لرئيس السلطة التشريعية في بيروت وضعت فريق المعارضة أمام تحدٍ جديد، فهو عليه أن يرفع عن نفسه بالأصل تهمة أنه يتهرب من المشاركة في اجتماعات اللجان النيابية المولجة وضع قانون الانتخاب تحت ذريعة أنه يقاطع الحكومة، وبالتالي فهو لا يمكنه الاستمرار في مقاطعة المجلس النيابي وليس بمقدوره أصلاً تبرير هذا الأمر خصوصاً أن جهات أساسية عدة في البنية السياسية اللبنانية أعربت صراحة عن رغبتها برؤية قانون انتخاب جديد غير القانون النافذ حالياً الذي يؤمن لفريق 14 آذار أكثرية مريحة في مجلس النواب المقبل . وبناءً عليه فإن على فريق المعارضة أن يجيب على مبادرة بري واقتراحه الجديد وهو بدا حيال ذلك متردداً، ففي حين قال النائب مروان حمادة إن الأمر قيد الدرس والمناقشة، أطلق أحد أبرز نواب حزب الكتائب وهو النائب إيلي ماروني النار مراراً على مبادرة بري، معتبراً أن الأمر لا يتعلق بإقرار مشروع قانون الانتخاب فحسب بل يتصل بكيفية إجراء الانتخابات في موعدها المعلن سابقاً . وهكذا لا يستطيع أحد في بيروت أن يحدد من الآن ما إذا كان فريق 14 آذار سيرفض مبادرة بري أم سيقبلها، وفي كلا الحالتين أنّ ثمة أثماناً وتداعيات لهذا الأمر على هذا الفريق الذي مازال مستمراً في الإضراب السياسي العام الذي أعلنه منذ لحظة اغتيال أحد القياديين الأمنيين الرسميين اللواء وسام الحسن في محلة الأشرفية قبل نحو شهرين الذي تجسد أكثر ما يكون في مقاطعة طاولة الحوار الوطني التي يرأسها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان والتي حدد جلسة لها في مطلع الشهر الأول من العام المقبل، وفي مقاطعة أنشطة مجلس النواب وكل ما له صلة بحكومة ميقاتي، معلناً أنه لن يعود عن هذا الإضراب السياسي وهذه المقاطعة إلا بعد ترحيل حكومة ميقاتي طوعاً أو قسراً لأنها صارت عبئاً على الوضع العام في البلاد وليست قادرة على الإشراف على الانتخابات المقبلة . ميقاتي . . و"المستقبل" ومنذ ذلك الوقت ما برح فريق المعارضة يشن الحملات السياسية والإعلامية المتتالية على الحكومة ورئيسها ميقاتي . واللافت في هذا الإطار أن فريق المعارضة استغل كلاماً أطلقه الرئيس ميقاتي قبل فترة وتحدث فيه عن أنه لولا جهود الجيش اللبناني والأحداث الأخيرة في مدينة طرابلس، لكانت قامت إمارة إسلامية في الشمال اللبناني . وقد بادر فريق تيار"المستقبل" إلى توجيه انتقاد حاد لهذا الكلام، معتبراً أن ميقاتي يخدم من خلال كلامه نظام الرئيس الأسد في سوريا ويخدم منطقه وتوجهاته، ويسيء في الوقت عينه إلى المدينة وتاريخها، معتبراً أن ذلك يشكل فضيحة سياسية . ورد ميقاتي على كلام تيار "المستقبل" فاعتبر أن التيار تعمد اجتزاء كلامه وتشويهه في محاولة متكررة للنيل منه، معتبراً أن لجوء المستقبل إلى تحوير موقفه هو دليل إفلاس بعد سقوط الاتهامات السابقة وإخفاق الرهانات على إسقاطه . وفي كل الحالات بدا واضحاً أن ميقاتي قرر فعلاً التصدي بشراسة لحملات تيار "المستقيل" عليه انطلاقاً من أن هذا التيار يريد فعلاً شطبه من المعادلة وإخراجه على الأقل من الزعامة في مدينة طرابلس . ومهما يكن من أمر، فإن السجال الحاد عاد ليطغى على الساحة السياسية في لبنان، ففريق الأكثرية ما برح يوجه دعواته إلى فريق المعارضة للعودة إلى طاولة الحوار والكف عن أمرين: 1 التصعيد السياسي بغية إسقاط الحكومة الحالية . 2 الرهان على تحولات في الساحة السورية لجهة إسقاط النظام السوري، ليكون لذلك الحدث انعكاساته على الساحة اللبنانية على نحو يفضي إلى تراجع 8 آذار وخروجها من الحكم . وثمة في بيروت من يرى أن لهجة التصعيد التي عادت قوى 14 آذار إليها في الآونة الأخيرة غايتها الأولى ملء الفراغ السياسي الحاصل وتقطيع الوقت، أما غايتها الثانية فهي التحضير لعودة زعيم المعارضة سعد الحريري إلى بيروت بعد اغتراب استمر نحو سنة ونصف السنة . ففي كواليس قوى المعارضة كلام عن ضرورة عودة الحريري استعداداً لمواجهة المرحلة المقبلة لاسيما موضوع الانتخابات النيابية . والمعلوم أن فريق المعارضة لا يحبذ تحديد مواعيد لعودة زعيمه إلى الداخل اللبناني، وهو يرفض أصلاً تناول الموضوع من أساسه علماً أنه يشكل أحد نقاط الضعف لدى هذا الفريق . ومن أبرز المعالم السياسية للمسرح السياسي اللبناني خلال الأسبوع الماضي حركة النائب وليد جنبلاط وموقفه السياسي وحذره وخوفه من مآل التطورات في لبنان . فجنبلاط الذي اتخذ موقفاً وسطياً خلال الفترة المنصرمة وظل في الحكومة مع فريق 8 آذار رغم أنه عارض بشدة النظام في سوريا، غادر منزله في بيروت فجأة ولا سيما في أعقاب اغتيال اللواء الحسن وأقام في قصره الجبلي في المختارة ولاحقاً أبلغ جنبلاط زواره أنه بات يخشى من أمرين: الأول، على أمنه وحياته، والثاني من إنفجار الوضع في الداخل اللبناني . ورغم أن جنبلاط أطلق مبادرة لتهدئة التوتر بين طرفي النزاع في لبنان، وإيجاد تسوية للتناقضات والصراعات الحاصلة، فإن هذه المبادرة لم تخرج حتى الآن بأية إيجابيات أو نتائج من شأنها أن تغيّر من واقع الحال القائم وتبدد المخاوف المتراكمة لدى جنبلاط، لاسيما مع استمرار الأزمة في سوريا ودخولها فصولاً تصعيدية بشكل مستمر.