"دعني أُلامسُ مسحة الحزن النبيلة بين صمتك والنظرْ دعني أرتبُ بيت قلبك من متاعبِهِ وفوضى ما انتشرْ وأرشُّ ماء الودّ في جنباتِهِ ل"تفرفح" الأيامُ فيه والسهرْ . . . ." رهافة لا حد لها تسرقك من الوعي إلى شرود هانئ يحلق بك في عوالم لازوردية سماوية مبهرة، ذلك هو ياسمين الشاعرة ابتسام صمادي السورية الولادة القومية الهوى والموقف . في ديوانها الخامس "بكامل ياسمينها" الصادر في دمشق بطبعتين آخرها عام 2007 تسحبك برفق الأميرات ثم تحلق بك في عوالمها النقية الحالمة، رهافة تشبه رهافة غيمة وردية تحت نسائم الربيع . . تقول في قصيدة "عذوبة بعين الاعتبار": الشاطئ الممتد . . . مشطي والمدّ . . . . . شعري والجزْرُ . . . حين أردّهُ للخلف عن قسماتي . . والريحُ قبل قلوعها مرآتي أما النوارسُ . . قرطي المشغول باللون المؤاتي ولزينتي كل اللآلئ . . والأزرق الشفاف شالي والموج أسراري التي مهما بدت تخبو على ألف احتمالِ . هي قبل كل شيء شاعرة معتدة بذاتها معتزة بإنوثتها، تحترم تلك الأنوثة فترتقي بمن تحب ليرتقي بهما الحب النقي أو هما يرتقيان بالحب، هنا لا فرق ما دام القصد سامياً، تقول في قصيدة "حبيبي الحب" وهي من أروع ما قرأته من شعر الحب العفيف المعاصر: لم أبك من عشقٍ ولا من لوعةٍ في الوجدْ لا، لم أقع في الحب يوماً بل مشيتُ إليه ملء إرادتي عن عمدْ وبهامةٍ مرفوعةٍ كالمجدْ فوق الخيالِ يدٌ وتحت مناجم الإحساس فينا يدْ . وحين تستطرد لتكتشف بعض أسرار الشاعرة تجد أن هذا الذي "أحبته عن قصد" ليس بالرجل العادي، كيف؟ تقول الشاعرة عنه: ما جاءني إلاّ وأحضر كل أيام الرضا وبجيبهِ ما قد مضى وبراحتيه الغد . . ما جاءني إلاّ وخبأ في عباءته المطر من دونما برقٌ به أو رعد . . ما جاءني إلا وتطفحُ من يديه الاثنتينْ أغلى اللآلئ واللجينْ وبعمقه الأزليّ فانوسه السحري وبوارج الأشواق فوق مياهه والسعد . والقصيدة عبارة عن بانوراما للسمو الروحي بجناحين يحلقان في سماء لا تشوبها الظنون ولا العواصف، الجناحان هما رجل وامرأة . وفي الديوان ذاته وبالقدرة نفسها على امتلاك لب القارئ تنقلنا الشاعرة بين قصيدة وأخرى إلى الوجه الآ خر للمرأة، المرأة التي تلبس كل ذلك الياسمين الرقيق تتحول في سرعة البرق إلى لبؤة لتدافع عن عرينها، وابتسام صمادي بوعيها القومي ترى في كل شبر من أرض العرب جذراً لانتمائها الأزلي، وترى في كل شبر سليب من أرض العروبة جزءاً مقتطعاً أو محتلاً من كيانها الإنساني، فهي تدافع بقوة باسلة لا تقل عن قوة مشاعرها في الحب، بل ماقيمة ذلك الحب إذا كانت الشاعرة لا تحمل شرف الدفاع عنه عندما يتهدد البيت الذي يحميه؟ من هذا البعد تتحول الشاعرة من عاشقة إلى فارسة مقاتلة، تقول في قصيدة "متطرفون" وهو عنوان ساخر للمأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ اغتصاب أرضه إلى يومنا هذا: وأنا ككل بنات طارق وبما خطرن على النمارق عندي لجاه الطينِ قدرٌ لا تضاهيهِ الحليُّ ولا الحرائرُ والنفائسُ في كواليس الزمنْ أنا لا أفاوضُ في الخفاءِ وفي العلنْ عزَّ الرجالُ فما بمعتصمٍ يوافي لا صلاح الدينِ وافى من يوافيني إذن؟ وتتصاعد نبرة الغضب والألم لما يجري فتقول لا لأنها محبطة، فشاعرة مثلها لا تحبط، ولكن كي تحرض وهذا يقع ضمن مسؤوليتها كشاعرة: قسماً بكل مواقع النجم العلي ما من ضميرٍ بعدُ حيْ قسماً بمن رفع السماءِ بلا عمدْ صعد التدني للذرى اللهُ أكبر قل هو الله أحد . . لقد تواترت قصائد ابتسام صمادي القومية الملتهبة بالحماسة والرفض وتكاد تشكل نصف الديوان حتى بدا لي أن عنوانه لا يجسد إلا نصف مضمونه، إلا إذا أجرت الشاعرة تعديلاً على قصائد الديوان في الطبعات المقبلة، لتكون قصائدها المقاومة في ديوان آخر تاركة قصائدها وجزءاً من نثرياتها التي جاءت في القسم الأخير من الديوان أن ترفل بكامل الياسمين . ومما لابد من قوله من دون أن نتجنى على القارئ بالإطالة ولا على الشاعرة بالإغفال، إن النثريات التي وردت في آخر الديوان لا تقل إبداعاً وقوةً عن قصائده . وهذه النثريات أيضاً تنوعت بين الوطني والوجداني، فابتسام صمادي شاعرة تتنفس مشاعرها الوجدانية برئة ومشاعرها القومية بالرئة الثانية، بيد أن ذلك كله يلتقي في قلب واحد هو قلب الشاعرة الكبيرة ابتسام صمادي .