لم أكن كثير التواصل به ولم تطل لقاءاتي معه مع كثرة تتبعي لأخباره وإعجابي الشديد بشخصه الكريم وبرغم قلة التواصل لكني كنت ولا زلت أحسبه من كبار من تتلمذت على ايديهم ومن كبار من يفاخر اليمن بانتسابهم إليه ، إنه الاستاذ محمد عبد الوهاب جباري الذي أتذكر أنه كان في منتصف السبعينيات وزيرا للإقتصاد . **** شخصية هذا الانسان كالكثير من عظماء هذه البلاد تتجاوز مواقعهم كوزراء أو كدارسين في تخصصات معينه ، فربما عرف الكثير أنه كان من أوائل الاقتصاديين اليمنيين .. لكن الاستاذ جباري تغمده الله بواسع الرحمة والرضوان كان موسوعيا فهو يدهش علماء الدين مثلما يدهش الادباء والمثقفين مثلما يدهش الساسة والاقتصاديين بعلومه ، سأذكر هنا بعض مواقف عشتها علها ترسم ملامح محدودة عن شخصية هذا الرجل العظيم كما ارتسمت في ذهني . **** في فترة تسنمه لوزارة الاقتصاد منتصف السبعينيات دعاه الدكتور محمد يحيى العاضي رعاه الله رئيس مصلحة الجمارك حينها لزيارة مصلحة الجمارك بعد افتتاح مبناها الجديد الذي أصبح مقرا للحزب الاشتراكي بعد الوحدة ثم لوزراة النقل وكنت أنا حينها مديراعاما للشئون المالية ةوالادارية في المصلحة وعلى رغم كثرة الزوار حينها من مسئولين مدنيين وعسكريين ويمنيين وأجانب لمصلحة الجمارك نظرا لبراعة الدكتور العاضي في العلاقات العامة لكنني لم أذكر أن أحدا منهم منحنا الشعور بأنه أتى لكي يعلم ما يزور ويلم بما يدور في داخل هذا المبنى مثل أستاذنا المرحوم جباري . **** أذكر أن الاستاذ جاء ليزور الجناح الذي يضم إدارات وأقسام الادارة العامة للشئون المالية والادارية وكان من الادارات المبتدعة فيها إدارة الرقابة على الايرادات ولهذه الادارة قصة وهو أن أحدهم أبلغني أنه في واحد من الجمارك الأساسية يلجأ بعض المحاسبين الى التلاعب في الحسبة للرسوم الجمركية وينسقون مع موظفي المراجعة ويبتزون مبالغ طائلة بهذه الطريقة وقد تم اكتشاف بعضها فيكفي مثلا أن تسقط صفرا أو صفرين لتسقط بضعة مئات من الآلاف أو الملايين وكان الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة حينها لم يصل الى الفروع ورقابته مركزية والادهى من ذلك أنه كان يراجع وثائق المصروفات ولا يلتفت ولا يراقب الايرادات فاضطررت أنا شخصيا لانشاء هذه الادارة ووضعت عليها خريجا شديد النباهه هو الأخ محمد فضل الارياني الذي اصبح عميدا لكلية التجارة والاقتصاد كماعلمت وكان دقيقا جدا في كل شيئ كما أحسب إلى الحد الذي يسخط البعض . **** المهم أنني أخبرت الأستاذ جباري أننا أنشأنا هذه الادارة لمراقبة حسبة الايرادات لأن موظفي الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة يركزون على الصرفيات فقط ولا يهتمون بالايرادات فانفجر الاستاذ ضاحكا مماقلت إلى حد شعرت معه بالحرج ثم ظل ينظر الي باستلطاف بين الحين والحين ويعيد السؤال كيف كيف ؟ يركزون على المصروفات ؟؟؟؟؟؟ ويضحك وأنا أتضاءل حجلا والحقيقة أنني لم أعلم السر إلا متأخرا وهو أن مصلحة الجمارك وايراداتهاكانت حينها أشبه بوزاروة النفط حاليا تمثل أكثر من 70% من ايرادات الميزانية بينما مصروفاتها لا تجاوز بضعة ملايين فالمهم فيها مراجعة الايرادات وصحة التحصيل قبل أي شيئ آخر . **** ولقد كان يزورني في بيتي في أوائل الثمانينيات شيخان أزهريان جليلان أحدهمالم يحضرني إسمه الآن والآخرهو الشيخ علي أبو الحسن ورأيته في بعض الفضائيات مؤخرا وقد أصبح كما أذكر من كبارشيوخ الجامع الأزهر بل ربما كان ذات يوم مسئولا عن الفتوى في الأزهر الشريف وقد فاجآني كلاهما أنهما يسكنان في منزل الأستاذ جباري في فترة ضيافة دائمة لديه وكثيرا مايدعوهما لمجالسته في فترة المقيل مع أنهما منتدبان من الازهر ومعهما مخصصاتهما للسكنى والاقامة ولكن الأهم من ذلك أنهما كانا يحدثاني عن علمه الواسع في الفقه والأدب وكل مجالات العلوم وهو أمر لم يكن شائعا عندهم ربما في الشقيقة مصر ، بمعنى أنه لم يألف الشيخان أن يكون الرجل متخصصا في الاقتصاد مثلا وفقيها وأديبا موسوعيا في نفس الوقت في ظل وجود التخصص أو العكس وكان يثنيان على صدق تدينه برغم أن مظهره ومقامه ووظيفته كالكثير لا ينبئ عن ذلك . **** في أواخر الثمانينات وبعد انتخابات مجلس الشورى كان هناك لقاء في استراحة المرحوم هائل سعيد أنعم ضم أعضاء المجلس المنتخبين حديثا وأراد الاستاذ جباري ان يحشد لمشروع انشاء البنك الاسلامي تأييد أعضاء المجلس لأن المشروع نوقش مرارا قبل ذلك ورغم أنه قد" نتفوا ريشه " بحسب تعبير المرحوم لكنهم لم يقروه فأراد اقناع الأعضاء المنتخبين حديثا بتمرير المشروع والموافقة عليه وكان مماقاله هذا الحكيم اليماني .. ياإخوان قلنا لمن قبلكم ونقول لكم الآن أن اليمن هو بلد البدائل وهو يتسع لكل شيئ فعندنا الذي لا يعجبه الغناء نحضر له منشدايسمعه بعض الأناشيد والذي لا يعجبه الرقص ويتأفف منه نقول له لا بأس بالبرع ( نوع من الرقصالرجولي المشهور في اليمن ) بدل الرقص وهكذا فهناك من لا يرغب في البنوك التجارية الربوية دعوهم ينشئون بنوكا إسلامية كبديل علما بأن صندوق النقد الدولي كان يوصي حينها بذلك لاجتذاب مدخرات غير مستغلة .. **** بهذه الحكمة كان يتعامل استاذنا وكان حينها يراس لجنة تأسيس البنوك الاسلامية رحمه الله .. ولعل من المناسب هنا أن نذكر أن البنك المركزي في بداية نقاش مشروع البنوك الاسلامية بعث مندوبا لمناقشة مشروع قانون البنوك الاسلامية وصادف أن المندوب كان غير يمني وليس هذا مهما لكنه كان مسيحيا أيضا !! .. وعندما سمع الأستاذ عبد العزيز عبد الغني رئيس مجلس الشورى الحالي وأول محافظ للبنك المركزي ورئيس الوزراء حينها بذلك أضحكته الحكاية تماما كما أضحكت استاذنا المرحوم رقابة المصروفات في الجمارك وليس المهم أن يكون المندوب مسيحيا فالمسألة فنية ولكن الأهم أنه كان هناك الكثير من خبراء عرب ومسلمين وأتى هو كخبيرليشترط أن تحدد نسبة ثابته للربح في القانون .. علما بأن الفكرة كلها من البنوك الاسلامية أنه لا توجد نسبة ثابته للربح ولكنها تقوم على المشاركة في الربح والخسارة تزيد أو تنقص .. **** رحم الله الفقيد الحكيم وأحسن عزاء أهليه وذويه وفي مقدمتهم أستاذي الأديب الكبير الشاعر درهم جباري وكل الأهل والأقارب وأسكنه فسيح جنانه وألحقنا بالصالحين من عباده في الدارين وإنا لله وإنا إليه راجعون.