تتكرر الخلافات الفقهية مع كل استحقاق رمضاني في عملية تحديد الرؤية لهلال شهر رمضان، وعدم التوافق بين الشرعية التقليدية وعلم الفلك الحديث الذي أخذ يصول ويجول في الفضاء الكوني، ولكن الكثير يرى أن الرؤية بالعين المجردة هي التي يعتد بها في دخول شهر رمضان أو خروجه منذ أربعة عشر قرنا ولم يكن للحساب الفلكي وتلسكوبه أي حسم في هذه القضية رغم دقة حساباته ووضوح استكشافاته، مع أن ذلك يمكن أن يخدم الإسلام في مثل هذه المواقف الخلافية، ولكن السياسة كان لها أثرها في الشتات وعدم لم شمل هذه الأمة. وهكذا مع كل عام تبرز هذه الخلافات الفقهية لتفضي إلى اختلافات سياسية وفي ظل غياب كامل لمنظمة دول المؤتمر الإسلامي لتوحيد الأمة الإسلامية وإزالة الفروقات والاختلافات التي زادت الأمة الإسلامية بعداً وفرقة، مع أن القرآن يدعونا إلى الاعتصام والوحدة في شتى مناحي الحياة، ورمضان يجسد بوضوح التضامن الاجتماعي بين أفراد الأمة الإسلامية والترابط القوي بين الفرد والجماعة. فالمسلمون مطالبون بالتضامن الاجتماعي المتين حتى يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً.. ومن فوائد صيام شهر رمضان جمع المنافع الفردية والجماعية وإبراز المنافع المتوازنة التي تجنيها المجتمعات الإسلامية أفراداً وجماعات في شهر رمضان. والأكل والشرب والجنس يسميها علم النفس ب "حاجيات الفرد الأولية للسلوك" فعندما يقلع الفرد المسلم عنها من الفجر وحتى الغروب؛ يستطيع ان يهذب نفسه ويكبح جماح شهوته لمدة شهر كامل، وفي ذلك تدريب للنفس على الصبر والتحكم والانضباط وبناء الشخصية القوية والخلق الفاضل. كما يشير علم الطب إلى منافع صحية وذلك مصداقاً للحديث الشريف (صوموا تصحوا) فالصيام وسيلة مثلى للعلاج والشفاء من كثير من الأمراض، لذا جعل الإسلام الصيام واجباً دينياً لمدة شهر كامل في السنة، يفرغ الجسم فيه ما علق به من أمراض وترتاح المعدة فيه طوال النهار، والقرآن يثبت ذلك بقوله (وأن تصوموا خير لكم) لأن هناك حكمة بيولوجية فسيولوجية لمصلحة الجسم أثناء الصيام. أما من الناحية الاجتماعية فإن شهر رمضان طريقة لتغيير الرتابة اليومية للحياة ونمطها، وشهر رمضان يحدث تغييراً جذرياً في حياة الفرد والمجتمع من خلال المسامرات واللقاءات الليلية وما تفرزه من تفاعل اجتماعي يأتي امتداداً لدور المسجد من حلقات الذكر وتدارس القرآن وكافة الشعائر الدينية التي تقام فيه طيلة الشهر، وكل هذا يجسد دور المسجد في التكافل الاجتماعي والتآخي الذي أسسه الرسول لبناء قاعدة دولة الاسلام وذلك عندما آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، كما تتجلى منافع الصوم الاجتماعية في شعور الصائمين بجوع اخوانهم الفقراء والمعوزين، إضافة إلى ما يتميز به شهر رمضان من تبادل الزيارات والدعوات للإفطار معاً بين العائلات، وما يمثله من تقوية أواصر الأخوة والقربى وما يحدثه من تمتين الروابط الاجتماعية بين الصائمين، ودعم روح التضامن والانسجام بين أفراد المجتمع المسلم. ولشهر رمضان قيم وأعراف أخلاقية يغلب على الصائمين الالتزام بها، وكما ازداد التزامهم بهذه القيم والتقاليد الثقافية أصبح تضامنهم الاجتماعي أكثر قوة وصلابة. إذاً فلنجعل من هذا الشهر الفضيل فرصة لطلب المغفرة من الله كونه شهر القبول وفرصة للتقارب فيما بيننا من أجل ردم الهوة الاجتماعية التي أحدثتها السياسة، ولم الشمل الذي مزقته الفرقة والاختلافات. ولنعمل جميعاً على هدف واحد هو الحفاظ على الوطن والذود عن حياضه، ولنقف جميعاً في وجه أصحاب المشاريع الانفصالية والمتربصين بالوطن والمتأبطين به شراً، في شتى مشاريعهم الصغيرة، ولنقف جميعاً في وجه الفساد والتجويع والجرع القاتلة وكشف المتلاعبين بالاقتصاد وبلقمة عيش المواطن، والذين يريدون أن يبنوا ثروة على حساب انهيار الاقتصاد والمتاجرة بالعملات، ليزدادوا ثراءً ونزداد نحن فقراً، فكما زادت ثرواتهم انخفضت منظومة أخلاقهم، وكلما حصلوا على وادٍ تمنوا وادياً آخر، وهذا لا يتأتى إلا من جشع واحتكار وتلاعب في أقوات الأمة، وهم محاسبون على كل ذلك أمام الله في هذا الشهر الكريم.