توقفت عند إشارة المرور القريبة من بيتنا، والتفت إلى أمي بجواري أحادثها، حين لفت انتباهي مشهد لم استوعبه في البداية.. كانت هناك، على بعد بضعة أمتار، سواد جلبابها وغطاء رأسها المغبرّان يلفّان قامة انحنت تحت وطأة السنين وهموم الحياة، تحاول تسلق حاوية المهملات الحديدية الكبيرة، تصارع للوصول إلى قلب الوعاء الأخضر الضخم الممتلئ بالنفايات. راقبتها غير مصدقة، رافضة الاحتمال الوحيد الذي يمكن ان يفسر مشهداً ألفناه للقطط وليس لبني البش. أخيراً، نجحت في التعلق بحافة الحاوية، فغاص نصفها العلوي داخلها بينما تدلى نصفها الآخر خارجاً، دقائق ثم تخرج وفي يديها كومة صغيرة، تنتحي بها ركناً قصياً، تفترش الأرض قرب سور منزل قريب لتنكب كطائر على صيد اقتنصته، تفتش بعناية بين الفضلات عما يسد رمقها. غص قلبي بالحزن وأنا أتأملهما.. كومة قماش أسود هزيلة قرب كومة مهملات، بقايا انسان وبقايا طعام، كلاهما مرمي على حافة الطريق. يدان تقلبان حفنة القاذورات وتعبثان بملامح وجه الدنيا، تهشمان شيئاً ما في داخلي. كان المشهد مخزياً.. مهيناً للإنسانية، تضاءلتُ.. وبدا الكل صغاراً، أين المجتمع المتحضر؟! أين تراكم جهود وعقول مسيرة ما لا يحصى من البشر قبلنا؟! دماؤهم.. دموعهم.. تضحياتهم في سبيل رقي الإنسان وكرامته ورفاهيته؟! كيف يقبل عقل من جاب آفاق الفضاء وغزا مجاهل الذرّة أن يرزح ثلث معاصريه تحت دائرة الفقر؟!.. ملياران من أصل ستة مليارات انسان يعانون.. ينامون جائعين، معظمهم محروم نعمة المعرفة، وغالبيتهم يحلمون بمياه شرب لا تسبح فيها الأوساخ والأمراض. امتزج الخجل بالغضب وأنا أفكر بما تشرّبناه من قيم تعاون وتكافل، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم) تناقلناه ألفاً وخمسمائة سنة.. ألا نطبق ما حفظناه عن ظهر قلب؟! ترجلتُ باتجاهها... منكبة على ما ظفرت به، لم تلمحني في البداية، ولكنها – وقد دنوت- رفعت إليَّ نظرة خوف، تكومت أكثر ملتصقة بالجدار خلفها، تململت بقلق من يود الهرب، من هذا القرب كان بوسعي تبين تفاصيل وجه حفرته أخاديد القهر وكساه الجوع بالشحوب. حاولت رسم ابتسامة مطمئنة فوق شفتي وأنا أدس في يدها ما أرسله الله لها عبري، خُيّل إليَّ لوهلة بريق من الفرح وعدم التصديق يعبر قسماتها، لكنها سرعان ما استعادت قناعاً خالياً من التعابير.. توقف الزمن وكل منا يحدق بالآخر، تبادلنا حديثاً طويلاً ذا شجون دون أن ينبس أي منا بكلمة.. بعدها، لم أدر من منا الذي بقي متسمراً خلف كومة نفايات صغيرة يتابع آخر أدار ظهره وغادر بتثاقل.. أدرت المحرك لأنطلق ببطء وسط حنق أبواق سيارات السائقين المنتظرين. إلى أين وعيناها اليائستان تملآن كل الطرقات أمامي؟! ما ان ابتعدتُ قليلاً حتى انهرتُ بالبكاء.. ما أقسى الحياة بل ما أقسى البشر.. حقاً "لو كان الفقر رجلاً لقتلته". ذلك كان قبيل المغرب.. منذ بضعة أيام وبما ان الموقف ما فتئ يتفاعل داخلي مذ ذاك، كان لا بد ان أكتب عنه كي ارتاح. شغلني بعدها بشدة هاجس عالم خالٍ من الجوع والذل، فكرت في أهمية ان يمنح كل منا ولو شيئاً يسيراً لتخفيف معاناة هؤلاء الذين يتألمون.. "ما نقص مال قط من صدقة" وبضعة سنتات قد لا تعني لكم شيئاً لكنها الحياة بالنسبة لأكثر من مليار شخص يعيشون على أقل من دولار يومياً. أدرك انه ليس حلاً شافياً لمشكلة الفقر، لكن الإمام علي كرم الله وجهه يقول: "عجبت لمن يرجو فضل من فوقه كيف يحرم من دونه"، وأبو ذر الغفاري يقول: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟"، إذاً من لا يفعل شيئا ضد الفقر من باب الرحمة فليفعله من باب الحكمة، كي يستمر توازن المجتمع ويتجنب الهزات العنيفة، أليس الفقر أبا المصائب ومفجر الثورات؟ ألا تدفع الحاجة كثيرين إلى الحقد والتمرد على مجتمع لا يؤمنون بعدالته؟. مقاومة الفقر ضرورة ملحة.. تتطلب جهود الدول والهيئات والمؤسسات، وسن القوانين التي تحرص على التوزيع العادل للثروة.. من قبل سلطة تنظر إلى الحياة من زاوية الحق والمساواة في الحق.. وهل هناك حق اهم من حق الحياة؟ الحياة – لا المال- أولاً.. صيحة من يعلن تمرده على الفقر وأسبابه. هي مسؤولية الجميع وجريمة جشع قلة لا تهتم إلا بالربح ولو فوق أشلاء غالبية مطحونة.. ولا ترى العالم إلا من زاوية تراكم المال، لا يكفي ان نعلن 17 أكتوبر أو غيره "يوماً دولياً للقضاء على الفقر"، فلنعتبر كل يوم يوم قضاء على فقر بات يستشري في كل مكان.. حتى في بلاد الأغنياء، بعض الناس لا يبصره لأن من يكابرون "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف" وبعضهم لا يشعر به لأنه يعيش في عالمه لا يدري أو ربما لا يريد ان يدري بما يجري في الطرف الآخر من المدينة، منطقة منطق الملكة ماري انطوانيت تجاه شعبها الذي لا يجد الرغيف "فليأكلوا البسكويت" ولمن لا يعرف آخرتها، فالشعب الذي لم "يأكل البسكويت" دق عنقها الجميل في ثورة ما زال صدى شعاراتها العظيمة يتردد بعد مضي أكثر من مائتي عام. أيها السادة – قبل فوات الأوان- تصدوا للفقر، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.