( 1 ) ليست ثمة أبعاد في تلك اللوحة البارزة في وجه الجدار المُبلَّل بدموع أُمٍّ جاء العيد وولدها الوحيد والقتيل يبحث عن قبر ولو في مكان قفر . هناك – ربما – بُعْدٌ واحد فقط : الوضاعة في أنْتَن تجلياتها ، أو البشاعة في أمْقَت تحولاتها . فحين يغدو الوطن لوحة جدارية على قارعة التِّيْه ، تذوب الأبعاد كلها ، وتنتفي أيّة قاعدة تُؤرِّخ لساعة الميلاد ، وأيِّ قانون يُشرِّع لحالة الموت . ان الأبعاد هي نفسها في كل الأحوال ، تجدها في الفيزياء أو تراها في الفن ، غير أنها في السياسة تغدو بؤرة الانحطاط . ( 2 ) السياسيون هم آخر ما تبقَّى من صلصال الخلق ، فبالضرورة أن يكونوا على ذلك القدر من الانحطاط . حتى غُلاة المثقفين فيهم يصبحون أحقر من كلاب الشوارع وقطط المقابر لحظة أن يضعوا مؤخراتهم الرخوة على المقاعد الاسمنتية الباردة . ان المثقف الذي يضع نفسه في موضع السياسي ، يكتب صكَّ بيعه في سوق النخاسة .. أما السياسي الذي يتمثَّل التموضع في موضع المثقف ، فهو يكذب على نفسه .. وعلينا .. وعلى الله شخصياً ! ( 3 ) لم تستطع المعارضة السياسية في هذا البلد أن تقود الجماهير يوماً.. ولا أن تُقيّد الجماهير يوماً. والسبب الرئيس في هذا المشهد يكمن في أن هذه المعارضة ابتعدت كثيراً عن الشارع الشعبي -كحال الحكم تماماً- فصار كل منهما في جزيرة نائية جداً عن الآخر. وبرغم كل الأزمات التي تحدق بالشعب، والتي بلغت في السنين القليلة المنصرمة وحتى هذه اللحظة حدّاً مرعباً للغاية، فقد انعدم مشهد الانتفاضات الشعبية (ولن أقول الثورات!) في الشارع الوطني. لماذا؟ هذا الشعب لم يكن يوماً -ولن يكون أبداً- في شُبهة من خنوع أو خضوع أو جُبن أو انكسار. وشواهد هذا الاعتقاد في التاريخ البعيد والقريب كثيرة للغاية. ولكنه اليوم مثل طاهش في قفص. وقد عدم الأداة الكفيلة بتحريره من هذا القفص. فقد انعدمت الأداة السياسية القيادية أو القدوة الوطنية الحقة، أكانت كيانات منظمة أو شخصيات كاريزمية. أما تلك الحركات -أو الحراكات- التي ظهرت هنا وهناك لبعض الوقت، فقد ابتلعها الاسفلت بسبب ضياع البوصلة، أو اقتلعها أصحاب المصالح الذاتية من داخلها. فالانتهازية السياسية والنفعية المحضة ظلت مقبرة الهبّات الشعبية في جزء كبير من مسار الحركة السياسية والثورية اليمنية. راحت المعارضة تلهث خلف الشارع، في مشهد.. وفي مشهد آخر، تحاول ركوب موجة الفعل الثوري المتميز الذي صنعه وزاوله الشارع الشعبي بقيادة عفوية نقية من لدن شباب متحمس ونزيه. وكانت النتيجة تحطم كريستال النقاء الثوري على صخرة المعارضة الانتهازية. وفي هذا البروفايل بالذات كان بعض رموز "المعارضة" -في الأصل- جزءاً حميماً من نظام الحكم الفاسد والغاشم، قررت في لحظة شيطانية تغيير لبوسها ليتواءم مع ديكور اللحظة الثورية! ( 4 ) عانى هذا الشعب طويلاً من كونه وقوداً للصراع بشقّيه: الاجتماعي والسياسي. راح يحترق كثيراً -وما يزال- حتى بات رماداً، فيما راحت أقطاب المعارضة الانتهازية تنعم بالضياء الناجم عن ذلك الاحتراق والسماد الناتج عن ذاك الرماد! ولست أجد فظاظة ولا غضاضة في أن يرفض التيار الأعظم من الجمهور الصاق هويته بالمعارضة القائمة، بل نجده يضع بيض السلطة والمعارضة في سلة واحدة. وهو محق في ذلك، لأن بيض المعارضة -في أحيان كثيرة- ليس أقل فساداً من بيض السلطة. وهو في الوقت نفسه لم يعد يجد أي نوع من القداسة أو حتى الكرامة تصبغ أي سياسي أو نخبوي في السلطة والمعارضة معاً. ( 5 ) غداً، سيتعب المتحاربون من حربهم، أو يعدمون وسائل استمرار هذه الحرب. حينها، سيقعدون معاً كتفاً إلى كتف تحت ظلال نخلة ويشرعون في اقتسام كعكة الوطن ولحمة المواطن، بعد أن باعوا شرف الوطن ورهنوا كرامة المواطن لدى حفنة من السماسرة والنخّاسين!