يكذب من يقول: إنه لم يتأثر بعواصف هذا الربيع العربي، بأي شكل، فالثقاب الذي أشعله “بوعزيزي” أشعل العالم، وتلك الشعلة الخلاقة على جسده، لسعت كل قلب، واندلعت في كل بيت وبلد عربي، من المحيط إلى الخليج، حتى في براميل النفط تلك التي راهنت في السيطرة على حرائق الثورة، بإبعادها عن خيمها، وإشعالها في بيوت الآخرين..!! المقابر وحدها لا تعرف الثورة، قبل الثورة كانت هذه المنطقة المعتمة من العالم، منطقتنا، مجرد مقبرة مترامية الأطراف، غابة متخمة ببشر لم يتأنسنوا بعد..!! حشود عدمية في “صحراء بلا أبعاد” ، حتى أشعل “بوعزيزي” عود ثقابه؛ فانفجرت ينابيع الحرية من كل قلب وباب ونافذة .. شعب ثائر .. شعب يستحق الحياة بجدارة. كلام إنشائي.. مجرد كلام إنشائي.. بإمكان أيّ انتهازي أن يمتطي بمثله موجة هذا الغليان الثوري، فيشبّه ما حدث بأعظم ما شهده التاريخ البشري من تحولات حضارية نبيلة.. أنهت كل الآلام، وحققت كل الآمال، ويضيف: إنها نهاية التاريخ بالنسبة لرقي الحياة البشرية.. فيطرب الحالمين، ويصبح قديساً.. وفي الحقيقة ففي مثل هذه الفترات المشبوبة بعواطف الجماهير يجد المثقف أو السياسي نفسه مجبراً على أن يبدو إما ملاكاً يخدّر بالمداهنة، أو شيطاناً يجرح بالحقيقة، وبالنسبة لي أفضّل أن أكون هذا الأخير، على أن أمارس دور الأقراص المنوّمة ولفافات الحشيش..! بناءً على ذلك يجب إعادة النظر في كل ما قيل ومورس تحت ما سمي بثورات الربيع العربي، وفحص تلك الظواهر والقيم التي أصبحت بفعل عوامل كثيرة من البديهيات والمسلمات الثورية، بدءاً بالسؤال عن معنى الثورة نفسها، ما هي الثورة، وما هي قيمها وشروطها، وهل ما حدث ويحدث ثورة، وما هو الاختلاف أو الفرق الجوهري الذي نميّز به بين النظامين القديم والجديد الثوري، وما انعكاسات الثورة على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية.. وحياة الفرد والمجتمع..؟! الثورة غاية نبيلة ووسيلة شريفة، تنبني على قيم الوعي والحرية والحداثة، كمقومات واشتراطات حتمية، فثورة بلا وعي هيجان قطيع، وثورة بلا حرية مجرد تداول عبثي للاستبداد، وثورة تخلو منطلقاتها وتوجهاتها من الحداثة، هي ردة كارثية هدامة. إن الثورة تحول تقدمي عميق على مختلف جوانب ومستويات المنظومة الحاكمة، وهي بهذا المفهوم والاشتراطات والأبعاد مفردة غربية حديثة، لا علاقة لها بما يجري في حاضرنا الثوري، كما لم يتضمنها تراثنا السياسي واللغوي الذي يحمل للثورة والثوار معانيَ سيئة سلبية تربطهما بالطيش والاندفاع الغاضب وهياج الرعاع والعامة والجماعات الإرهابية المتطرفة، فيرد لفظ الثورة والثوار - أول ما يرد - في سياق الحديث عن قتلة الخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب.. وهناك أحاديث طويلة عن ثورة الخوارج وثورة الزنوج وثورة القرامطة .. والحقيقة المؤلمة أننا أمة لا تعرف الثورة بمعناها واشتراطاتها الحديثة، بقدر ثراء ذاكرتها القريبة والبعيدة بهياج الجماهير والانقلابات والردات الكارثيّة..! الثورة نزوة جماعية همجية ملعونة في تراثنا العربي، وهي ذكريات مريرة، أما في حاضرنا الثوري فتنثال الأسئلة الأكثر مرارة: هل قامت الثورة من أجل الحداثة والتقدم..؟! وبعض الأيديولوجيات الحاكمة أكثر حداثة وتقدمية من تلك الأيديولوجيات المقترحة البديلة..!!، هل خرجت من أجل الحرية،..؟! والحرية في واقع الأنظمة المستبدة، أرحب وأعمق مما هي في أجندات تيارات ورموز الثورة..! هل خرجت من أجل العدالة أو الكرامة أو المساواة ..؟! وبعض البدائل الثورية كوابيس استبدادية لم تخطر حتى في أحلام الطغاة.. ! ثمّ.. هل رفعت الثورة ذائقة الفن، أو وفرت فضاءً مناسباً للحب، هل أعلت من شأن الجمال، أو العلم أو الأخلاق أو الشرف..!؟ وهذه القيم لا قيمة لها في وعي الثورة، ولا ممارساتها..، ولا مكان لها في أدبياتها واستراتيجياتها الثورية، هل خرجت من أجل حقوق الطفل أو المرأة.. والثورة كالنظام استغلت الطفولة ببشاعة، فزجت بالأطفال في المسيرات الخطرة، وسلّحتهم في الخنادق الثورية، وتاجرت ببراءتهم في وسائل الإعلام.. فيما اعتبرت خروج المرأة في المليونيات الثائرة خلوة محرمة، وفصلت المرأة الثائرة عن رفيقها الرجل بجدار لم تفكر حتى أبلد الشموليات على اقتراحه.. !! وقبل كل شيء وبعده، هل صارت الحياة أفضل، والأحلام أقرب للتحقق، أم صار التغيير أصعب، والثورة شبه مستحيلة على الأنظمة التي تحكم هذه المرة باسم الثورة ؟! أليس من المفارقة أن نشعر بالخوف في انتقاد الثوار أكثر مما كنا نشعر به في انتقاد الأنظمة الفاسدة..!! ما أقسى أن يكون سيف الحرية أكثر رعباً وهمجية من كل سيوف الجلادين..!! إن أكبر ثغرة في الثورات العربية الحالية والسابقة أنها اختزلت كل أزماتنا وإعاقاتنا وأسباب تعثرنا وتخلفنا في الجانب السياسي، وهذا الجانب في أسوأ أحواله مجرد عائق ليس الأول ولا الأخير في أزمتنا الحضارية المربكة والمركبة من عوائق وإعاقات سياسية وثقافية واجتماعية وفكرية.. وكانت نتائج هذا الاختزال فادحة في الفكر الثوري العربي، حيث عملت على تسطيح الرؤية الثورية، والفعل الثوري، وربطهما بالعواطف والانفعالات والأفكار التقليدية .. التي هي أساساً ضد الثورة وهدف التغيير.. ! وكاستحواذ سرطاني تغوّل الجانب السياسي على حساب جوانب الحياة الأخرى، كالثقافة والفكر والأدب والفن.. لصالح الانهماك في الفعل السياسي دون رؤية متكاملة، والاستغراق في الشأن السياسي دون تفكير عميق.. يشبه الأمر أن تتخلى عن ذاتك وشخصيتك وكل قدراتك.. لتتحرك على إيقاع الشارع المتوتر الهائج، أن تتبنى - في ظل هذا التسطيح والاستلاب – قضايا، وتهاجم قضايا.. لا تتعلق في الحالتين بقضية الثورة أو التغيير، أن تتخذ مواقف لا علاقة لها بقيمك ومبادئك، أن تؤمن دون رؤية، وتكفر دون فكر .. والسيئ في الأمر أن لا يعرف الثائر ما هي قضيته..! ولماذا هو مستعد للتضحية حتى بروحه، وبكل نقاء ونبل.!! وما هي طبيعة المستقبل الذي ينشده للآخرين بعد رحيله ورحيل النظام الذي استشهد من أجل رحيله.. !! والأسوأ أن: (تعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان)، وتكتشف بعد رحيل النظام أنك كنت مغفلاً كبيراً بقدر بشاعة الذين استغلوا حماستك، ونبل مقاصدك، دون وازع من شرف أو ضمير..!! إن الثورة أبعد ما تكون من كل هذا الانفعال والصراخ والهيجان والسعار المحموم.. هذه العواطف المشبوبة الضارية ليست من خصائص الثورة، بل من خصائص الأدغال، إن الانتحار الغبي يختلف عن الشهادة الرشيدة.. وأؤكد هنا أن أكبر التحديات التي تقف وستقف بوجه الثورة ليست هي الأنظمة والمستبدين، بقدر ما تتمثل في الحماس الأعمى، والبراءة الساذجة.. والعواطف المتأججة التي ترفع عالياً قابلية الثورة للاستغلال والمسخ والتوجيه الانتهازي والانقلابات الثورية. إن ذكاء الطغاة وقوتهم.. ليس أخطر على الثورة من غباء الثوار وغفلتهم، وهو أمر تؤكّده كل التجارب الثورية العربية السالفة التي قدمت قوافل من الشهداء، والتضحيات.. وأنتجت الأنظمة المستبدة التي اشتعلت ضدها الثورات الحالية .. لتستمر الدورة السرمدية المنهكة لسيزيف وصخرته..! إن أعدى أعداء الثورة ليس أولئك الذين يواجهونك من الأمام، بل أولئك الذين، من الخلف، يمدحون اندفاعك الغبي حياً، ويتاجرون بإصاباتك البالغة معاقاً، وجثتك المهشمة ميتاً، ليسوا أولئك الذين يقابلونك بالرصاص المطاطي أو الحي، بل أولئك الذين يصادرون حقك في أن تتساءل وتفكر وتنتقد، ويستلبون شخصيتك ورأيك، لتتحول إلى أداة طيعة ليس من حقها الاعتراض على من يديرون اللعبة ويخططون مساراتها.. (وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ) ليس من حقك معهم غير الصراخ الموجّه، أو الإعاقة أو الشهادة المثيرة للإعلام..! في ظل حماس الغفلة هذا، يمكن توقع نشوب ثورة جديدة، أو تكوّن جماعة دينية جديدة.. كلما التقى انتهازي بمجموعة من المغفلين، هم اندفاع بلا عقل، وهو عقل بلا ضمير، وفي العادة فإن المجتمعات المنهكة بالخرافة والغيبوبة متخمة بالثورات والجماعات الدينية، وفي مقابل أنها تعاني تقريباً من كل أشكال الشحة والندرة والجفاف والجدب المادي والمعرفي.. تعاني من وفرة مفرطة في عدد الأميين والعاطلين والمعطلين والثوار ورجال الدين. كما يمكن مسبقاً توقع أن طاغية أقوى وطغياناً أشرس في سبيله إلى الوجود مع كل ثورة جديدة، وتوقع أن هذا المستبد الجديد، سيطلق اسم الثورة والحرية وكبار الشهداء الذين سقطوا في سبيل نظامه على أشهر وأرحب شوارع وميادين المدن والعواصم، ففي هذه المنطقة المستبدة من العالم لا توجد مدينة عربية تخلو من شارع التحرير أو ميدان الحرية وشوارع بأسماء الرموز الثورية ..! في ظل هذه السياقات المتداخلة والمعقدة، كانت ثورات الربيع العربي، في البدء خرجت مجاميع صغيرة من الشباب اليساري إلى الميادين، تطالب في معزل عن الأحزاب والبنى التقليدية بنظام مختلف، ينتمي إلى العصر والحياة، في الواقع كانت ثورة على المعارضة والسلطة معاً، على مختلف القوى التقليدية التي تتشارك تأبيد التخلف، والتداول العبثي للقمع، كانت ثورة على اللعبة السياسية السمجة، بأطرافها وقواعدها.. ثورة على الاستبداد والثقافة العدمية التي أنتجته. كانت ثورة حقيقية سبقت أوانها، إذ إن الواقع العربي لما يزل أقل نضجاً من أن يستوعب تغييراً جذرياً شاملاً في عمق منظومته الثقافية والاجتماعية والسياسية، وكانت الطليعة الثورية التي أشعلت الثورة أقل وأضعف من أن تدير ثورة حقيقية أو تحافظ عليها، فانطلقت الحشود الهائجة تثور بطريقتها .. تهتف وتندفع وتتوتر .. وتقع كأي حشد متوتر غاضب بلا وعي .. في فخاخ أكثر اللاعبين براعة في قيادة الحشود الهائجة وإدارة الأزمات. الثورة يقِظة.. لعن الله من نوّمها.. وأيقظ كل هذه الفتن والأزمات والكوارث التي تعيشها المنطقة التي تظن أنها تدفع ضريبة الثورات.. فيما هي تدفع ضريبة تبعيتها العمياء لمراكز قواها التقليدية التي أوردتها موارد الماضي، تحت اسم التوجه إلى المستقبل. رابط المقال على الفيس بوك