كثرت وتعددت ، وتنوعت وعودهم الخُلَّبية ، ليس بصرف الراتب في زمن لن يأتي في تقديري - إلا بالمقاومة - بل ويصرخون من أن الآتي هو الأجمل، فقط الصبر على المكاره التراجيدية التي نعيشها اليوم ، وبعدها سندخل الى جنة الوعود المنتظرة ، التي تقول جميع المؤشرات السياسية ، والاقتصادية ، والمالية ، والحقائق العسكرية الجارية أن القادم على المدى المنظور هو الأسوأ ، على المستويات كافة ، في واقع غياب الرؤية السياسية وعدم وضوح الأهداف ، ولذلك فإن كل ما يقولونه ليس اكثر من تهريج، و بيع للوهم والزيف في رصيف شارع الكلام الفارغ من المعنى ، لشعورهم، بل وادراكهم أن زمن الفعل ، وإرادة الفعل لدينا ما تزال في حالة سبات ، وكمون ، وتواكل ، وانتظار، للذي يأتي، ولن يأتي . ما يزال تاريخ الاستلاب ، لإرادة الفعل لدينا وفينا، يفعل فعله في استمرار اغترابنا عن الفعل ، وعن الدفاع عن الحق . نحن حتى اللحظة لم ندخل دائرة الدفاع عن (الحق) والحقوق عامة ، حقنا بالقول والكلمة والخطاب ، بما فيه حقنا في الراتب المغيب ، وهي القضايا الأولية المصادرة ، فكيف بنا والفعل ، أو الدور السياسي / الممارسي الغائب ، بعد أن خذلنا ثورة الشباب(القوة الحية والفاعلة في المجتمع ) ولأكثر من ثلاث وأربع سنوات ، نسير على ومع تاريخ ما راكموه وقاموا به من تضحيات بالقطع ، وعدم التواصل والاتصال . كان خذلاننا لهم عظيما ، مع تثبيطنا لعزائمهم ، وعدم دعمنا السياسي لهم ووقوفنا مع تحركاتهم الفعلية ، من بداية رفضهم السياسي و العملي للانقلاب وإصرارهم في كل ساعة وحين للنزول للشارع ، وعدم تأييدنا مبادراتهم الثورية الجماهيرية الحية ، بل وتقاعسنا عن الدفاع عن تحركاتهم السياسية حين كانوا يتعرضون للضرب والاعتقال ، حتى ببيان سياسي ، و هو ما كان من الممكن ان يؤسس في حينه لفعل (ما) . لن نبكي اليوم على اللبن المسكوب ، ولكن علينا أن نرى نصف الكأس المملوء ، ونشتغل على ما هو حاصل من اختمارات ، واعتمالات ، وتململات ، وتحركات تحت الرماد .. "إن مستعظم النار من مستصغر الشرر" .. وكما اعلنها قديماً الشاعر ، الأمير الأموي / نصر بن سيار : أرى بين الرماد وميض جمر/فاحرص أن يكون لها ضرام /فإن النار بالعودين تذكي / وأن الحرب أولها الكلام . ونحن حتى الآن لانفعل ، ولانتكلم بما يوازي الفعل ويسد عجزنا فيه ، بل إننا لم نقل شيئاً حقيقياً يترجم موقفنا السياسي من الكارثة الوطنية التي صنعها وأنتجها فعلياً تحالف الانقلاب والحرب (الإمامة/والجملكية) في صورة ثورة مضادة شاملة ، ما يزال البعض يسميها "بصراع الأطراف المتحاربة" ، وذلك حقهم وخيارهم المقدر من لدينا كموقف سياسي لهم ، مع اختلافنا الجذري معه، ويبقى في حدود الاختلاف في الرأي ، وفي الموقف السياسي ، الذي لن يفسد ما بين الناس من مودة ، ويجب ألا يحمل الاختلاف في الرأي اكثر مما يحتمل .
من يتصدر المشهد السياسي ، ويرتقي منصة القيادة (الفعل) في عملية سياسية ثورية عليه أن يدفع ثمن خياره ، إن لم يكن فعلاً ملموساً ، فعلى الأقل قولاً موازياً للفعل، ومكملاً له ، وهذا أضعف الإيمان ، عملا بحديث رسولنا العظيم "ص".
فالمواقع ، والمراكز القيادية ، في الأحزاب السياسية الثورية ، ليست للمنجهة ، ولا للنجومية الإعلامية ، ولاهي مراكز تشريفية ، إنما هي تكليف صعب ، والقبول بها تحدٍّ للدخول إلى الأصعب ، ومن لديهم غالباً حساسية /اخلاقية ، وإحساس عالٍ بالمسؤولية ، هم من يرفضون هذه المواقع ليس خوفاً من تبعاتها ، ولكنهم يتهيبون من عدم القدرة على الإنجاز فيها كما يجب ، خاصة في الاحزاب التي تزعم أنها تنتمي إلى صف المعارضة ، لأنه يدرك أن المطلوب منه قيمة إضافية ، أخلاقية قبل السياسية ، موقع ومركز للإنتاج المثمر الخلاق له تبعاته خاصة وأنه يضعك في مواجهة مع المستبدين والفاسدين والطغاة . ولا أعتقد أن اليمن واليمنيين شهدوا في كل تاريخهم القديم والوسيط ، وحتى المعاصر ، ما هو أبشع وأسوأ مما يحيون فيه هذه الأيام .. لقد بلغ جنون الطغيان أقسى درجات العنف ، والوحشية والعبث بكل شيء، لم تختطف فيه الدولة ، ومؤسساتها ، وتنهب أموال الشعب قطرة ، قطرة ، بل وتغتصب فيه أرواحهم ، وما تبقى من قوت يومهم (رواتبهم) ، دون ذرة إحساس ولسان حالهم يقول:- لا نبالي-ومن هنا أهمية ، وقيمة الموقع في الحزب الثوري ، وما نقوله ليس دعوة للمواجهة الانتحارية ، ولا هو تحريض للقفز على حقائق الواقع على الأرض ، بل هو التأكيد على روح المسؤولية بما يستدعيه ويتطلبه الموقف ، وليس هروباً من المهام السياسية المباشرة ، وتثبيطاً للعزائم . ما تزال لدينا قدرة استنهاض إرادة الفعل للإصلاح والتغيير ، والواقع يشي ويدلل بأكثر من مؤشر على ما يشير ويؤكد على هذا المعنى . فقط نستنهض قوانا جميعاً ، ونتحرك باتجاه وحدتنا ، ووحدة إرادة الفعل فينا جميعاً ، بعيداً عن المكايدات الصغيرة واللعب الكلامية الصبيانية ( ردات الفعل التي تعكس عدم رغبة كامنة للفعل) وسيكون لدينا من إرادة الفعل الكثير للتغيير .. يكفي أن نتحسس مكامن القوة فينا ، بوحدتنا مع قوانا الحية الشابة في جميع منظمات أحزابنا ، ومنظمات المجتمع المدني الحية ، وجميع أصحاب المصلحة في الإصلاح والتغيير ، بعد إهمالنا للقضية التنظيمية طويلاً (خاصة في حزبنا الاشتراكي ) وهو ما يجب علينا استنهاضه في داخلنا ، وفي أحزابنا ، لتعود الحياة الحزبية ، والسياسية ، إلى طبيعتها السوية . فقط لنبدأ التفكير بخطوات عملية بهذا الاتجاه معاً ، وجميعاً (مكونات سياسية ونقابات واتحادات ومنظمات مجتمع مدني وشباب ثورة) لأن ما نشهده هو تشتت ، وارتباك العامل الذاتي فينا ، وتضخم الأنا ، والذاتية المريضة ، آفة الانتلجنسيا في طور انحدارها ، وليس في قمة صعودها العظيم .. وهذه واحدة من أمراضنا المزمنة التي لم نساعد أنفسنا على تجاوزها والتخلص منها ، لأن البعض منا ما يزال متحوصلاً ومتشرنقاً حول ملكوت اسمه ، وذاته ، وتلكم هي واحدة من مشاكلنا الذاتية المستعصية ، إلى جانب ظاهرة الانتهازية السياسية والوصولية الرخيصة كمظهر ونموذج للانهيارات الاخلاقية الكبرى ، التي تتضخم أكثر في المراحل الانتقالية ، والاستثنائية والتي تجعل من الانتهازية والوصولية ملمحاً بارزاً في الحياة السياسية والحزبية : خطوة مع الحزب ، وعشرة إلى المصرف المالي ، عبر السلطة الفاسدة أياً كان مسماها ، ثيوقراطية أو أوتوقراطية "سنية /شيعة" على طريق تعمير بنيان الذات السياسية الانتهازية . وفي تقديري أننا لن نتمكن من مواجهة المستبدين ، والطغاة الفاسدين ، ونحن محشورون ، ومدججون ، بالإنتهازية ، والانتهازيين والوصوليين ، مرتزقة السياسة ، للقفز للأعلى ، الذين تدربوا وتربوا عليها نفسياً ، وسلوكياً ، عبر تنقلاتهم بين المراتب الوصولية و في مواخير السياسة العفنة العديدة . فالفساد والفاسدون ، لن يواجهوا سوى بقيم مضادة : قيم النزاهة ، والأخلاق الرفيعة ، والتضحية ، دون مقابل والترفع على الصغائر .. ما لم ، فسيبقى الفارق بيننا وبين احزاب ، وجماعات الفساد ، والفاشية الدينية فارقاً ، في الدرجة ، والشكل ، وليس في الطبيعة ، والجوهر . في زمن الانحطاطات والانهيارت القيمية و الوطنية الكبرى ، زمن السقوط للمبادئ والقيم ، ستجد صورة الانتهازي متربعة على عرش "النجومية" الإعلامية والإعلانية ، في شكل "فهلوي" يغتال كل ما هو جميل من حوله ، وحيثما يكون الفساد والجريمة والقتل يكون الانتهازي . إن الاستبداد والفساد والطغيان جميعهم تلاميذ صغار للانتهازية السياسية ، ومنتجات عملية لها في واقع الممارسة ، فالانتهازي هو المنتج الأعظم للشرور المدمرة للسياسة ، وللأخلاق ، والأحزاب ، والدول . فالسلطان الطاغية دائماً وأبداً يحتاج للقلم الانتهازي ، وللسيف ليقتل به شعبه تنفيذاً لوصايا الانتهازي ، وأحياناً قد يستخدم الطاغية السوط ليؤدب الانتهازي حين تقصر وصاياه عن تحقيق المراد . فالقبيلة في حالة وهنها وضعفها تحتاج للانتهازي من داخلها ومن خارجها ، والقضاء لا تفسده سوى وسوسه انتهازية القاضي ، فغاية العمران ، والحضارة هو الازدهار ، والنماء والترف "الرفاهية الانسانية" ولا يفسدها ويقودها للفوضى والانهيار سوى العقل السياسي الانتهازي ، فالانتهازية هي المعادل الموضوعي لخراب النفوس ودمار الاحزاب ، خراب العمران والدول والحضارات .
إن بداية سقوط الأحزاب ، والدول تقف خلفها ثلة من المرتزقة والوصوليين الانتهازيين ، ولا تزدهر وتنتعش الانتهازية إلا في مراحل ضعف الضمير الاخلاقي في المعمار الانساني ، فالانتهازي بطبعه عدو للنظام وللقانون ولفكرة العدل والحق ، ولذلك يتناقض حضوره مع وجود القضاء العادل . فالانتهازي مهزوم أخلاقياً وإنسانياً من الداخل ، وبحضوره الكثيف في أي مكان يكون تدهور الثقافة والقيم والحضارة .. فهل قرأت أو سمعت عن انتهازي يدافع عن قضية الأخلاق أو الراتب ويقف ضد الفساد والاستبداد ؟ في تقديري أن "لا" هي الاجابة الوحيدة التي تقدمها لنا الخبرة السياسية والتاريخية والإنسانية . ويختصر ويلخص كل ذلك عالم الاجتماع العربي إبن خلدون في متن كتابه المشهور ب"المقدمة" من أن العمران والدول والحضارات تنهار بموت الضمير السياسي والثقافي وحينها يكثر الأفاقون ، والأفاكون والمنجمون (...) ، وتعم الاشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوش الفكر" . إن الانتهازية اليوم تجملها وتستغرقها عبارة الامبراطور الروماني قبل مقتله بيد رفيق عمره القائلة : " حتى أنت يابروتس" ، فالانتهازي موطنه هي مصلحته وحيث تكون يكون . والانتهازية حالة وظاهرة عابرة للسياسة والافكار والأحزاب والدول . وهي موجود في قلب خراب المكونات السياسية وفي شرعنة الأمر الواقع ، وهي لا تجرؤ على قول كلمة سياسية نقدية واحدة حول قضية الراتب ، فما بالكم بما يقع فوق سقف الراتب من كلام يجب أن يقال. نحن إذاً اليوم أمام ثلاثية قاتلة قد يبدو أن لا جامع بينها ، على أن فترات الانحطاط الاستثنائية التي نعيشها كاشفة وفاضحة لما يوحد ويجمع فيما بينها سلباً ، وبما لا يخدم وحدة وقوة المكونات الحزبية، وتماسك بنيان الدولة والمجتمع ، وبالنتيجة شرعنة أو على الأقل الصمت على مصادرة حق حصول ملايين الناس على رواتبهم ، حصولهم على حقهم في الحياة .إنها الانتهازية حين تطوقنا وتحاصرنا وتخترق حياتنا من جميع جهات الروح. حين ندرك ونعي كل ذلك بعقل نقدي تاريخي مفتوح على المستقبل ، لن نحصل على بسيط ما تبقى من الراتب الذي لا يقيم الأود ، بل سيتحول الراتب إلى قضية سياسية ، وبوابة وطنية تقودنا للتغيير ولاستعادتنا للشرط السياسي الغائب والمصادر في جب سلطة العصبية والتغلب بالشوكة والجند "المجاهدين " متجاوزين حالة خوفنا وشلل قدرتنا على مواجهة العفن السائد ، باسمه ، وصفاته ، كعنوان للكارثة السياسية والوطنية التي نعيشها بعيداً عن خلط أوراق الذاتي بالموضوعي ، ومكر المكايدات الذاتية الصغيرة ، بالارتفاع إلى قمة هرم المسؤوليات الوطنية الكبرى الملقاة على عاتقنا جميعاً ، من قمة هرم المسؤولية ، إلى أدنى مستوياتها . وحين أتحدث عن العفن السائد ، فإنني أقصد وأعني الحالة السياسية اليمنية القائمة ، في الشمال والجنوب ، كليهما تعبير عن أزمة وطنية شاملة تعيشها البلاد ، بدرجات ومستويات مختلفة .. ومن هنا البداية بتخليص وتنظيف المكونات السياسية من الظاهرة الانتهازية الملتصقة بها ، كشرط للفعل نحو التغيير برؤية سياسية ،وبرنامجيه واضحة للمستقبل .