عندما اشتعلت شرارة الحركات الاحتجاجية الثورية في العالم العربي، كانت مطالبها ناصعة جلية بالتخلص من الاستبداد والقهر والفقر، وتحقيق الكرامة والعدالة والحرية، وذلك عبر التخلص من أبنية الدولة الاستبدادية العميقة وآلتها القمعية العسكرية البوليسية الأمنية، واكسسواراتها الأيديولوجية: السياسية، والقانونية، والإعلامية، والدينية، فقد تبنت الأنظمة العربية عقب أفول الحقبة الكولينيالية ديانة رسمية تقوم على "أخلاقيات الطاعة" لأولياء الأمور مستعارة من الفقه السلطاني، وبهذا عمدت إلى استدخال نمط من التدين الصوفي أو السلفي بصيغته الطقوسية المسالمة في أجهزتها الأيديولوجية، وعملت على دعمها وإسنادها ومأسستها؛ وذلك لتوظيفها في مواجهة حركات الإسلام السياسي والحركي الصاعدة ولتثبيت شرعيتها. كانت مواقف المؤسسة الدينية الرسمية من الحركات الاحتجاجية منسجمة مع وظائفها التقليدية؛ إذ إنها سارعت إلى استنكار الحركات الاحتجاجية، وقاربت فعل "الثورة" ضد "الحكام المستبدين"، بمفهوم "الخروج" عن طاعة "ولي الأمر"، واستخدمت مفهوم "الفتنة" الإسلامي التاريخي للترويج لمفهوم "الاستقرار" السياسي الحداثي، لكن المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت فاعلة منذ استدخالها رسميًا فقدت هيبتها وشرعيتها مع فقدان الدولة العربية السلطوية لشرعيتها ومشروعيتها، فكما أن الدولة استنفدت أرصدتها جماهيريًا، استهلكت الديانة الرسمية أرصدتها الشعبية. إن مسار تطور الدين في المجتمعات العربية لا يتطابق مع مساراته في المجتمعات الغربية، كما أن مسارات تشكل الدولة مختلفة تمامًا؛ فالظاهرة الدينية في الغرب المسيحي تنطوي على ما أطلق عليه مارسيل غوشيه "دين الخروج من الدين"، إذ لم يعد مكونًا بنيويًا في الدولة والمجتمع، وهو في أحسن حالاته متخيل إسقاطي كما تناوله فيورباخ، أو هو محاولة استيهامية للخروج من دائرة الحياة عبر خلق "وهم ميتافيزيقي"، بحسب فريدريك نيتشه ثم فرويد، أو هو مكون أيديولوجي ذو بعد تخديري أو احتجاجي أو تعبير عن حالة استلابية إنسانية عامة، كما قال كارل ماركس. لا شك أن موقع الدين في الحالة الغربية الحديثة حددتهة فلسفة الأنوار التي قامت على أساس تحرير العقل الإنساني من هيمنة التقليد وسيطرة رجال الدين، إذ تطور الدين في المجتمعات الغربية جاء عقب صراعات عنيفة، أدت إلى حدوث قطائع نظرية وعملية عميقة، أفضت إلى تحجيم دور الدين وحضوره في المجال العام، وتنحيته عن توجيه الحياة السياسية، وفقدانه لتأسيس المشروعية السياسية، أما في المجتمعات العربية الإسلامية فقد كان الدين منسجمًا ومندمجًا، على الرغم من بعض الصراعات المحدودة، والتي كانت تدور داخل التصور الديني السائد حسب تأويلاته وقواه وتوجهاته المختلفة، دون حدوث قطائع وفظائع، إذ لم تحدث القطيعة إلا بسبب عنف "الصدمة الاستعمارية"، التي عمدت إلى فرض منظوماتها وتصوراتها بالقوة المسلحة، فالبنى الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات العربية بقيت منسجمة مع التصورات الدينية الإسلامية المتوارثة والسائدة، ولم تسفر التطورات التاريخية الذاتية والموضوعية عن ضرورات داخلية للفصل بين المجالين الديني والسياسي، بل حافظ الدين على كونه مصدرًا للمشروعية السياسية وأساسًا للبنية الثقافية ومؤسسًا للهوية الجمعية، كما شكل الدين الإسلامي النواة الصلبة لكل مشاريع المقاومة والتصدي للحملة الكولينيالية، الأمر الذي دفع الأنظمة مابعد الكولينيالية العربية الانقلابية التي تبنت الأساس الأيديولوجي الحداثي السياسي إلى استدخال الدين في منظوماتها الحاكمة. على الرغم من صدمة "العنف الاستعماري"، الذي عمل على خلخلة موقع الدين وحضوره في أبنية الدولة والمجتمع في العالم العربي، إلا أن الدين لم يفقد حضوره في المجال العام بل كان الأيديولوجية الأساسية في مقاومة الاستعمار وتحقيق الاستقلال والتحرير، الأمر الذي جعل من مقولة "دين الدولة" نصًا دستوريًا ثابتًا في العالم العربي منذ بداية الحقبة الاستعمارية، الأمر الذي أقرته الدولة الوطنية العربية الناشئة، بحيث خصصت للدين مادة دستورية مستقلة تنص على الدين الرسمي للدولة بصيغة "دين الدولة الإسلام"، أو بصيغة مخففة مقاربة، الأمر الذي يشير إلى الإقرار بتلازم السلطة/الدين في العالم العربي، على نقيض التجربة الأوروبية التي شهدت قطع العلاقة بين المجالين، تحت وقع وتأثير ثلاثة عوامل حداثية رئيسة متزامنة؛ وهي: نشوء الرأسمالية، وبدء الإصلاح الديني، وتبلور فكر النهضة. إن وتيرة تطور موقع الدين في المجتمعات العربية يختلف عن وتائر تطوره في المجتمعات الأوروبية، الأمر الذي دفع جملة من السوسيولوجيين والفلاسفة إلى مراجعة فرضيتهم الكبرى حول تطور الظاهرة الدينية في العصر الحديث، والتي تستند إلى القول بأن آلية العقلنة الشاملة التي تعتبر الآلية الأساسية للتحديث في المجتمعات الغربية تقود حتمًا إلى تفتيت المقدس وافتقاده لدوره وإشعاعه بشكل تدريجي، الأمر الذي ينقض مفهوم "عودة المكبوت الديني"، وخصوصًا في الحالة العربية؛ إذ إن الدين في المجتمعات العربية لم يدخل في حيز الغياب حتى يسجل حضورًا، فقد كان فاعلًا في تحديد دوافع الفاعلين أحيانًا، وكامنًا أحيانًا أخرى. الأزمة التي يعاني منها "الإسلام الرسمي" اليوم، هي نتيجة تراكمية لأزمة الدولة العربية المابعد كولينيالية السلطوية الحديثة، التي قامت أيديولوجية علمانية ملتبسة وغير ناجزة ومفروضة، ففي حين يميز علم اجتماع الأديان بين "اللائكية" كسياسة رسمية لجهاز الدولة، كالحالة الفرنسية، وبين "سيكولاريزيم" باعتباره سيرورة اجتماعية يفقد من خلالها الدين فاعليته الاجتماعية وطابعه الكلياني كما في التقاليد الأنجلوسكسونية، لم تحسم الدولة الوطنية وإسلامها الرسمي خياراتها الأيديولوجية، فقد أدى نشوء ظاهرة "الإسلام الرسمي"، الذي بات "دين الدولة"، إلى بروز نتائج سلبية وخيمة على الإسلام نفسه، حيث نشأ معه "الإسلام السياسي" المعارض لإسلام الدولة، والذي أسفرت تحولاته عن تقليد مسارات الدولة الحديثة وبات برنامجه يقتصر على موضوعة الحكم والسلطة، الأمر الذي أفقد الدين تكامليته وشموله، في سياق التنافس مع على تمثيل الدين، الذي عملت الدولة العربية الحديثة على استغلاله لتحقيق أهدافها السياسية، وحوّلته إلى أداة طيعة بيد أجهزة الحكم لإضفاء المشروعية السياسية، وسلاح لمحاربة المعارضين لها باسم الدين نفسه. لم تكن الأزمة التي يعاني منها الإسلام الرسمي والسياسي اليوم وليدة اللحظة الثورية الراهنة، وإنما كانت كامنة منذ تأسيس الدولة العربية المابعد كولينالية، والتي كلما انحدرت في الزمان زاد تناقضها وتفاقمت إشكالياتها مع تنامي نزعتها السلطوية الشمولية، فقد عملت على احتكار السلطتين السياسية والدينية على نسق الأيديولوجيات التوتاليتارية الحديثة، وخلافًا للنسق التاريخي الإسلامي الذي كان يميّز بين سلطة سياسية مرجعيتها دينية، يمثل العلماء فيها سلطة مرجعية مستقلة حاكمة للدولة والمجتمع، أما حالة الإسلام الرسمي كمؤسسة أيديولوجية للدولة العربية عبر مسميات "وزارات الدين" فهي تقوم بدور "الكنيسة" التي تحتكر حق الاجتهاد والتفسير والتأويل، وتفرض على المجتمع تصورًا دينيًا محددًا تعتبر مخالفته جرمًا يعاقب عليه قانون الدولة ويستوجب العقاب باعتباره تمردًا وخروجًا عن الدولة ذاتها؛ لترسيخ فعالية المؤسسات الأيديولوجية للنظام كأداة للهيمنة، بحسب تعبير ميشيل فوكو. لا جدال بأن الأزمة التي يعانيها الإسلام الرسمي والسياسي في العالم العربي لها أبعاد تاريخية وفلسفية عميقة تتعلق بمسألة الديني والسياسي، إلا أن الجدل المعاصر بحسب طه عبد الرحمن كان يدور بين فريقين أساسيين، الفريق الداعي إلى الربط بين المجالين وهم "الإسلاميون"، والفريق الداعي إلى الفصل وهم "العلمانيون"، وهو جدل سياسي في أصل المسألة؛ فالفريق الأول يريد استثمار الدين في السياسة، والثاني يريد استثمار السياسة بغير دين، الأمر الذي جعل الإسلاميين يضيقون الدين في حدود السلطة والحكم، وجعل العلمانيين ينظرون إليه باعتباره أداة للسلطة والحكم، فبحسب مقاربة طه عبد الرحمن فإن "روح الدين" تأتي ك"ذكر لما نسيه "العلماني" وعروج إلى ما قعد عنه "الدياني"، فدعاة الربط بين الدين والسياسة قصروا الدين على السلطة والحكم، ما استدعى نوعًا من العروج أي الارتفاع إلى أبعد من هذا الجانب نحو شمولية الدين، وأن دعاة الفصل بينهما أنكروا الدين نفسه علاوة على أنهم رأوا فيه أداة للحكم والسلطة فقط، ما استدعى تذكيرهم بأن الدين موجود في كل شيء، وأن الإنكار في حد ذاته دين. خلاصة القول، إن الإسلام الرسمي الذي استدخلته الدولة المابعد كولينيالية العربية في أجهزتها الأيديولوجية لإضفاء المشروعية على نظامها الحاكم، واحتكار تفسير وتأويل الدين في مواجهة الإسلام السياسي، لم يعد قادرًا على الصمود أمام التحديات، ويفتقر إلى القدرة على إقناع الجماهير الغاضبة بالالتزام بأخلاقيات الطاعة لولاة الأمر المستبدين، وهو عاجز عن تحقيق مطالب الاستقرار باستدعاء مقولات الفتنة، فقد أثبتت الحراكات الاحتجاجية الثورية العربية بؤس المؤسسة الدينية الرسمية وترهلها وضعفها، وعدم قدرتها على تلبية الحدود الدنيا للمطالب الشعبية، فقد تحولت شيئًا فشيئًا إلى ما يشبه "الكنيسة" في المجتمعات الأوروبية، وهي بلا شك على وشك الأفول والزوال.