يعيش اليمن مرحلة فى غاية الخطر. واخطر ما فى المرحلة ليس الظاهر من صراعات ولا الجارى من احداث ،بل ما ليس منظورا بالعين مباشرة،ففى الملخص العام للحالة والوضعية التى تعيشها البلاد ،يظهر ان لا قوة من اى نوع موجودة الان،قادرة -من داخل اجهزة الدولة او من داخل المجتمع- على حكم اليمن او حشد طاقاته لاستمراره كدولة ومجتمع،وذاك هو المعنى الحقيقى الشامل والحالة النموذجية للفراغ الاستراتيجى . لقد جرت عملية مبرمجة مخططة لتشتيت اليمنيين وتقسيمهم وادخالهم فى مرحلة لا يقين بينهم وبعضهم البعض –ولا حتى وشائج علاقات معقولة -كما انتهت الدولة بكافة مؤسساتها الى حالة الانفراط –اظهرتها بجلاء استقالة الرئيس ورئيس واعضاء الوزارة-وهو ما يدخل اليمن فى مرحلة الخيارات المصيرية ،فاما الانقسام والتفتت واما اندلاع حرب اهلية متطاولة ،واما ظهور قوة من خارج دورة الخلافات والصراعات الجارية لتسيطر وتحقق امكانية استمرار اليمن وتطرح المصالح العليا للوطن بديلا عن المصالح الطائفية او الجهوية ..الخ. وتلك هى الحالة التى عاشتها افغانستان حين تنازع فيها الثوار الذين قاتلوا الاحتلال الروسى متوحدين مجاهدين وتحولوا من بعد الى متقاتلين لا يجمع بينهم الا رغبة كل منهم فى السيطرة على الحكم ،وظل الحال متواصلا متطاولا حتى انطلقت حركة "مجهولة" شكلها طلاب المدارس الدينية واقصوا الجميع وسيطروا على البلاد واداروها . وهو ذات المشهد الذى تكرر فى الصومال الذى عاش مقسما ومشتتا ومتقاتلا وبلا دولة لفترة طويلة ،ولم يغير معادلاته ويعيد انتاج حالة ووضع جديد ،الا ظهور حركة المحاكم الاسلامية التى ظهرت بغتة وقامت باقصاء جميع الاطراف القبلية والجهوية وامراء الحرب واعادت توحيد البلاد . ولم تكن مصادفة ان شهدت الحالتين من بعد تدخلا خارجيا وعدوانا عسكريا ،استهدف اقصاء الحركتين (طالبان والمحاكم الاسلامية) من الحكم واعادة البلاد الى دورة الفوضى والاقتتال مجددا. وضع اليمن الان فى غاية الخطر .فاليمن يعيش حالة انقلاب طائفى بالقوة المسلحة ،معلوم ان القائمين عليه لا يستطيعوا وحدهم حكم البلاد او السيطرة عليها ،ليس فقط لانهم اقلية او لانهم يد لوصاية واحتلال خارجى (ايرانى) بل ايضا لان المجتمع والقوى الاخرى لن تسمح لهم –قصر الوقت او استطال –بالاستمرار فى الحكم. واليمن يعيش الان باجهزة دولة منهارة ،والاخطر فى انهيارها ليس عدم وجود رئيس ومجلس وزراء ،بل ان من ياتى محلهم سيكون فاقدا للشرعية ،ويطرح وجود غيرهم يمكن ان يجرى تنصيبهم من قبل اطراف اخرى. والاشد خطرا هو ان انفراط مؤسسات الدولة لا يعنى ان عملية اعادة بنائها هى عملية مبسطة ترتبط بحسابات الهيكلة او اعادة تشكيل المؤسسات بالحاق افرادها او غيرهم بمهامهم فى العمل،بل هى عملية سيجرى خلالها تمايزات وانقسامات على اسس طائفية وسياسية وقبلية وجهوية ،تؤدى فى النهاية الى انحياز افراد وجماعات الى قوى مجتمعية ،بما يذكرنا بحالة انفراط الجيش اللبنانى خلال الحرب الاهلية فى لبنان. واليمن يعيش حالة توزع للسكان وعوامل القوة فى مختلف ارجائه ،بما يمنع اية قوة من السيطرة عليه واخضاع مكوناته بالقوة المسلحه ،فاذا كان ابناء الحوتى فى صعده فكيف بهم اخضاع اقليم سبا والجنوب ..الخ. فى اليمن اختلاط شديد بين الولاءات السياسية والقبلية ،فالحالة فى صعدة هى حالة طائفية لكنها قبلية ايضا ،والحال كذلك فى وضعية التجمع اليمنى للاصلاح الذى تتوافق فيه الحالة القبلية مع السياسية وربما المناطقية ايضا.وهكذا حال الجنوب الذى كان دولة مستقلة وصار جنوب من دولة ويراد له الان ان يعود دولة مستقلة عن دولة اليمن،فيما رئيس الدولة ورئيس وزراؤه ينتمون الى الجنوب . وكل ذلك هو من وفى الامور المنظورة، التى تخضع للتحليل فى علاقاتها وصراعاتها مع بعضها البعض ،فنقول هذا انقلابى وذاك متامر واخر ضعف ورابع اخذ قرار غير سليم ،وان هناك من امسك بالسلاح وقتل وهناك من ترك الساحه للباغى وهناك من وجدها فرصة لشراء مصالحه من المتجبر بقوة السلاح .وفى المشهد المنظور كذلك،القوى الاقليمية والدولية ومبعوث الاممالمتحدة ،وما يجرى الان وربما غدا . لكن كل ذلك شىء ،وخلاصة الوضع العام الذى هو رؤية عقلية لمحصلة الاوضاع ،شىء اخر .وفى الخلاصة العامة والمحصلة الكلية لمعادلات القوى والتوازنات بين القوى المتصارعه الخارجية والداخلية ،فلا قوة قادرة الان على حكم اليمن منفردة او حتى قوة قادرة على قمع كل الاطراف الاخرى والحفاظ على اليمن موحدا. وفى هذا الفراغ ،وازاء عجز تحيزات القوى السياسية والمكونات القائمة عن انتاج حل يحفظ المجتمع ويحقق المصلحه ،يعيد المجتمع انتاج من يحقق مصلحته. واذا كنا اشرنا الى نموذج طالبان افغانستان ،فليس القصد لا المسمى ولا الفكرة ولا الرؤية الفكرية ولا السياسية لحركة طالبان ،بل ظهور قوة من خارج السياقات القائمة لتسيطر على الاوضاع وتطرح حالة جديدة تخرج المجتمع والدولة من ازمة التفكك والانهيار وتطرح المصالح العليا بديلا للمصالح الضيقة هنا وهناك .