تزداد الضغوط النفسية والمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية على الأفراد وتعوقهم عن التكيف النسبي وعن التقدم في المجالات الحياتية المختلفة وتعيق رضاهم وسعادتهم في الحياة وتدفعهم إلى اليأس والاستسلام، والناس قد استسهلت الاستسلام فالإنسان يحتاج إلى مجهود لمواجهة هذه المسؤوليات الاجتماعية، وعادة ما يؤمن الناس بقبول الظروف المحيطة كما هي، ولكن هناك فرق بين أن أرضى بما قسمه الله لي وأعمل على تغييره، وبين أن أستسلم له فالاستسلام ليس رضا، والناس تخلط بين الاثنين، رغم أن الاستسلام قد يحتمل عدم الرضا. وانظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل صاحب قطيع الغنم الذي مات كله، فأخبرنا الرسول أنه كان يمكن للرجل أن يجلس ولا يفعل شيئًا، أو يأخذ مغزله ويغزل الصوف، فهذا إنسان كان غنيًا صاحب قطيع من الغنم، ثم قدر عليه الله عز وجل بأن يفنى هذا القطيع، ورضي بالقضاء والقدر، وصورة رضائه إنه أخذ الصوف وغزله.. لكن ليس من صور الرضاء بالقضاء والقدر إنه يجلس ويبكي.. والأسباب التي تدفع الإنسان إلى استسهال الاستسلام للظروف المحيطة، التي قد تؤدي به إلى أن يقع في صورة من الصور القريبة من المرض، كثيرة أهمها أن الإنسان بطبعة عادة ما يركن إلى الهدوء والسكينة، فلو جعلته ينام سوف ينام، ولو أعطيته طعام وماء ومكان يتحرك فيه من الممكن ألا يتحرك من هذا المكان، فلو ضمنت لشخص طعامًا يكفيه لمدة 60 أو 70 سنة، ومكان آمن يعيش فيه نفس المدة وهي حياته، قد لا يجد دافعًا واحدًا يخرجه من بيته، وإذا كان قانون الغاب، هو أن "القوي يأكل الضعيف" فإن ما حدث فعلاً على مدى تاريخ البشرية أن الإنسان القوي هو الذي كان يسود، والضعيف ينتهي، والإنسان الضعيف هو من استسلم لواقعه، بمعنى آخر أنه كان يعيش في كهف، ورفض أن يخرج ليستطلع من الأقوى، أما الإنسان الذي استطاع تعمير هذا الكون فهو من خرج من هذا الكهف بغير طبيعته البشرية، فاختار الجانب الأصعب وهو أن يتحرك، ومن استقر داخل الكهف هو من اختار العيش بطبيعته البشرية الراغبة في السكون، لذلك يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه القضية في توجيه ديني لكنه نفسي أيضًا، فقال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"، ماذا كان يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمن القوي والمؤمن الضعيف، لو فهمناها قوة الإيمان فهذه واحدة، ولو فهمناها القوة الجسدية فهذه اثنتين، ولو فهمناها القوة العقلية هذه ثلاثة، كل شيء في أي مجال من مجالات القوة فإن الحديث يشملها، لأنه يتكلم عن المؤمن القوي بكامل قدراته.. والمؤمن الضعيف فيه خير، ما انتفت عنه الخيرية ولكن ذلك أحب واقرب إلى الله سبحانه وتعالى لأنه متحرك، المؤمن القوي يتعبد الله سبحانه وتعالى بقبول الواقع والرضا به، وفي نفس الوقت يعلم أنه قادر على أن يحقق شيئًا، فصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا فقراء في البداية, وانتهى بهم الأمر لا يجدون من يوزعون عليه مال الزكاة، وهذه قضية مهمة جدًا، لأن الإنسان الذي يقبل هذا الأمر يشعر بالضعف، فيقبل السكون والهدوء، والتوقف، ويؤدي هذا إلى شعوره بعدم الثقة بنفسه، ومن ثم التردد في حياته، والخوف من مستقبله، والعيش في شيء من الانكسار، والانكسار فيه شبه كبير من مرض الاكتئاب، ولكنه ليس بمرض، مع أن المرض قد يؤدي إلى صورة مشابهة، إلا أنه ليس بمرض، وإنما هو عملية سلوك، وهو قبول الواقع باستسلام لدرجة أثرت على نفسه، وبالتالي أثرت على أدائه في الحياة. ولا يوجد في الحياة أسوأ من كلمة لا أعرف، لا أقدر، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تترك جانبًا نفسيًا من حياة الإنسان إلا وتعاملت معه.. فانظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى رجلا قد "طاش" في الطعام بشماله، فقال له: "كل بيمينك" فرد عليه الرجل بقوله "لا أستطيع" فقال له الرسول: "لا استطعت"، فما ارتفعت يده إلى فمه بعد ذاك، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد هنا أن يعلمنا قضية مهمة جدًا، وهي تحريم الكبر، وتحريم الأكل بالشمال، ويعطينا الحديث إشارة واضحة بأن كلمة "لا أستطيع" سواء كان مصدرها تكبر أو ضعف كلاهما خطر على حياة الإنسان، يمنعه من تحقيق المطلوب منه في الحياة. ومن متطلبات الحياة أنني أعيش حياة كريمة، فيها سهولة ويسر، وهي من متطلبات الشريعة أيضا، فبادر بالعمل على تغيير الواقع ولا تستسلم ولا تترك نفسك لليأس والإحباط.